الشارع المغاربي – بعيدا‭ ‬عن‭ ‬منطق‭ ‬المؤامرات‭ ‬والاحتكار: كيف‭ ‬تفرّط‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬أمنها‭ ‬الغذائي‭ ..!‬نهب‭ ‬ممنهج‭ ‬وفساد‭ ‬وراء‭ ‬انهيار‭ ‬منظومة‭ ‬الحبوب/ تحقيق محمد الجلالي

بعيدا‭ ‬عن‭ ‬منطق‭ ‬المؤامرات‭ ‬والاحتكار: كيف‭ ‬تفرّط‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬أمنها‭ ‬الغذائي‭ ..!‬نهب‭ ‬ممنهج‭ ‬وفساد‭ ‬وراء‭ ‬انهيار‭ ‬منظومة‭ ‬الحبوب/ تحقيق محمد الجلالي

قسم الأخبار

18 مارس، 2022

الشارع المغاربي: بينما تواجه تونس صعوبات جمة في توريد حاجاتها المتزايدة من الحبوب خاصة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، البلدين الأكثر انتاجا للحبوب في العالم، تصر وزارة الفلاحة على نفض يدها من منظومة الحبوب المحلية لتلتزم بدور المتفرج على انهيار أكبر تعاونية للبذور هي الشركة التعاونية المركزية للبذور والمشاتل الممتازة التي أصبحت عاجزة عن لعب دورها في توفير الحبوب بعد سنوات طويلة من الفساد المستشري والنهب الممنهج على مرأى من سلطة الإشراف.

منذ أيام يرابط عشرات العمال وموظفو شركة البذور والمشاتل الممتازة امام مقر وزارة الفلاحة للمطالبة بسداد رواتبهم المتوقفة منذ خمسة أشهر والوقوف الى جانب شركتهم المفلسة والمهددة بالتصفية. كما باءت محاولات بعض العمال للاعتصام امام القصر الرئاسي بقرطاج بالفشل بعد أن اعترضتهم قوات امنية في ضاحية العوينة. في الأثناء توقفت التعاونية عن مرافقة الفلاحين والاحاطة بهم وتعهد الزراعات الكبرى بالعناية والمراقبة قبل أشهر قليلة من موسم الحصاد.

يتواصل الاعتصام أمام الوزارة رغم تعهد بشير الكثيري رئيس مدير عام ديوان الحبوب بصرف رواتب العمال لشهر جانفي المنقضي فيما تنتظر بقية مشاكل الشركة تدخلا عاجلا من سلطة الإشراف حتى تنهض التعاونية من ركود لازمها لأكثر من عقدين.

دولة تناقض نفسها

“ألا يمكن أن نُحدِث بقانونٍ شركات أهلية تُمكّن المواطن وخاصة الشباب من خلق الثروة بأدوات جديدة؟” هكذا تساءل رئيس الجمهورية قيس سعيد خلال مجلس الوزراء الملتئم بتاريخ 24 نوفمبر 2021.

هذه الشركات ليست سوى نمطا مؤسساتيا على شاكلة تعاونيات اقتصادية تندرج في إطار ما يعرف بالاقتصاد التضامني والاجتماعي. وكان مجلس نواب الشعب المعلقة أشغاله قد صادق على قانون يتعلق بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني في 30 جوان 2020.

عرّف هذا القانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بأنه “منوال اقتصادي يتكون من مجموع الأنشطة الاقتصادية ذات الغايات الاجتماعية المتعلّقة بإنتاج سلع وخدمات وتحويلها وتوزيعها وتبادلها وتسويقها واستهلاكها، تؤمنها مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، استجابة للحاجات المشتركة لأعضائها وللمصلحة العامة الاقتصادية والاجتماعية ولا يكون هدفها الأساسي تقاسم الأرباح.”

لكن المفارقة انه قابلت التوجه الرسمي نحو تثمين هذا المنوال الاقتصادي مجهودات رسمية لضربه والتخلص منه عبر القضاء على ما تبقى من تعاونيات فلاحية.

هكذا خربوا المنظومة

بعد مرور 52 سنة على تأسيسها اصبحت التعاونية المركزية للبذور والمشاتل الممتازة عاجزة عن خلاص رواتب موظفيها والايفاء بتعهداتها الاجتماعية والمالية الى جانب تراجع دورها الريادي.

شركة البذور والمشاتل الممتازة هي تعاونية فلاحية تتكون من مجموعة من الفلاحين وتتكفل بمدهم بالبذور المحلية ومرافقتهم خلال موسم الزراعة ثم تجميع المحاصيل. وتشير مصادر بالمؤسسة إلى أنها كانت توفر الى حدود ثمانينات القرن الماضي قرابة 70 % من حاجة تونس من البذور ملاحظة تراجع هذه النسبة بشكل رهيب في السنوات الأخيرة..

يقول عادل وهو اسم مستعار لموظف تدقيق سابق بالتعاونية فضّل عدم الكشف عن هويته: “تسيير الشركة يتم عن طريق مجلس ادارة منتخب من المنخرطين وعبر مدير عام موافق عليه من طرف وزارتي الفلاحة والمالية ويتم تمويل أنشطتها من قبل ديوان الحبوب الذي يسترجع أمواله بعد انتهاء موسم الحصاد. كما سبق للدولة أن مكنتنا من أراض عمومية لاستغلالها في الزراعة واحالت الينا عشرات الاعوان العموميين. كل هذه المعطيات تؤكد بما لا يدع مجالا للشك اننا نعمل تحت اشراف الدولة وبمساندة وتمويل عمومي بما يناقض الادعاءات الرسمية بأننا شركة خاصة”.

ويتابع الموظف: “أفرط مسيرو التعاونية على مدى سنوات متعاقبة في نهبها والتفريط في أموالها دون ان تحرك سلطة الإشراف ساكنا والادهى والامر انها كانت عادة ما توافق على تعيين مديرين عامين قادمين من الوظيفة العمومية استغل أغلبهم منصبه لضمان تقاعد مريح وللحصول على منافع دون وجه حق وبلا رقابة تذكر”.

الموظف أشار ايضا الى ضلوع مراقب حسابات التعاونية مؤكدا على عدم تحمله مسؤولية اعلام وكيل الجمهورية بمختلف عمليات النهب الممنهج التي كان يطلع عليها بحكم عمله الرقابي.

من جهته ذهب مهندس بالتعاونية الى حد اتهام اطراف بوزارة الفلاحة وأخرى من داخل التعاونية بالسعي لحلها مفسرا ذلك بمحاولة قبر ملفات فساد سبق لهم ان كانوا ضالعين فيها.

المهندس ذكر ان مسيرين سابقين بالتعاونية كانوا يفرطون في البذور بأثمان بخسة لفائدة فلاحين ثم يستعيدونها مقابل أسعار باهظة وان موظفين واعوان تمكنوا من نهب أملاك التعاونية دون أي حسيب او رقيب بما تسبب في تراجع دورها الريادي وتقلص مداخيلها.

في هذا السياق يؤكد فاخر الغديفي المشرف على مصلحة الشؤون القانونية والنزاعات بالتعاونية أن الدولة شرعت في ضرب الشركة منذ سنة 2005 رغم انها كانت الية ناجعة لديها لإنجاح سياساتها الفلاحية والمحافظة على الامن الغذائي.

الغديفي يوضح ان دور الدولة في مرافقة التعاونيات الفلاحية يبدأ بتثمين الطاقة الإنباتية للبذرة في معهد البحوث الزراعية ويمر عبر المعهد الوطني للزراعات الكبرى للتأكد من تأقلم البذور مع المناخ والتربة ليصل الى التعاونيات الفلاحية التي تتكفل بإكثار الحبوب بالاشتراك مع الفلاحين مستغربا مما اسماه سعيا رسميا لحل التعاونية المركزية للبذور والمشاتل الممتازة باعتبارها اخر حلقة في منظومة الزراعات الكبرى.

جريمة في حق الشعب

منذ تسعينات القرن الماضي دخلت على خط منظومة الزراعات الكبرى شركات خاصة تورد بذورا هجينة من دول مثل فرنسا وايطاليا، غير قادرة على الاكثار فكانت النتيجة ان تخلى عديد الفلاحين عن البذور المحلية مستعينين ببذور اجنبية مضرة بالتربة وغير مقاومة للجفاف، حسب تأكيد فاخر الغديفي الذي اعتبر أن اغراق السوق ببذور هجينة تصرف غير وطني وأن الهم الوحيد من ورائه هو تحقيق الربح السريع عكس الغاية غير الربحية التي بعثت من اجلها الشركات التعاونية.

في المقابل اعتبر  الغديفي ان توجه الدولة نحو دعم توريد الحبوب الأجنبية من قبل شركات خاصة جريمة في حق الشعب وفي حق الأجيال القادمة مؤكدا ان في ذلك اجهازا على التعاونيات وتهديدا لقوت الشعب.

يذكر ان أسامة الخريجي وزير الفلاحة الأسبق كان قد أمضي على قرار يقضي بتعميم دعم الدولة لبيع جميع أصناف بذور الحبوب المثبتّة المتداولة والمنتجة من قبل مختلف الشركات دون إستثناء والتي يقع إكثارها محليا في تونس والمسجلة بالسجل الرسمي للمستنبطات النباتية التونسية.

قرار لاقى صدا من عديد الهياكل الفلاحية التي اعتبرته “دعما قاتلا” للبذور المحلية وضربا للتعاونيات الفلاحية.

في هذا السياق يشير موظف بالتعاونية المركزية للبذور والمشاتل الممتازة الى ان قرار الخريجي أتى في الساعات الأخيرة من انتهاء عهدته بالوزارة ملاحظا ان هذا السيناريو شبيه بما حصل في السابق لامال النفطي كاتبة الدولة سابقا للإنتاج الفلاحي.

ويتابع “سنة 2015 قررت امال النفطي انقاذ الشركة وعينت مديرة عامة على رأسها. وسرعان ما انطلق الإصلاح ومحاسبة الضالعين في الاستيلاء على أموال المؤسسة لكن ذلك لم يدم طويلا بعدما تم اعفاؤها وعزل المديرة العامة واعادة موظفين معزولين رغم إحالتهم على القضاء بتهم الاستيلاء على أموال عمومية وتحقيق منفعة لا وجه لها والإضرار بمصالح الشركة.”

ويضيف: “بعد القرارات التي أوقفت مسيرة إنقاذ الشركة استفحلت أزمتها وباتت مهددة بالإفلاس وتم دفع عديد الكفاءات إلى مغادرتها للالتحاق بمؤسسات عمومية أخرى أو بشركات خاصة.

نظرة من الخارج

للاطلاع على ما يجري داخل تعاونيات أخرى وتقييم دور الدولة في مساندة منظومة الزراعات الكبرى اتصلت أسبوعية “الشارع المغاربي” بالعربي العمدوني مدير عام التعاونية المركزية للبذور فأكد ان التعاونيات التونسية تعد من بين الاولى في مجالها التي تم بعثها بالعالم مشيرا الى انها تعاني من صعوبات مالية منذ عقود والى ان كلفة انتاج البذور واكثارها تتجاوز أسعار بيعها.

العمدوني يبيّن ان الفرق بين التعاونية المركزية للبذور التي يشرف عليها وبين غيرها يكمن في طرق التسيير وفي نوعية الحرفاء المتعاملين معها.

من جهة أخرى يشدّد العمدوني على ان ديمومة التعاونيات تتطلب الحصول على قروض للتسيير وأخرى لشراء الحبوب وعلى ان الارتفاع المشط في فوائض القروض (بين 10 و14%) يثقل كاهل التعاونيات التي لا تملك رأس مال خاص بها.

ويتابع قائلا: ” التعاونيات هي شركات غير عادية تحاول جاهدة التصرف في هامش الخسارة للتقليل منه لأنها مرتبطة بإشكالات فنية تتعلق بجودة البذور قبل حصادها وبعد تجميعها وخلال تخزينها.

في هذا السياق يلفت الى ان ادارته قدمت طلبا للدولة لحماية الشركات التعاونية باعتبارها متصرفة في مخزون يهم كل الشعب ويتعلق بأمنه الغذائي ملاحظا انه من غير المعقول ان تتحمل التعاونيات بمفردها خسائر سنوية بالمليارات مقابل تكفّلها بمهمة جسيمة هي تأمين امن تونس الغذائي.

ويضيف: “على الدولة مثلما تتكفل بدعم وتمويل وتوفير امتيازات ومنح واعفاءات في قطاعات أخرى ليست حياتية الالتفات إلى منظومة الحبوب والبدء بإعفائنا من فوائض الاقتراض على أقل تقدير. بصراحة تامة يمكن التخلي عن دعم منظومات إنتاجية أخرى ولا يمكن التلاعب بقوت التونسيين.”

من ناحية أخرى يعرّج العمدوني على ما أسماه “أمن البذور” مؤكدا انه أنجز دراسة على نفاذ الفلاحين الى البذور وانه اكتشف ان 20 % فقط يحصلون عليها.

العمدوني يوضح ان “أمن البذور” يرتكز على ثلاثة شروط هي توفرها بجودة ممتازة وقربها من الفلاح وقدرته على شرائها وضرورة زراعتها مهما كانت الظروف الاقتصادية او المناخية.

ويختم محدثنا بالقول: “على خلاف بلادنا التي استقرت فيها نسبة انخراط الفلاحين بالتعاونيات في حدود 6 % تعول دول أخرى على هذا النمط الاقتصادي.”

وتشير دراسة أوروبية صادرة في 2015 الى وجود 180 ألف شركة تعاونية في الفضاء الأوروبي والى انها تضم 140 مليون منخرط وتشغل أكثر من 4 ملايين موظف.

وتؤكد الدراسة ان رقم معاملات الشركات التعاونية الأوروبية بلغ قبل سبع سنوات 3 آلاف مليار دينار.

اما القطاعات التي مستها الشركات التعاونية في أوروبا فتتوزع حسب الدراسة على القطاع الفلاحي الذي يساهم بأكبر رقم معاملات (39%) فالتجارة (30%) فالقطاع الاستهلاكي (12%) ثم قطاعات أخرى مثل البنوك والتأمينات والصناعة (19%).

دور حركة النهضة

بالتوازي مع تراجع التعاونية المركزية للبذور والمشاتل الممتازة انضمت شركة خاصة الى قطاع اكثار البذور.

تؤكد موظفة سابقة بالشركة الخاصة ان بداية نشاطها كانت محتشمة مشددة على انها ورّدت سنة 2008 بذورا فرنسية وايطالية لغراسة قرابة 12 هكتارا.

وتشير الى أن مسؤولي الشركة كانوا يعلنون انهم سيركزون على أصناف من البذور ذات الإنتاجية العالية لإقناع الفلاحين باقتنائها والى ان جل الأصناف التي خضعت للتجربة والإكثار اثبتت فشلها.

الموظفة تؤكد انها عملت في 2012 جنبا الى جنب مع الحبيب الجملي المرشح السابق من حركة النهضة لرئاسة الحكومة وانه عمل عند التحاقه بوزارة الفلاحة على تمكين الشركة الخاصة من الدعم الكافي.

وتضيف: “بعد انتخابات 2019 صعدت النهضة مرة أخرى الى الحكم فعمل أسامة الخريجي وزير الفلاحة الأسبق على دعم بيع البذور الأجنبية الموردة والتي استفادت منها نفس الشركة الخاصة ودخلت في منافسة شرسة مع التعاونيات الفلاحية التي كانت تعاني من صعوبات على أكثر من صعيد”.

وتتابع: “من بين الروايات التي يتداولها الفلاحون في السنوات الأخيرة ان بعض منظوري الشركة الخاصة كانوا يستغلون تأخر حصول التعاونيات على نتائج اختبارات الحبوب لمغازلتهم واقناعهم بإبرام عقود معها لاقتناء بذورهم الأجنبية”.

تفريط في أموال عمومية

أسبوعية “الشارع المغاربي” حصلت على وثائق ومعطيات تؤكد أن بنكين عموميين أسقطا في 2007 ديونا بعشرات ملايين الدنانير لتمكين صاحب الشركة الخاصة من اقتناء مجموعة شركات مختصة في صنع العجين الغذائي والاعلاف والنقل.

وتؤكد مراسلة وجهها أصحاب الشركات المتضررة الى رئاسة الجمهورية في سبتمبر 2021 ان مؤسساتهم تعرضت الى تسوية قضائية تعسفية بعد تعمد البنكين العموميين (بالإضافة الى بنك خاص) الحط من ديون ناهزت 100 مليون دينار وانه نتج عما عرف بـ “تسوية قضائية” اهدار اموال عمومية وتهرب ضريبي فضلا عن ضلوع مسيرين وأعضاء بمجالس إدارة الشركات في التدليس.

واتهم أصحاب الشركات المتضررة هيئة الحقيقة والكرامة بالتلاعب بملفاتهم وتحويل وجهة قراراتها بعد اتخاذ إجراءات تحفظية ضد المالك الجديد ثم التراجع عن القرار.

يذكر ان وحدات أمنية واعوان الإدارة الجهوية للتجارة بصفاقس داهمت الخميس الماضي مخزنا على ملك نفس الشركة الخاصة وعاينت تعرض كميات من المقرونة والكسكسي الى الرحي قبل ترويجها  كأعلاف حيوانية، حسب تصريحات سابقة لمسؤولين أمنيين.

وأكد مسؤول بالشركة في تصريحات إعلامية انه يتم استغلال المخزن للتحقق من صلوحية السلع الواردة ومطابقتها معايير الجودة وانه يتم ارجاع السلع الصالحة للاستهلاك الى مسالك التوزيع الرسمية والتخلص من بقية السلع التي تم التأكد من عدم صلوحيتها.

 هكذا يلتقي الفساد في تسيير احدى أكبر التعاونيات الفلاحية بتخلي الدولة عن دورها الرقابي وتتظافر بعض القرارات والإجراءات السياسية ذات الحسابات الضيقة مع غياب استراتيجية رسمية لحماية الامن الغذائي لترهن مستقبل شعب بأكمله وتعمق تبعيته للخارج في قطاع حياتي كقطاع الحبوب.

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 15 مارس 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING