الشارع المغاربي-كريمة السعداوي:رسائل عديدة وَجَّهَتْهاَ، الاسبوع الفارط، هيئات مالية ومؤسسات اقتصادية كبرى للسلط التونسية مفادها اجمالا، انها اصبحت غير قادرة على التعامل معها ماليا وحتى تجاريا باعتبار وجود عدة عوائق على هذا الصعيد بما لا يتماشى مع مصالحها.ويأتي كل ذلك في ظل منظومة سياسية واقتصادية انتهت على اغلب الظن مدة صلاحيتها بالنسبة لهذه الجهات.
وبغض النظر عن التبريرات المقدمة في هذا الشأن والتي تؤكد ان انحلال النظام السياسي والاقتصادي وتشتته هو العائق الاكبر لمواصلة التعامل مع تونس، فإن استمرار فوضى ادارة الأزمة الصحية والاجتماعية وعدم توجه السلط نحو أي اصلاح هيكلي طلبته كل المنظمات الدولية الدائنة تقريبا، هو في الواقع العامل الأبرز لتخلي هذه المنظمات وحلفائها عن «دعم» تجربة تونسية دامت على الأرجح لأكثر من اللازم ولم يكتب لها النجاح.
البنك المركزي :
«مقرض الملاذ الاخير»
تلعب فرنسا دورا هاما في ادارة الديون السيادية للدول في العالم سواء عن طريق اقراضها او انطلاقا من ترؤسها نادي باريس الذي يجتمع مرة كل ست اسابيع لتقييم استدامة ديون الدول المَدِينَة تجاه اعضائه الـ 22 وهو ناد قام منذ تأسيسه والى اواخر السنة الفارطة بهيكلة 611 مليار دولار كديون تهم 100 دولة في العالم. ويتعامل النادي مع نسيج متكامل من الدائنين أبرزهم حكام هيئات «بريتون وودز» (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) وجل المؤسسات الماليةالدولية المتخصصة في الاقراض التنموي وهيئات الترقيم وعدد من كبار البنوك الشمولية في العالم.
وفي هذا الاطار،أصدرت يوم الاثنين 19 جويلية 2021 -أي أياما قليلة قبل تسديد تونس قرض رقاعي بـ 1412 مليون دينار على السوق الدولية – ادارة الدراسات الاقتصادية بمجمع بنك القرض الفلاحي الفرنسي تقريراقيّمت فيهاستدامة الدين العمومي التونسي مشيرة الى معطيات صادمة تتمحور اساسا حول عجز السلط الحكومية في البلاد عن انجاح مسارات التفاوض حول هيكلة المالية العمومية والامكانية الكبرى للتعثر في خلاص قروضها مبرزة، في ذات السياق، ان الدين الخارجي لمختلف الأطراف الاقتصادية في تونس يصل الى 40 مليار دولار اي ما يعادل 105% من الناتج المحلي الاجمالي، منها 17 مليار دولار تتحملها الدولة مباشرة.
ولم يستبعد البنك سقوط تونس في درجة «ج جج» وذلك على وقع استمرار «الضغوط الاجتماعية للنقابات» و»عدم الانسجام» بين رؤوس السلطة موضحا أن تجاوز قائم الدين الخارجي2.7 مرات قيمة الصادرات وانهيار مداخيل السياحة والاستثمار والحاجة الى 4 مليارات دولار لخلاص الديون الخارجية في ظل تراجع احتياطي النقد بـ8% خلال الربع الاول من العام الحالي الى حدود 8٫4 مليار دولار،هي عوامل حاسمة في خصوص امكانية «جد واردة» لعجز تونس عن الايفاء بالتزاماتها رغم جهود البنك المركزي للتكفل بها وتسديدها في موعدها مع السعي للحفاظ على قيمة الدينار.
وبالفعل، فقد لعبت مؤسسة الاصدار دور «المقرض في الملاذ الأخير» وهي آلية شَرَع البنك المركزي في تركيزها أواخر نوفمبر 2016 لخلاص القسط الاول من القرض الرقاعي الذي جرى اصداره على السوق النقدية الدولية في جوان 2014 بمقتضى اتفاق ضمان تعهد مالي مع الولايات المتحدة الامريكية بقيمة 500 مليون دولار (1412 مليون دينار).
وللإشارة، فان تحول البنك المركزي الى «مقرض الملاذ الأخير» كان من خلال توفير السيولة اللازمة للدولة عن طريق ضخها في النظام البنكي مباشرة من احتياطي النقد المؤتمن عليه وذلك لتجاوز وضعية سداد القرض الرقاعي الاخير اضافة الى سعيه لإنقاذ الدولة من التعثر المالي، من ناحية وحفاظا على امكانياتها في الحصول على موارد اقتراض جديدة لمواصلة الايفاء بالتزاماتها المالية، من ناحية لأخرى.
وبعد ان لعب البنك المركزي التونسي هذا الدور من خلال المشاركة في اصدار رقاع خزينة قصيرة الأجل يوم 23 جويلية بقيمة 1358.5 مليون دينار لسداد القسط الاول من القرض الرقاعي الدولي، اعلن في سابقة من نوعها، عن ابقاء مجلس ادارته في حالة انعقاد دائم ورفضه قانون الانعاش الاقتصادي وذلك في سياق تخوفاته من مواصلة الحكومة «توريطه» في ضخ السيولة لها،بشكل او بآخر،لخلاص اقساط القروض القادمة بالعملة الاجنبية مباشرة من المدخرات مما يفقده «استقلاليته» التي ركزها قانونه الاساسي عدد 35 لسنة 2016 والذي جرت صياغته بإيعاز مباشر وتأكيد صارم من صندوق النقد الدولي.
رسالة «الميناء»
أرسلت شركة CMA-CGM وهي من كبريات شركات الشحن والخدمات اللوجستية ولديها حجم هام من الأعمال مع تونس،خطابا في 16 جويلية الجاري الى السلط التونسية تعلن فيه ايقافها فورا نشاطها بميناء رادس حتى إشعار آخر. وبررت الشركة، قرارها بالتأخير الذي تتعرض له في انشطتها بالميناء حيث اكدت انها تراكم في المعدل تأخيرات في وجهة رادس تناهز 25 يومًا بسبب التعطيلات والانتظار الطويل بما اثر سلبا، وفق تقديرها، على إنتاجيتها.
ولا يبدو تبرير الشركة مقنعا، اذ انها تعمل منذ مدة طويلة على وجهة رادس وهي وجهة معروفة بتعطل رسو السفن لدى افراغ حمولتها او شحنها وبالتالي الشركة التي تعاني فعليا من هذا الامر طيلة اعوام معالجته مع سلط الميناء منذ مدة قبل اتخاذ قرارها الجديد.
ومن هنا، فان «الرسالة» تكتسي على الاغلب ابعادا اخرى لا تمت للبعد التجاري بصلات كثيرة، تتمثل في مراجعة متعاملين تجاريين اجانب قواعد تعاملهم مع تونس من خلال إعلان النقطة الرئيسية لسلسلة خلق القيمة البحرية في تونس وهي ميناء رادس كنقطة سوداء على مستوى موانئ البلاد بشكل خاص، والضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، على نحو عام.وتركت الشركة الباب مواربا اذ ابرزت في خطابها أنه يمكنها قبول حجوزات الشحن في موانئ تونسية أخرى على غرار سوسة وصفاقس وبنزرت.
ويجدر التذكير، في ذات السياق، بان تونس خسرت 40 مركزًا في السنوات العشر الماضية في الترتيب الدولي الذي وضعه البنك الدولي للإنشاء والتعمير (BIRD) من حيث القدرة التنافسية لخدمات الموانئ، وهي التي تقاس من خلال»مؤشر الأداء اللوجستي»اذ انتقلت البلاد من المرتبة 30 في عام 2007 إلى المرتبة 105 في عام 2018. كما انه وحسب مكتب البنك الدولي في تونس، فإن مؤشرات اداء ميناء رادس، الذي تتركز فيه حصة 80 بالمائة من نشاط شحن وتفريغ الحاويات في البلاد، وهو مبدئيا الحلقة الرئيسية في اندماج تونس في سلاسل القيمة التجارية العالمية انخفضت بشكل ملحوظ طيلة السنوات العشر الفارطة، وفقا لمكتب البنك.
وبلغ متوسط بقاء الحاويات في ميناء رادس 18 يومًا في عام 2019، مقارنة بـ 10 أيام قبل عشر سنوات. وللمقارنة فإن مدة الإقامة نفسها تتراوح في المغرب يبن 6 و7 أيام مما يبرز عدم كفاءة عدة متدخلين في الميناء ابرزها مصالح الرقابة الفنية وهياكل الشركة التونسية للشحن والترصيف STAM، ومصالح الشركة التونسية للملاحة CTN وغيرها سيما أن نقابات الشركتين هي من أكثر النقابات تنظيما للإضرابات والاعتصامات في البلاد بعد نقابات فسفاط قفصة وشركات النقل العمومي.
وكان بدر الدين القمودي، رئيس لجنة الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد في مجلس النواب قد صرح مؤخرًا أن المعدات ونظام المعلومات في ميناء رادس معطلة وأن هناك سوء تصرف وفساد كبيران وان ذلك يكلف المجموعة الوطنية خسائر تقدر بنحو 1000 مليون دينار، فضلا عن سوء سمعة الميناء، باعتبار ان عدة شركات شحن عالمية تبحث باستمرار عن وجهات أخرى لتجاوزه.
مع مراعاة بعض الفوارق الفنية غير ذات الاهمية الكبرى بخصوص نظام الصرف وتسيير النظام البنكي، فان المسار الذي توجد فيه البلاد اليوم هو نفس المسار الذي تسلكه عدة بلدان ومناطق في الشرق الاوسط ابرزها لبنان الذي يشترك مع تونس في فوضى مؤسساتية عارمة اضافة الى غياب اليات حكم واضحة وتفشي الفساد والطبقية بأشكال شاملة.وللتذكير فان نسب الفقر واصحاب البطون الخاوية كانت جد متقاربة بين تونس ولبنان قبل انهياره بمدة وجيزة فضلا عن تعرض كلا البلدين الى تخريب كامل لأنسجتهما الفلاحية والصناعية والخدماتية من قبل اصحاب مصالح هيمنة التهريب والانشطة الموازية بمختلف اصنافها.
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 27 جويلية 2021