الشارع المغاربي – حتى يتحمّل كل مسؤولياته: أوّل أولويات الحكومة الجديدة إجراء تدقيق شامل في المالية العمومية

حتى يتحمّل كل مسؤولياته: أوّل أولويات الحكومة الجديدة إجراء تدقيق شامل في المالية العمومية

قسم الأخبار

1 أكتوبر، 2021

الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: من المؤكد أن أبرز تحد ستواجهه الحكومة القادمة مهما كانت طبيعتها وتركيبتها، هو التصرف في مالية عمومية مهترئة في ظل غياب موارد كافية لسد الثغرة الهائلة للميزانية والتوجه الواضح منذ سنوات نحو المناورات المحاسبية الفاقدة لأي سند معياري لإصدار النقد المركزي بلا حساب وكلما دعت حاجة الانفاق العمومي المتعاظم لذلك. وتفرض طبيعيا هذه الوضعية على غرار ما يجري في العديد من دول العالم أن يتم القيام بتدقيق معمق للمالية العمومية على عدة أصعدة أبرزها الاستعمالات والموارد المالية والحسابات الخاصة للخزينة.

وسبق، في هذا الإطار، أن طالبت جهات مختلفة منذ سنوات بإجراء تدقيق للمالية العمومية مع تركيز خاص على تدقيق الديون العمومية وهي التي يعتبرها جل الخبراء تدخل في باب الديون الكريهة بمعنى عدم استفادة الشعب منها ووقع الاختلاف آنذاك على فترة التدقيق باعتبار أن عددا منهم أكدوا على ضرورة العودة الى نهاية الثمانينات وتحديدا منذ صعود بن علي للحكم. كما اختلفوا حول مسألة مدى التدقيق وضرورة عدم اقتصاره على الديون ليشمل التصرف في موارد الجباية والحسابات الخاصة للخزينة وهي المعروفة بصناديق الخزينة وذلك بالتوازي مع ضرورة تكليف هيئة أو هيئات غير حكومية للقيام بأعمال المراجعة المحاسبية والتدقيق بغية تحقيق غاية جد مهمة وهي كشف حقيقة التصرف في المال العام واتخاذ اجراءات المسائلة والمحاسبة المطلوبة.

في دواعي التدقيق وسماته

للتدقيق في المالية العمومية بعد سياسي بالأساس، إذ أن العملية ترمي على نحو خاص لتحديد مسؤوليات الهياكل التي مارست الحكم وتصرفت في الموارد المالية للدولة. كما أن عمليات التدقيق لا يمكن أن تتم خارج إرادة سياسية واضحة لترجيح المصلحة العليا للدولة والمجتمع والحفاظ على المقدرات الاقتصادية للبلاد. ولعله قد أصبح من الطبيعي في العديد من دول العالم الاحتكام بصفة دورية الى نتائج تدقيق المالية العمومية التي تجري في سياق منظم قابل للرقابة ومحكم بصفة تجعل من المدققين في وضعية كفاءة لممارسة التدقيق الذي تُنشر نتائجه للعموم في سياق يُمكّن من اصدار احكام زجرية سيما عند ثبوت جرائم سوء التصرف في المال العام واهداره.

غير أن فوضى التشريع الجبائي وتعطيل اصلاح هذا المحور الهام في تونس رغم وضع تصور متكامل له سنة 2014 وتراكم الديون تحت عناوين مبهمة وعدم تمكن السلط المالية من ختم ميزانيات عدة سنوات محاسبية فضلا عن معضلة ما يسمى بـ “استقلالية البنك المركزي” وخلقها لإرباك غير مسبوق للمالية العمومية هي عوامل، لم تتمكن أطر رقابة المالية العمومية وهياكل تدقيقها على اختلافها وتعددها من حصرها والحد من تداعياتها السلبية.

وفي هذا الإطار، يجدر التذكير بأن منظومة الرقابة العمومية والتدقيق في تونس تضمّ عدّة أاطراف تعمل عموما على مستويين تتمثل في التفقديات في الوزارات وهي تراقب المصالح تحت الاشراف وإدارات التدقيق الداخلي في المنشآت العمومية، من ناحية وفي الهيئات التي تعمل على مستوى المراقبة والتدقيق في التصرف العمومي بما في ذلك في الوزارات التي ترجع اليها بالنظر، من ناحية أخرى.

وتعمل الرقابة العامّة في التصرّف العمومي بناء على ثلاثة مناهج تتمحور حول الرقابة القَبْلِّية وهي التي تسبق أعمال التصرف وتؤمّنها هياكل تابعة لرئاسة الحكومة (الهيئة العامة لمراقبة المصاريف العمومية وهيئة مـراقبي الـدولة والهيئة العليا للطلب العمومي وتختـــصّ بالصفقات العمومية) لتاتي بعد ذلك الرقابة اللاّحقة وهي التي تجريها هيئة الرقابة العامة للمصالح العمومية التابعة لرئاسة الحكومة وهيئة الرقابة العامة للمالية وتتبع وزارة المالية وهيئة الرقابة العامة لأملاك الدولة والشؤون العقارية التابعة لوزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية. وفي آخر المسار تتمركز الرقابة الأفقية، التي تقوم بها محكمة المحاسبات. وتعتبر كلّ الهيئات الرقابية المذكورة هياكل إدارية ترجع بالنظر للسلطة التنفيذية باستثناء محكمة المحاسبات التي تمثل سلطة قضائية ومؤسّسة دستورية. وتنسقّ بين مختلف هذه الهياكل الهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية وهي تابعة لرئاسة الجمهورية.

ولعل أبرز إِشكال يطغى على أعمال هذه الهياكل يتمثل في التداخل على مستوى أعمالها وعدم نشر جل تقاريرها للعموم فضلا عن غياب دورها في التأطير الاستراتيجي لاختيارات الدولة المحورية باعتبار رجوع أغلبها بالنظر للسلطة التنفيذية وعدم تركيزها على تقييم آداء الإدارة ومؤسسات القطاع العام.

ومن هنا، فانه لا يمكن مبدئيا اجراء تدقيق للمالية العمومية دون اعادة تنظيم هذه الهياكل للتمكن من استقراء نتائج أعمالها خصوصا طيلة السنوات الأخيرة بحكم أن الغاية من التدقيق تتمثل أساسا في تقييم مدى احترام السياسات والمخططات والقوانين والأنظمة المعمول بها في مجال التصرف في المال العام، علاوة على الحفاظ على الممتلكات العمومية والاستعمال الأمثل والفعال للموارد المالية، من أجل تحقيق الأهداف المتوخاة من كل نشاط وبرنامج عمومي، كما يسعى التدقيق إلى محاربة الغش والأخطاء وتطوير المستندات المالية والحسابية لتحقيق هذه الغاية. ومن ثم فالهدف الأساسي من التقنيات المعتمدة في عملية التدقيق هي تنبيه الجهات القائمة على تدبير الشأن العام المالي والإداري، للمخاطر العامة والخاصة، التي يمكن أن تعيق العمل الجيد لأية منظمة أو هيئة عمومية، علاوة عن المشاكل الهيكلية والبنيوية التي تعترض الدولة، بشكل عام.

ضرورة تدقيق المالية العمومية: المؤسسات العمومية نموذجا

أبرزت دراسة أصدرها مؤخرا المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية حول أزمة المالية العمومية ان المؤسسات العمومية تمثل احدى أبرز ضحايا سوء التصرف والافلات من العقاب والبيروقراطية القائمة على الولاء مقابل الامتيازات في غياب المحاسبة والمسائلة سيما فيما يهم تعيين المسؤولين وتقييم النتائج. وفي ظل هذا النموذج من “الحوكمة” وقع استعمال المؤسسات العمومية من منطلق “رزق البليك” لتخفيف بعض الأعباء الاجتماعية مثل التشغيل الذي يفوق الحاجة واعتماد أسعار دون التكاليف للحد من التضخم المالي وتكليف المؤسسات العمومية في العديد من المناسبات بالمساهمة في انجاز البنية التحتية أو القيام بنفقات لا تدخل في مشمولاتها كمؤسسة إنتاج تواجه، من جهة منافسة القطاع المنظم، ومن جهة أخرى تغول القطاع الموازي بالإضافة الى التسيير المركزي البيروقراطي المكبل والمحبط للمبادرة والتجديد والابتكار.

وكلفت هذه الوضعية تسجيل المؤسسات العمومية لخسائر ناهزت سنة 2018، وفقا لبيانات وزارة المالية، نحو 4755 مليون دينار وديونا قيمتها 30968 مليون دينار مما يجعل الدين العام مساويا فعليا لحوالي 130 بالمائة من الناتج المحلي غير بعيد عن مستوى الدين العام اللبناني الذي يناهز 148 بالمائة من الناتج.

وزيادة عن تداعيات الاختيارات الفاشلة منذ 1986 ساهمت مرحلة 2011 حسب دراسة المنتدى في تفاقم وضع المؤسسات العمومية في ظل انهيار الدولة وتنامي عقلية تقاسم الغنائم انطلاقا من منطق التعويضات، من جهة وفي إطار تداخل وتشابك العلاقات بين المال خاصة الفاسد منه والأعمال، من جهة أخرى. كل هذه الاختيارات والسلوكيات مثلت الأسباب الرئيسية لأوضاع المؤسسات العمومية المنهارة. وقد دافعت عديد الأطراف لتدعيم وتكريس هذه الاختيارات واليوم نفس هذه الأطراف تتألم وتبكي الأوضاع السائدة في المؤسسات العمومية لتبرير حرصها على مواصلة خوصصتها و حسب ادعائها لتخفيف العبء الذي لا طاقة للدولة بتحمله.

ومن خلال الإحصائيات الشاملة لخوصصة 217 منشأة عمومية يتضح أن المداخيل المسجلة قد بلغت 6013 مليون دينار منها نحو 90 بالمائة نتيجة استثمارات أجنبية. مثل هذه الخوصصة أدت الى مجرد نقل ملكية طاقة إنتاج قائمة الذات من القطاع العام الى القطاع الخاص بدون المساهمة في توسيع النسيج الاقتصادي وخلق طاقة إنتاج ثروة إضافية. بل مثل هذا الاستثمار الأجنبي ساهم فقط في تنامي تحويل الفائض الاقتصادي أي المرابيح الى الخارج وتقليص القدرة التراكمية للاقتصاد. كما تمتع الاستثمار الأجنبي إلى جانب الامتيازات الجبائية والمالية العديدة بموارد برنامج تأهيل المؤسسات بالنسبة للمؤسسات العمومية المخوصصة التي قامت بتجديد وتطوير آليات إنتاجها.

والجدير بالملاحظة حسب دراسة المنتدى أن برامج الخوصصة في تونس لم تسبقها دراسات جدية لتقييم وضع المنشآت العمومية والإشكاليات التي تواجهها والأدوار التي تقوم بها في المسار التنموي وإمكانيات تطويرها أو تعديلها طبقا للمتغيرات الداخلية والخارجية الطارئة في المجال التنموي. كما أنه الى حد الآن لم تقم السلط المتعاقبة بتقييم جدي للخوصصة التي وقعت منذ 1987 رغم ارتفاع عديد الأصوات المطالبة بهذا التقييم قبل مواصلة العمل بخوصصة القطاع العام. وحتى في مرحلة ما يسمى بالانتقال الديمقراطي فقد سجل رفض مجلس نواب الشعب قبول القيام بهذا التقييم كما سجل رفضه القيام بتدقيق فيما يخص المديونية العمومية والبحث في إمكانية إلغاء جزء منها باعتباره غير شرعي.

ولدى التوسع في دراسة وضعية المؤسسات العمومية واعتماد عيّنة تمثيليّة تشمل البنوك والصناديق الاجتماعية والمؤسسات المتخصصة في الصناعات النفطية والنقل والدواوين والشركة التونسية للكهرباء والغار والشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه فإن المؤشرات تكون جد معبرة.

وعلى هذا المستوى، تصل نهاية 2018 قيمة كتلة حجم الأجور لهذه العينة المتكوّنة من 31 مؤسسة عمومية إلى 3736 مليون دينار مما يعنى أن كل موظف فيها يتقاضى شهريا أجرا خام (دون الاقتطاعات الاجتماعية والضرائب) يساوي، في المعدل، 3251 دينار باعتبار أن اجمالي عدد الموظفين يقدّر بـ 95749 موظفا.

في المقابل، يصل دعم الدولة لها في ذات العام الى 4418 مليون دينار مع بلوغ تداينها ما يعادل 6.9 مرات أموالها الذاتية وهو ما يقتضي قانونا إشهار تعثرها وطلب تسوية وضعياتها لدى الدوائر التجارية بالمحاكم التونسية علما ان المؤسسات العمومية التي استهلكت بالكامل أموالها الذاتية وأصبحت ذات رأس مال سلبي هي عديدة.

وتبقى الوضعية حرجة عموما لا في محور الجرائم التي ارتكبت وترتكب الى اليوم فيما يتعلق بالتصرف في المال العام في المؤسسات العمومية بل في محاور عديدة على غرار التداين اذ ان 60 بالمائة من الديون التي تحصلت عليها تونس حسب السلاسل الإحصائية للوزارة المالية مصنفة في بند “الدعم المباشر لعجز ميزانية الدولة” اي انها قروض مجهولة الصرف وهو ما يجعل أول عمل محمول على الحكومة القادمة يتمثل في تنظيم هذه الفوضى وعدم تكرار تجارب صنع النجاح بالفشل والفاشلين وهو ما يمر حتما عبر تدقيق مستقل ومحكم يرمي في النهاية الى الردع والمسائلة واسترجاع أموال المجموعة الوطنية المنهوبة حتى لا تتواصل مأساة المالية العمومية وتستفحل أزمتها.

نشر باسبوعية “الشارع المغاربي بتاريخ الثلاثاء 28 سبتمبر 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING