الشارع المغاربي : باحت الجولة الثانية من المعركة الانتخابيّة، أي مرحلة قبول القائمات المرشّحة للانتخابات البلديّة، بمختلفِ أسرارها وإن لم تشكّل مفاجأة كبيرة في ما يخصّ موازين القوى أو التوزيع الجغرافي للحضور الحزبيّ في المناطق البلدّية، قديمها ومستحدثّها. ذلك أنّ الصدارة آلت عمليّا في ما يخصّ القائمات المودعة، إلى حركتي النهضة ونداء تونس، بـ350 قائمة لكلّ منهما، ثمّ الجبهة الشعبيّة بـ132 قائمة، أي بفارق 168 قائمة عن المتصدّرين، ثمّ حركة مشروع تونس بـ 84 قائمة والتيار الديمقراطي بـ72 قائمة، لتتقاسم بقيّة الأحزاب والإئتلافات الحزبية والمستقلين ما تبقى من العدد الجملي للقائمات المقدّر بـ 2173 قائمة.
صحيح أنّ هذا التوزيعُ يظلّ ظرفيّاـ في انتظار البت النهائي فيها، لكنّها في المقابل توفّرُ رصيدًا مهمّا من الملاحظات التي تلقي الضوء لا فقط على طبيعة المشهدين السياسي والانتخابي، وموازين القوى فيهما، وإنّما أيضا عن تباين الأهدافِ من العملية الانتخابيّة وطبيعة المرحلة التي سيفرزها الاستحقاق البلدي في انتظار تشريعيات ورئاسيات سنة 2019.
النّهضة وفيّة لاستراتيجيتها… والتخبّط للبقية…!
أولى الملاحظات المستخلصة من هذه الجولة الثانية في المعركة الانتخابية، هي في تمكنّ النهضة من تسجيل حضورها في كامل الدوائر الانتخابية، إضافة إلى حركة نداء تونس، وهو ما يعكسُ حرصًا حقيقيّا على تثبيت وجودها في لعبة “الهرم المقلوب“، باعتبار أنّ هذا الموعد الانتخابي هو المحرار الحقيقي، لا فقط لجاهزية الحزب للمواعيد القادمة، وإنّما لتجذير حضوره في الداخل التونسي، والسيطرة على ميكانيزمات اللعبة السياسية في كلّيتها. وإذا كان صحيحا انّ نداء تونس يقاسم النهضة الصدارة، على مستوى القائمات المودعة، فإنّ ما يميّزُ الحزبين هو بالنهاية “التخطيط” في عمليّة إعداد القائمات وتنشيط المتحزّبين والمستقلين حولها.
في هذه النقطة، برزت النهضة مرّة أخرى بانضباطها ودقة اختياراتها، سواءً عبر التعويل على كتلتها التاريخية أو في انفتاحها على المستقلين، أو في تعويلها على الوجوه التجمّعية، التي لم تنجح خزاناتها الحقيقية، على غرار نداء تونس وبقية الطيف الدستوري– التجمعي، في اغرائها أو في قدرتها على صنع الحدث من خلال فتح باب المشاركة لحساسيات أخرى، على غرار التونسي، ابن الطائفة اليهودية، سيمون سلامة. بل إنّ قدرة النهضة تبرزُ خاصة في تقدّمها داخل المعاقل التقليدية لحركة نداء تونس، وهو ما يكشفُ في النهاية أنّ إعداد القائمات لم يكن وليد الربع ساعة الأخير وإنّما يندرجُ ضمن استراتيجية الحزب للتموقع “قاعديا” بعد نجاحه في ضمان موقع مريح داخل الائتلاف الحاكم. هذا الإعداد الجيّد لا ينفي في المقابل إمكانية وقوف النهضة وراء عدد من القائمات المستقلّة، وهي لعبة تتقنها هذه الحركة، في إطار تقليص حظوظ البقيّة، عبر تقنية تشتيت الأصوات.
في الجهة الأخرى، برزت حركة نداء تونس بتخبّطها في عملية إعداد القائمات، رافعةً شعار “كما اتفق“، رغم تحوّزها على أوراق مهمّة، لعلّ أبرزها سنّة التداخل بين الإدارة والحزب، وتجنيد وزرائها للإشراف على عملية تجهيز القائمات، وتعويلها على “مسؤوليها” داخل الولايات والمعتمديّات. وإذا كانت الحصيلة النهائيّة إيجابيّة، باعتبار تمكن الحركة من تسجيل حضورها في كامل الدوائر الانتخابيّة، فإنّ الحصاد قد لا يكون بنفس مستوى الجودة في انتظار البت النهائي في القائمات. أضف إلى ذلك المشاكل التي حفّت بعملية إعداد القائمات على غرار استقالة النائب حسام بونني من الكتلة البرلمانية احتجاجا على وضعه في قائمة انتخابية دون علمه أو تلويح أعضاء المكتب الجهوي للحركة بصفاقس 2 باستقالة جماعية بسبب ما اعتبروه “تدخّلاُ” في قائمات الجهة دون استشارتهم.
في ما يخصّ أحزاب المعارضة، أثبتت الحصيلة النهائية، الفارق الجوهريّ بين “الجعجة” و“الواقع“، ذلك أنّ الجبهة الشعبية التي تقدّمُ نفسها على أنّها الممثّل الشرعي للمعارضة، بل والخطّ السياسي الثالث، على مستوى توزيع موازين القوى، لم تتمكّن من تسجيل حضورها إلاّ في 132 دائرة، مسجلّة نتيجة متقاربة مع أحزاب مشكلة حديثًا على غرار حركة مشروع تونس أو التيار الديمقراطي، وهو ما تسبب في تململ أنصارها في انتظار الحصاد النهائي.
عمالقة من ورق… والمستقلون عامل ضغط!
ولئن شكّل حزب التيّار الديمقراطي المفاجأة الوحيدة تقريبًا في هذه الجولة، مقدّما نفسه على أنّه ممثلّ خط “تيّار الوسط الاجتماعي“، فإنّه اتّضح أنّ عددا من الأحزاب التي تقدَّم على أنها تتحوّز على إمكانات مادية أو خزانات انتخابية ضخمة، على غرار حراك تونس الإرادة والبديل التونسي وآفاق والحزب الدستوري، “عمالقة” من ورق، رغم “الخبرة” السيّاسية التي تتمتّع بها سواءً في مرحلة النظام السابق أو في مرحلة ما بعد الثورة. ذلك أنه ولا حزب من هذه الأحزاب تخطى حاجز الخمسين قائمة وهو ما يؤكّد مرّة أخرى أنّه خارج “الحضور” الإعلامي لا ثقل حقيقي لهذه الأحزاب في الواقع.
من جهة أخرى سجّل المستقلون حضورهم بقوة، ذلك أنّ التوزيع النهائي للقائمات، مكنهم من تسجيل الحضور بـ 899 قائمة مقابل 1099 قائمة حزبية و177 قائمة ائتلافيّة. ولا شكّ أنّ المستقلين قادرون على إحداث مفاجأة بلديات 2018، من خلال الاستفادة من عاملين مهمّين في تقديرنا: الأوّل أنّ المحرار الحقيقي في الانتخابات البلدية هو “الاشعاع” على مستوى الدائرة الانتخابية وهو عاملٌ محدّد في المسار الانتخابي والثاني استغلال خيبة أمل التونسيين من الأحزاب لتقديم بدائل قريبة بل و“مواطنيّة“، الأمرُ الذي يشكّلُ عامل ضغط كبير على الأحزاب المشاركة من جهة تشتيت الأصوات أوّلا واختلاف طبيعة الانتخابات البلدية عن بقية المواعيد الانتخابية، حيثُ تتدخّل ظروف أخرى ذات طبيعة خاصة (عشائرية وقبلية واجتماعية واقتصادية وغيرها…) في اختيارات الناخب التونسي.
في انتظار اختبار التثبيت النهائي… !
هذه الملاحظات لا تعني أنّ الطريق سالكة أمام الجميع، ذلك أنّ الاختبار الحقيقي والمحدّد، أي الفرز الذي ينجزه الصندوق، لم يبدأ بعد. وهنا تدخل القائمات، سواءً كانت حزبية أم لا، في مرحلة أخرى هي الأخطرُ على الإطلاق. ذلك أنّ المسار نفسهُ تتهدّدهُ أخطار متنوّعة كعدم حياد الإدارة، في ظلّ تحوّز كبيري المشهد السياسي على “كمّ” معتبر من الولاة والمعتمدين، أو ببساطة عزوف التونسيين عن المشاركة في العملية الانتخابيّة. وما من شكّ أن السيناريو الأخير يعتبرُ كابوسًا حقيقيّا للأحزابِ تحديدًا تمامًا كعمليّة فرز الأصوات التي ستثبّتُ نهائيا خارطة موازين القوى في المشهد السياسي، تلك الخارطة التي ستكون محدّدة في موعد 2019.
أضف إلى ذلك، ستبنى نتائج الانتخابات على الأهدافِ من المشاركة فيها. فإذا كان هدفُ النهضة استنساخ التجربة التركية في البيئة التونسية، والتي أهّلت أردوغان وحزبه، إلى حكم تركيا طيلة هذه المدّة بعد نجاحهِ في تنشيط “بلديات الهامش“، فإنّ الحصاد لا نراهُ مختلفا كثيرًا عن الحصاد التركيّ. أما بالنسبة لنداء تونس، فهذا الحزب خسر الكثير في معاركه المعويّة، ولا نعتقدُ أنّ نتائج الانتخابات– خاصة أن جزءًا من الدعاية الانتخابية المضادة ستتأسّس على إبراز فشله في إدارة المرحلة الحالية– ستكونُ في مستوى تطلعات قيادتهِ، علمًا أنّ هذا الحزب دفع ثمن “حروبه الداخليّة” بالفعل من خلال كمّ القائمات “المنشقة” عنه التي سجّلت حضورها كمنافسة له ولحليفه “المؤقت” حركة النهضة.
أمّا عن بقية الأحزاب، فقائماتها المقدّمة، حدّدت وزنها وثقلها في المشهد السياسي، وسيكونُ حصادها الانتخابي، في تقديرنا، في مستوى بنيتها الذهنيّة ورؤيتها للعمليّة السياسية. وفي انتظار مفاجأة قد تأتي، وقد لا تأتي، من المستقليّن، تخرجُ حركة النّهضة مرة أخرى، على الأقل في هذه المرحلة من السباق، في جبّة المنتصرِ تاركةً الأحلام…للآخرين.