الشارع المغاربي – لا أحد ينكر الدور الريادي للمثقف التونسي أيام الاستعمار الفرنسي. فقد انخرط في الحركة الوطنية جنبا إلى جنب مع المناضلين السياسيّين، مطالبًا بالحريّة والاستقلال. فكان صوتها المدوّي وضميرها الحي. كما أسس لنهضة أدبية ذات توجه وطني خالص. لعل أفضل تجسيد لها هم “جماعة تحت السور”، وهي حركة شملت فنون الأدب والرّسم والموسيقى والصحافة. وكانت من الثراء والتفرّد ممّا أتاح لها إحداث هزّة عنيفة في الواقع الاجتماعي ما تزال آثارها متوهجة حتى يوم الناس هذا.
أما في السنوات التي تلت الاستقلال، فقد تجنّد الجميع لبناء الدولة الوليدة. فلم تُطرح القضايا المصيرية كالديمقراطية والحريات الفردية وحقوق الإنسان الخ… وهي كلها قيم لم يكن بورقيبة يعترف بها، هو الذي تشبّع بالثقافة الغربية والفرنسية منها تحديدًا. ومردّ ذلك الواقع المختلف للبلاد آنذاك، فقضايا كهذه، على أهميتها لا تعدو أن تكون ترفا فكريًّا لا حاجة للناس به.
وعندما شهدت الجامعة في الستينات من القرن الماضي ميلاد النواة الأولى للمعارضة الفكرية، اصطدمت بدكتاتورية النّظام الذي لم يتردد في قمعها والتنكيل برموزها.
أمّا في عهد بن علي، فقد تغيّر المشهد تمامًا، إذ استطاع، هو الجاهل أن يدجّن المثقفين إلاّ من رحم ربّك ويُدخلهم في طاعته صاغرين أذلاّء. وقد أفرز هذا الواقع ثلاثة أنماط من المثقفين هم: المثقف-المخبر وتتلخص مهمّته في موافاة “الجهات الرّسمية” بكل ما يدور في الساحة، فتراه مستنفرًا على الدوام، يجوب الشوارع ويغشى المقاهي صباحًا والحانات مساء ليسجّل كل شاردة وواردة فيقرأ ملامح ضحاياه، ويؤول حركاتهم وسكناتهم وتلتقط أذناه المدرّبتان أدق الأصوات حتى لو كانت همسًا.
ومن مهام المثقف–المخبر أيضا “تغطية” اللقاءات والتظاهرات الثقافية وتسجيل ما يدور فيها. كيف لا وهو العين الساهرة على أمن البلاد والعباد. وككل المخبرين فإن لهذا “المثقف” أساليبه المبتكرة للإيقاع بضحاياه، كأنْ يتذمّر من الوضع القائم أو يندّد بمستوى الخدمات المقدّمة للمواطن إلخ… وهناك فئات ثلاث من هذا الرّهط من المخبرين: المخبر الهاوي الذي يرسل تقاريره بنفسه إلى “الجهات المسؤولة” والمخبر المحترف الذي يتعامل مباشرة مع العناصر الأمنية، يجالسهم ويشاركهم موائدهم وسهراتهم، وأخيرًا المخبر العتيّ، صاحب التاريخ الطويل في العمالة وهو الأقرب إلى دوائر السلطة. وتتلخص مهمته في إرهاب الخصوم علانية إذا لزم الأمر كأن يهدّدهم بردمهم في غياهب السجون أو حرمانهم من لقمة العيش أو نفيهم من البلاد إلى غير رجعة وهو ما تعرّض له كاتب هذه السطور.
أما المثقف–البوق فهو عادة ما يكون من الكتبة والإعلاميّين. وعلى غرار زميله المثقف – المخبر تراه مستنفرًا على الدوام هو الآخر، لا يترك مناسبة، مهما كانت تافهة إلا وأقحم فيها اسم “سيادة الرّئيس” ودوره في تغيير وجه البلاد وصنعها من جديد. فإذا أصاب الناس غيث فبفضله وإذا كان الحصاد وفيرًا فبفضله وإذا ما حقق مواطن أو مجموعة من المواطنين إنجازًا فبفضل رعايته الموصولة أيضًا.
ويتجلى نفاق هذا الرّهط من المثقفين، أكثر ما يتجلّى في المناسبات الوطنية، فيختزلون ثلاثة آلاف سنة من تاريخ البلاد وحضارتها في دقائق ثم يمرّون مرور الكرام على ذكر الزعيم بورقيبة من باب رفع العتب ليكرسوا مقالاتهم وتعاليقهم الإذاعية أو التلفزية لمنجزات “التغيير المبارك وفضله على البلاد والعباد”. وكان الهدف كما خطط له منظروه إقناع الناس بكل الوسائل بأن كل الرموز التاريخية التي عرفتها هذه البلاد منذ حنبعل وصولا إلى المصلحين في العصر الحديث ما هم إلاّ إرهاصات بشرت بالتجلّي الأكبر المتمثل في صانع التغيير.
وهناك ثلاث فئات أيضا من المثقف – البوق: الصحفي الصغير ذو الطموح الكبير في التسلق والمنشط الإذاعي والتلفزي ذو الباع الطويل في كيل المديح والثناء بشكل هستيري للحفاظ على مكاسبه. وأخيرًا الموظف السامي، كأن يكون وزيرًا أو واليًا أو مديرا عاما ألخ. وقد اعتاد هؤلاء إلغاء وجودهم بملء إرادتهم ليوحوا إليك بأنهم لا شيء وأن ما يقومون به هو بقرار أو أمر أو توجيه أو إيعاز من سيادة الرئيس، أي أنهم مجرّد أدوات تحركهم إرادة علوية خارقة.
وإذا كان الصحفي الصغير ذو الطموح الكبير والمنشط الإذاعي أو التلفزي ذو الباع الطويل في كيل المديح يعيشان في حالة من الهستيريا الدائمة فإن المسؤول السامي يعيش في رعب دائم، إذ هو الأكثر عرضة لغضب العائلة الحاكمة. ولذلك تراه مسكونا بهاجس واحد: التفاني في خدمة أفراد العصابة المحيطة برأس النظام من أقارب وأصهار ومحاسيب.
وقد يصل ولاء هؤلاء وانبطاحهم الى حدّ إحراج النظام نفسه لتجاوزهم الحدود المعقولة للنفاق والتزلف. وقد اضطر، أي النظام في مناسبتيْن إلى منع كتابيْن من التداول أحدهما لصحفي-شاعر كتب أطروحة جامعية عن بيان السابع من نوفمبر والآخر لباحث في علم الأفكار (كذا) بلغ به التذلل والدونية حدّ تأليه بن علي، الأمر الذي أثار سخط هذا الأخير…
ومن الأساليب المبتكرة التي يتبعها المثقفون–المخبرون والمثقفون-الأبواق، خلق الأعداء لتأكيد ولائهما وبأنهما المدافعون الوحيدون عن النظام. فالأعداء ضروريون فمنهم يتمعشون وعلى أكتافهم يتسلّقون لتحقيق المكاسب والمآرب، ومن دونهم يفقدون “عملهم” لينضافوا إلى جيش العاطلين. وقد تمعش مني شخصيا عدد لا يُحصى من الكتبة والإعلاميّين المخبرين على امتداد عشرين عامًا…
وبالرّغم ممّا كانوا يظهرون من تنمّر وبطش، فإن هذا الرهط من المثقفين أشخاص مأزومون ومنهزمون، يحملون أنقاضهم داخلهم ويعيشون في حالة رعب دائم خشية غضب أولياء نعمتهم أو عدم رضاهم عمّا يقدمون من خدمات. وليس هذا بمستغرب فهم في الأصل عنوان للجبن والسقوط الأخلاقي وإنما يستمدون نفوذهم وعنجهيتهم من السلطة وأجهزتها القمعية للتغطية على هشاشتهم وارتباكهم، ذلك أن المخبر وممتهن الوشاية لا يكون مخبرًا حقيقيًا إلا إذا سُلبت إرادته وتحوّل إلى مجرّد بيدق أو رقم في جوقة المبلغين والسماسرة وما أكثرهم.
لكن ما لم يعرفه هؤلاء هو أنهم كانوا يثيرون الشفقة حتى وهم يهدّدون خصومهم ويتوعدونهم بالويل والثبور.
أمّا الرهط الثالث من خدمة النظام فهم المثقفون الهلاميون أو السرّيون، وهم يختلفون عن بقية المخبرين. فهم أشخاص محترمون، بل فوق كل الشبهات وعادة ما ينتمون إلى الوسط الأكاديمي باختصاصاته المختلفة ويشكّل هؤلاء “النواة الصلبة” في سياسة النظام الأمنية ولأهميتهم جُهّزت لهم مكاتب أنيقة في صلب وزارة الداخلية.أمّا مهمتهم الأساسية فتتلخص في تحليل الظواهر الأمنية والاجتماعية وإيجاد الحلول المناسبة لها.
وبالنظر إلى السرية التامة التي تطبع عملهم، فإن المثقفين الهلاميّين (التسمية من عندي) معفيون من إظهار ولائهم للنظام علانية وما يرافق ذلك من تطبيل هستيري لمآثره ومنجزاته.
* * *
كان هذا في عهد المخلوع. فكيف هم الآن؟ لقد سقط النظام فهل سقطت الأقنعة؟ لم يتغيّر شيء في الواقع، فبعد أن “لبدوا” حينا من الزمن في انتظار أن تمرّ العاصفة سارعوا إلى تبديل جلودهم وإذا بهم يحبّرون المقالات النارية وينظمون القصائد العصماء في مدح الثورة، بل منهم من انقلب مائة وثمانين درجة ليتخوجن بين ليلة وضحاها، مدّعيا أنه كان من “المندسين” في التجمّع، وأنه آن الأوان ليظهر على حقيقته. أما من كانوا يتحمّلون بعض المسؤوليات فقد عادت فيهم الروح بعد عودة التجمع في صيغته الجديدة، “النداء” فانبروا يشحذون مخالبهم وأظفارهم ويسنّون أنيابهم لاسترداد مواقعهم، وقد ازدادوا نهما وجشعًا، وهم اليوم يسيطرون، من جديد على الساحة الثقافية وبالأساليب والدسائس نفسها التي برعوا فيها في عهد المخلوع.
* * *
لقد أورثنا بن علي أجيالاً معطوبة من أشباه المثقفين وهو أكبر “إنجاز” يُحسب له، فأن يدجّن، هو الجاهل نخبة البلاد من أدباء وإعلاميين وفنانين ومحامين وجامعيّين ويحوّلهم إلى قطيع مسلوب الإرادة وأبواق تلهج باسمه بمناسبة ومن دون مناسبة لهو أمر مثير للإعجاب حقّا. ويكفي أن نلقي نظرة على قائمة المناشدين لنقف على هول الكارثة.
فهل بهؤلاء يمكن بناء جبهة ضد الظلاميّين؟ وهل بهؤلاء يمكن إرساء الحوكمة الرّشيدة ومحاربة الفساد والفاسدين وبناء الديمقراطية وما إلى ذلك من شعارات جوفاء يرفعها البعض هذه الأيّام لإلهاء الرّأي العام والضحك على الذقون؟؟
يا خيبة الثورات !..