الشارع المغاربي : يقترن يوم 19 جوان الجاري بالذّكرى السادسة والسبعين لاعتلاء المنصف باي العرش الحسيني لفترة قصيرة لم تتجاوز السنة ( 19 جوان 1942 – 14 ماي 1943) ولكن مليئة بالأحداث المُدٓوّية والمآثر الطريفة.
ولئن رسخت في الذاكرة الشعبية صورة الباي الوطني الوٓرِع الذي تحدّى المقيم العام « الأميرال بيار إستفا» (جويلية 1940 – 7 ماي 1943) مدافعا بكل جُرْأة وحزْم عن حقّ انتداب التونسيين وحضورهم في الوظيفة العمومية المُحْتٓكٓرة من قِبٓل العنصر الفرنسي ومعوّضا حكومة الوزير الأكبر الأسبق، الهادي الأخوة، لسلفه (أحمد باي1929 – 1942) بوزراء جدد، دون الحصول على موافقة المقيم العام ومساندا لمطالب الحركة الوطنية (تعاطفه مع الشاذلي خزندار ومحمود الماطري وصالح فرحات والدكتور الحبيب ثامر والحبيب بورقيبة) في فترتي حكمه القصير ثم نفيه الطويل في الصحراء الجزائرية ونقله إلى مدينة «تنس» الواقعة على الساحل الجزائري فمدينة «بو» بالجنوب الفرنسي (14 ماي 1943 – 1سبتمبر 1948)، فإن مارواه بعض الفاعلين المعاصرين لفترة حكم المنصف باي أمثال « رودلف راهن» Rudolf Rahn، السفير فوق العادة للرايخ الألماني المعين من قبل هتلر في تونس (نوفمبر 1942)، والجنرال جوان، Juin القائد العام للقوات البرية الفرنسية في شمال أفريقيا والمقيم العام بالنيابة في تونس بعد هزيمة قوات المحور(13 ماي 1943)، المسؤول على خلع الباي المحبوب والصادق الزمرلي، المترجم ومدير تشريفاته ، يعكس حتما صورة شخصية وطنية ولكن فلكلورية، لباي «محدود الإمكانيات نظرا لمرض الصمم الذي كان يرافقه وانفعاله السريع والمزاجي أثناء استقباله للديبلوماسي الألماني وفرحه الطفلي حينما شاهد الطائرة التي ستقله إلى لغواط في الجنوب الجزائري رافضا التنازل الطوعي على العرش».
فقد وصف الديبلوماسي الألماني انطباعاته إثر المقابلة التي حصلت له مع العاهل الحسيني إبان حلوله بتونس ذاكرا مايلي : « لقد استقبلنا الباي. كان رجلاً متوسط القامة ذو لحية كثيفة وشائكة ووجه غاضب. في طفولتي كنت أتصور الملك المطلق على هذه الشاكلة. ألقيت كلمة وجيزة أصررت فيها على مشاعرنا الودية – وكنت حين حديثي بالفعل غير مرتاحًا لأن وجه الباي أخذ لونًا أرجوانيًا ، وتضخّمت رقبته ، وتوقّدت عينيه ، وأصبح قبيح المشهد.
«كنت بالكاد قد أنتهيت عندما بدأ الباي بالردّ بصوته الحنجري والباح ،ناطقا بسيل من الأصوات العنيفة والمتفجرة بالعربية التي لم نفهمها ومديرا نظره وملوحا بقبضة يديه . كنا في طريق مسدود. على ما يبدو ، كان الباي بصدد الاحتجاج ضد احتلال البلاد من قبل الألمان أو باتهامنا بجميع أنواع المساوئ…
بعد ذلك قام مديرالتشريفات بالترجمة: الأصدقاء الأقوياء، السادة الأعزاء والضيوف، سحر عيني ، الخ …لم يرد أي مصطلح عدواني في كل هذا باستثناء إلتماس ورغبة في المعاملة المرفقة لشعبه… كنت أخفي بصعوبة ضحكي إزاء ترجمة هزلية كاذبة للكلمات الحارقة التي وجهها لنا مالك هذا البلد. « لقد كلفه هذا المزاج وقلبه الطيب والطفلي في النهاية خسارة العرش».
أما الجنرال « جوان» والرئيس الفرنسي، « فنسان أريول» Vincent Auriol (1947 – 1954) فقد أشارا الأول في مذكراته والثاني في يومياته إلى مسألة التكلفة الباهظة التي تدفعها الدولة الفرنسية كمعاليم جراية للباي الحاكم ومصاريف البلاط والنظر في إمكانية عدم تسديدهما كوسيلة ضغط لردع خلف المنصف الباي محمد الأمين حين يهدد بالتنازل على العرش. فقد دوّن الرئيس الفرنسي في يوميات فترة حكمه « السباعية» Journal du septennat) )، يوم الاربعاء 19 مارس 1952 ، ص. 168 – 170 ما يلي :
«تساوي تكلفة محمد الأمين باي بالنسبة لفرنسا 500 مليون من الفرنكات سنويا. وللمقارنة، كانت الجراية المخصصة لسلفه محمد المنصف إثر تنحيته وتنازله على العرش تبلغ 1800000 من الفرنكات. هذه الأرقام تكشف مدى تراجع السلطة الفرنسية في تونس». ولكن هذه المساومة لم تفلح مع المنصف باي حين امتنع عن التنازل على العرش بصفة طوعية، الشيء الذي جعل الجنرال جوان يخطط للحصول على رغبته بعرض نقل الباي على متن الطائرة التي لم يمتطئها سابقا. ولكن الباي الذي كان في حسبانه القيام بفسحة جوية لم يركن. فقرر الجنرال جوان نفيه من الغد في الأغواط بالصحراء الجزائرية حيث أجبر تحت الضغط على إمضاء وثيقة التنازل على العرش يوم 6 جويلية 1943.
المحصلة، أن المنصف باي الوطني الصادق والصامد كان يتأثر بكل من يجالسه ولم يكن محظوظا من حيث التكوين والثقافة الشيء الذي جعله عرضة لتداعيات التنافس بين الزعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف (1947 – 1948)، فبقدر ما خطط الزعيم بورقيبة بواسطة صديقه اللبناني الأمريكي «سسيل حوراني» من جهة والطالب المزاول تعليمه بفرنسا، أحمد بن صالح من جهة أخرى لتهريب المنصف باي من « بو» إلى القاهرة عن طريق سويسرا بالنسبة للأول وعن طريق إسبانيا بالنسبة للثاني، وذلك حال وصوله إلى القاهرة للإعلان عن نهاية حكم البايات وإرساء النظام الجمهوري، تمكن الزعيم صالح بن يوسف من إجهاض عملية تهريب الباي، عن طريق مندوب الحزب بفرنسا ، المناضل جلولي فارس،محافظا على الملكية الدستورية. حصل كل هذا في الخفاء في ربيع 1948. وسنتتطرق إلى حيثيات هاته المسألة بمناسبة ذكرى إعلان الجمهورية المقبل.
————–
المراجع:
– رودلف راهن (السفير فوق العادة السابق للرايخ الألماني بتونس سنة 1943): مذكرات. ديبلوماسي في الزوبعة. مترجم من الألمانية إلى الفرنسية. باريس، منشورات فرنسا – الامبراطورية، 1980، ص.247 – 273. (بالفرنسية)
– الماريشال جوان (المسؤول عن تنحية المنصف الباي ونفيه والمقيم العام السابق الفرنسي بتونس بالنيابة إثر انهزام المحور، 13 ماي 1943): الألمان يغادرون تونس في مجلة « هستوريا»، Historia عدد 258، ماي 1968، ص. 99 – 105. (بالفرنسية).
– بسيس (جوليات): حول المنصف باي والحركة المنصفية. تونس من 1942 إلى 1948 في المجلة التاريخية لما وراء البحار. Revue d’histoire d’Outre-Mer، عدد 260 – 261، 1983، ص. 97 – 131. (بالفرنسية).
– الساحلي (حمادي): العلاقات الفرنسية – التونسية من اعتلاء المنصف باي العرش الحسيني إلى إنزال قوات الحلفاء (جوان 1942 – نوفمبر 1942) (من خلال مصادر غير منشورة) في الكراسات التونسية، عدد 127 – 128، 1984، ص. 119 – 138.
(بالفرنسية).
– الشايبي (محمد لطفي) :عناصر لدراسة بعض العلاقات البٓيْعِرْقية في تونس أثناء الاحتلال الألماني الإيطالي (9 نوفمبر 1942 – 13 ماي 1943) في دراسات مهداة للمؤرخ شارل روبار آجرون. الجزء الأول، مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، 1996، ص. 133 – 172 (بالفرنسية).
– الزمرلي (الصادق): آمال وخيبات في تونس 1942 – 1943. تونس، الشركة التونسية للنشر، 1971. (بالفرنسية)