الشارع المغاربي – من دروس جائحة كورونا – بقلم د.محمد الشريف فرجاني

من دروس جائحة كورونا – بقلم د.محمد الشريف فرجاني

قسم الأخبار

9 أبريل، 2020

 الشارع المغاربي: بعيدا عن التفسيرات الإيديولوجية والمؤامراتية والعنصرية الرائجة منذ ظهور وتفشي وباء كورونا، قبل وبعد أن تتحول إلى جائحة عالمية، لا يمكن عزل ظهور هذا الوباء عن الأوبئة التي سبقته في العقدين الأخيرين ولا عن تلك التي ظهرت منذ القرن الثامن عشر في ارتباط بظهور وتكاثر الفلاحة الصناعية الرأسمالية، وخاصة منها ما يتعلق بالإنتاج الصناعي للدواجن والأبقار وغيرها من الحيوانات التي غزت لحومها ومشتقاتها الأسواق وأصبحت من المكونات الأساسية لغذاء أغلبية سكان العالم : أوبئة البقر في ضواحي لندن و بريطانيا في القرن الثامن عشر، وباء طاعون البقر الذي انتقل من أوروبا إلى إفريقيا مع الحملات العسكرية الاستعمارية في نهاية القرن التاسع عشر، والذي قضى على قرابة 90 بالمائة من الأبقار وتسبب في مجاعة كبرى صاحبت تمدّد الاستعمار إلى أغلب البلدان الإفريقية، وباء الحمى الاسبانية الذي انتقل مع الجنود الأمريكان المصابين به، في علاقة بتكثف الوحدات الزراعية المصنعة في كانشاس وغيرها من الولايات. وقد انتقل الوباء إلى أوروبا إبان الحرب العالمية الأولى. وكل هذه الأوبئة مرتبطة بالإنتاج الصناعي الرأسمالي في مجال الفلاحة. ومع عولمة الرأسمالية المتوحشة، في ارتباط بعولمة الليبيرالية الجديدة، منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وانفتاح الصين على اقتصاد السوق ودخولها في سباق جنوني مع الولايات المتحدة في مختلف مجالات الإنتاج الصناعي، بما فيها الإنتاج الفلاحي، في ظروف لا تراعي المقتضيات الوقائية الصحية للإنتاج والمنتجين وسكان الأحياء القريبة من المنشآت الصناعية، أصبحت الصين، كغيرها من البلدان التي تحوّلت الى مرتع للرأسمالية المتوحشة، مثلما كانت أوروبا و أمريكا في القرنين السابقين، محيطا ملائما لظهور أوبئة جديدة ساعدت مسالك العولمة على انتشارها بسرعة  وعلى نطاق غير مسبوقين. ولذلك لا يمكن عزل هذا الوباء وكيفية التعامل معه من طرف مختلف الدول، عن الليبرالية الجديدة، التي بدأت تكتسح العالم منذ انتصار ريغان في الولايات المتحدة، وتاتشر في بريطانيا في ثمانيات القرن الماضي، قبل أن تتعولم بعد  انهيار الاتحاد السوفياتي واندثار الأنظمة المرتبطة به.

وقد جاءت جائحة الكورونا لتكشف عما تؤدي اليه الليبرالية الجديدة والرأسمالية المتوحشة من مآس لكل الإنسانية، بسبب  سياساتها  الاقتصادية الموجهة نحو الاستثمار في المجالات ذات الربح المالي السريع، على حساب البنى التحتية الضرورية لتوفير الخدمات الصحية والاجتماعية. فغاية الاستثمارات ليست الاستجابة للمطالب الأساسية للبشرية وإنما تحقيق أكبر الأرباح، في أسرع وقت، على حساب غالبية المجتمع والإنسانية. ولا غرابة أن تكون الدول ذات السياسات المحكومة بقوانين هذه العولمة غير جاهزة لمواجهة مثل هذه الأزمة. فقد  أدت السياسات المحكومة بقوانين الليبرالية الجديدة إلى تقويض دور الدولة في تأمين التضامنات والمرافق الاجتماعية، في ظل استفحال الفوارق الاجتماعية ومظاهر الثراء الفاحش لأقلية ضئيلة (أقل من 10% من سكان العالم يستحوذون على أكثر من 90% من ثرواته) من جهة، والتفقير المتزايد والتهميش، فضلاً عن الاستغلال، من جهة أخرى. وبينت هذه الأزمة أن السياسات الليبرالية لا يمكنها أن تسمح بمواجهة الأوبئة المهددة للأمن الصحي للجميع، دون استثناء أو تمييز بين النساء والرجال على مختلف توجهاتهم الجنسية ولون بشرتهم ومعتقداتهم وانتماءاتهم الاجتماعية والعرقية، والثقافية … الخ. فالأوبئة لا تعرف مثل هذه الفروق رغم أن عدد ضحاياها أكثر في صفوف من ليست لهم إمكانيات لاتقائها أو معالجتها.   وهكذا انكشف  صلف بل وإجرام الخبراء الموجهين للمؤسسات المالية والمؤسسات الاقتصادية، أولئك الخبراء الذين يسميهم بورديو “اليد اليمنى للدولة”  الدائبة  على تعطيل وتكسير يدها اليسرى المؤمنة للخدمات والمرافق الاجتماعية. وهذا ما أقر به الرئيس الفرنسي ماكرون بعد إمعانه المتعنت منذ سنوات في فرض السياسات الليبرالية، حيث اضطر، أمام الصعوبات التي واجهتها المؤسسات الصحية في مقاومة وباء الكورونا، للتذكير بضرورة دولة الرفاه وما تؤمّن من مرافق وخدمات لا  بد منها. وصرح وزيره للاقتصاد بأنه  لا يستبعد تأميم المؤسسات الحيوية، إن أقتضى الأمر ذلك لمواجهة هذه الأزمة، على غرار ما وقع  بعد الحرب العالمية الثانية.  فالإقرار بهذه الضرورة، وإن لم يقترن بنقد الرأسمالية، يعد اعترافاً بتفوق النظام الذي تلعب فيه الدولة دور موجه الاختيارات الاقتصادية وفق ما يقتضي تأمين التضامن والروابط الاجتماعية، على النظام الذي تتخلى فيه الدولة عن وظيفتها الأساسية في تأمين إرادة العيش معاً.

وقد جاء هذا الإقرار على خلفية ما بدا من تعامل الدول ذات الأنظمة الليبيرالية، من جهة، والصين، من جهة أخرى، مع الأزمة الصحية الناجمة عن جائحة الكورونا. فقد كانت إدارة الصين لهذه الأزمة أنجع من غيرها من البلدان، بما فيها أوروبا وكندا والولايات المتحدة، التي أصبحت أول دولة متضررة من الوباء نتيجة تهور دونالد ترامب الذي  تعامل مع الجائحة كما تعود التعامل مع كل الأزمات، بنهج “رعاة الأبقار” في أفلام “الوستارن”. ويرجع تفوق إدارة الصين للأزمة، رغم كل الأحترازات المشروعة على عدد الضحايا، إلى أن الدولة في الصين هي التي توجه الاقتصاد وفق اختياراتها، وذلك حتى بعد الانفتاح على اقتصاد السوق وعلى الرأسمالية. ولم يخف العديد من الملاحظين إعجابهم بتعامل الصين مع الأزمة، لا فقط على مستوى الإدارة الداخلية لها، وإنما خاصة على المستوى ما أبدته من تضامن مع الدول المتضررة. فقد ساعدت إيطاليا وصربيا وتونس والعديد من الدول الأفريقية والآسيوية، بل وحتى فرنسا. وهنا لا بد من التحذير إلى أنه لا يجب أن يُفهم من ذلك تفوق الديكتاتورية على الديمقراطية، وإنما هو تفوق الدولة المتحكمة في اقتصادها وفي سياساتها الداخلية على الدول التي تركت قوانين السوق تتحكم في توجهاتها.

انّ الديمقراطية الاجتماعية المصالحة للإنسان مع الطبيعة هي البديل عن الليبرالية الجديدة وأشكال الاستبداد القديمة والحديثة

هل يعني  ما بدا من تعامل الصين وغيرها من البلدان مع الأزمة الراهنة أن البشرية ليس لها سوى الاختيار بين الرأسمالية المتوحشة والليبرالية الجديدة التي لا تقبل بالدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، من جهة، والديكتاتورية أو غيرها من أشكال الاستبداد القديمة والحديثة، الرافضة للديمقراطية وحقوق الإنسان، من جهة أخرى ؟

إن الشعوب المتطلعة للإنعتاق من مختلف أشكال الاضطهاد والاستغلال الفاحش والاستبداد، بمختلف أشكاله، ليس لها أن تقبل بمثل هذا الاختيار. وفي سبيل ذلك يجب على القوى المؤمنة بالحرية وبالمساواة وحقوق الإنسان في كل البلدان والقارات، شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً، أن تتوحد  ضد الليبرالية الجديدة من جهة، وضد الديكتاتورية ومختلف أشكال الاستبداد من جهة ثانية، وكذلك ضد التعبيرات المختلفة للثورة المحافظة الداعية للإنغلاق على شتى الهويات المتنافرة إلى حد  التناحر، من جهة ثالثة. والسبيل إلى ذلك هو العمل على بناء ديمقراطية اجتماعية تلعب فيها الدولة دورها في توجيه الاقتصاد نحو تحقيق المطالب الأساسية للإنسان، وتوفير الخدمات الضرورية في مجالات الصحة والتعليم والنقل والحد من الفوارق المهددة للروابط الاجتماعية ؛ ديمقراطية تقوم على حقوق الإنسان وحرياته الفردية والجماعية، دون أي تمييز على أساس الجنس أو توجهات الجنسية ولون البشرة والأصول العرقية والثقافية والانتماءات أو التوجّهات  الدينية  أو الفكري ؛ ديمقراطية تقوم على التصالح بين الإنسان والطبيعة  وتأخذ بعين الاعتبار حماية البيئة، ولا تضحي بحقوق الأجيال القادمة. فلا الولايات المتحدة ولا الصين ولا بقية النماذج المنخرطة في السياسة الليبرالية وفي ردود الفعل الهووية، مؤهلة لتأمين التعاون والتضامن داخل كل مجتمع وبين الشعوب، أو الإسهام في بناء عالم يحقق هذه الأهداف.

 

 

 

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING