بقلم وليد أحمد الفرشيشي
الشارع المغاربي : من حدثٍ فارقٍ عرفته تونس، هو تضمين “حرية الضمير” و”تحجير التكفير” في دستورها، يعودُ بنا الجامعيّ والروائيّ شكري المبخوت إلى صفحات في تاريخ تونس لم يقع استنطاقها جيّدًا، هي بلا مواربة محطات التكفير الكبرى التي شهدها القرن الماضي، محطاتٌ كان أبطالها “تنويريّين” في مواجهة “إكليروس ديني”، كان بشكل أو بآخر يمثّلُ قلاع الردّة في مواجهة مشاريع تحديثيّة، رافقت محطات التحرير السياسي الكبرى.
فمن الشيخ عبد العزيز الثعالبي، مرورًا بالطاهر الحدّاد، وانتهاءً بالزعيم الحبيب بورقيبة، يستنطقُ صاحب جائزتي البوكر والملك فيصل، في هذا الجزء الأوّل من ثلاثيته الموسومة بـ”تاريخ التكفير في تونس” والصادرة عن دار “مسكلياني” لصاحبها الكاتب شوقي العنيزي، محطات “الاشتباك” الكبرى، بين فكرين متضادّين، بروافدهما المختلفة -التي تنهلُ هي الأخرى من مشارب وثقافات متصادمة إن لم نقل تعيشُ حالة قطيعة معرفية شائكة- وضعا “التكفير” في مواجهة مفتوحة مع “التفكير” أو “الجمودُ” في مواجهة “الانفتاح” أو أيضًا “الاسفار التي تحملها البغال” في مواجهة “قطار التحديث السريع”.
القرن العشرين في خدمة الجمهورية الثانية!
وبلا مواربة، يستحقُّ هذا الجزء الأوّل من ثلاثية “تاريخ التكفير في تونس”، هذا الذي قدّم ثلاث شخصيّات “إشكالية”، بالمعنى المعرفي للكلمة، في مواجهتها للإكليروس الديني واشدّ أسلحته فتكا بالعوامّ والخاصة على حدّ سواء، أي التكفير، وسمَ “الكتاب الجامعِ”، لا فقط من جهته بنيتهِ العلميّة الصارمة- حتّى وإن نفى شكري المبخوت أن يكونُ كتابه “أكاديميّا”- ودقّة مصادره واستنطاقهِ للنصوص والشهادات التاريخيّة، وإنّما من جهة انفتاحهِ على أكثرِ من حقل معرفيّ وأكثر من منهجٍ بحثّي، بل أنّ أحد أوجهُ طرافة هذا الكتاب، يكمنُ أساسًا في هذا المزج السلس بين اشتراطات الكتابة العلميّة الجادة والانفتاح على مجمل الفنون السرديّة- كالحكي والقصّ وحتى السيناريو- الامرُ الذي يجعلهُ متاحًا لكلّ قارئ، حسب درجة فهمه وعلمه أو حتى قربه أو ابتعادهُ، أيديولوجيا على وجه الخصوص، من أبطالِ هذه الرواية التاريخيّة التي مهدّت فيما بعد للحظة الفارقة في دستور الجمهورية الثانية، وهي تضمين حرية الضمير والمعتقد وتجريم التكفير في فصله السّادس.
ونحنُ نعتقدُ، دون شكّ، أنّ أحد أوجه “المكر” في هذا الكتاب، هي استجلاب القرن العشرين، الذي شهد أولى بداية الاصطدام لا بالاستعمار الفرنسيّ فقط وإنّما أيضا بالخطاب الديني المتحجّر، إلى قرننا هذا، بل وإلى الجمهورية الثانية نفسها، وكأننا بالكاتب ينّبهُ إلى مسألتين على غاية من الخطورة: الأولى، أنّ “تجريم التكفير” الوارد في الفصل السادس من دستور الجمهورية الثانية لا يمكنُ عزله عن سياقاته التاريخيّة واعتمالاته المجتمعيّة والثقافيّة التي مهدّت لهذه اللحظة التونسية الفارقة، وأمّا الثانية، فهي أنّ هذه اللحظة نفسها لا تزالُ مهدّدة وهاجسُ “التكفير” يسيطرُ على قطاعٍ واسع من الشعب التونسي وإنّما في تغلغه داخل أدبيات الأحزاب الدينية -النهضة نموذجًا- حتى وإنّ حاولت التملّص من ذلك بارتدائها مسوح الديمقراطيّة، إضافة إلى توّزع رقعة غلاة التكفيريين، محليّا وإقليميا ودوليّا، ممثلة في أكثر نماذجها دمويّة، أي تنظيم الدولة الإسلامية.
وانطلاقًا من هذه الرؤية، لا يمكنُ التعاملُ مع هذا الكتاب، كحدثٍ سرديّ أو تأريخيّ، بل كوثيقة مهمّة تؤسّسُ لمشروعيّة تجريم التكفير وتوفّرُ المناعة اللازمة لتضحيات النخبة التونسيّة في مواجهة المدّ التكفيري، داخليا وخارجيّا، من خلال استنطاق الماضي، هذا الماضي الذي تشكّلت في رحمهِ نواة الجمهوريّة الثانية، والذي يواصلُ تحقيق حضورهِ في حاضرنا ومستقبلنا، من خلال بنيتين فكرّيتين تتنازعان الفضاء العامّ، واحدة تقليدية نكوصيّة وأخرى تحديثيّة تقودُ معركة التنوير، فوق الحصى والأشواك، فاتحة الأبواب المغلقة على غرار المساواة في الميراث وغيرها من القضايا التي تزعجُ “العقل النكوصيّ”.
في استنطاق الذات التونسيّة أوّلاً… !
وإذا كان الكتابُ، المتوزع على 345 صفحة بفصوله وملاحقه ومراجعه، ينطلقُ عمليّا، من استنطاقه الدلاليّ والتاريخيّ، لأصل التكفير وفصلهِ، في الفصل الأول الموسومِ بـ”مدخل إلى التكفير: مملكة الرحمن ومملكة الشيطان”، فإنّهُ في تركيزه على “الاعتقاد القادريّ”، أو مواجهة الخليفة القادرُ بالله لأغلب الفرقِ في عصره، بتهمة الزندقة والكفر، يعيدُ “التكفير” إلى سياقه العمليّ وروافدهِ الأكثر براغماتية، وهو سياق لا يغرفُ من النّص الديني فقط، وإنّما إلى
تداخل الديني بالسياسي، تداخُلٌ “شموليّ” و”سلطويٌّ”، يجدُ أساسه في تلك “النزعة نحو الهيمنة على رؤوس الأموال الرمزيّة والدينية واستثمارها لترسيخ السلطتين الروحيّة والمادية”.
هذه المسلمة النظرية سرعان ما ستجدُ لها مبررات والكاتبُ يرافقُ مأسسة “التكفير” في العصر الحديث مستنطقًا كتابات أئمة التكفير، وتوجهات النزعات التكفيرية في استهدافها للحاكم والمجتمع والمجموعات مرورًا بالاشتباك الحاصل بين التكفير والمسألة الحقوقية، ليستنطق الكاتب في كلّ ذلك النصوص الدينية والوضعيّة وحتى الحقوقيّة، تدليلاً على أن الظاهرة لم ولن تكون مقيمة بقدر ما هي ظاهرة ترافقُ أيّ نزعة لتحديث المجتمعات، الخارجة لتوها من الاستعمارِ، وخاصة المجتمع التونسيّ، الذي يهتمّ له الكتاب بدرجة أولى.
ذلك أنّ الكاتب يقدّمُ ثلاث محطات رئيسيّة عرفت هذا الاشتباك بين البنى التقليدية للمجتمع التونسي، وبنى التحديث الرافضة لكلّ أشكال الوصاية، هي عبد العزيز الثعالبي في الفصل الثاني الموسوم بـ”قصة تكفير عبد العزيز الثعالبي ومحاكمته: من فضائح القرون الوسطى في غرة القرن العشرين”، والطاهر الحداد في الفصل الثالث الموسوم بـ”مأساة الطاهر الحدّاد مع “إكليروس الزيتونة”، والزعيم الحبيب بورقيبة في الفصل الرابع الموسومِ بـ”فضيحة المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة”، وهي فصولٌ لن نحرم القارئ التونسي والعربيّ، من متعة الاطلاع عليها والتطلّع إليها ايضًا بعيدًا عن أيّ محاولة لتحكيم أيّ ذائقة، سواء كانت علمية أو تاريخية أو سرديّة، لكونها أوّلاً نتاجًا أصيلاً بين أكثر من حقل معرفّي وفنّي أيضَا، وثانيًا، لكي نوفّر للقارئ فرصة تفكيك هذه النصوص وقراءتها بعيدًا عن تيارات الشدّ والجذب التي باتت تتحكّم في الفضاء العام الذي بدا بدوره خاضعًا لإكراهات الماضي وشخوصهِ وسياقاته وخاصة حروبه.
سنكتفي هنا بالتأكيد على أنّ هذه الفصول تحديدًا، تحاورُ الشخصية التونسيّة وتستنطقها بل وتحاكمها علانيّةً، من خلال أبطال روايتها الأصيلة واصطدامهم بجرّافات الجمودِ والتكلّس والتكفير. وبالتأكيد، فإنّ شكري المبخوت، وهو يوجّه دفة قاربه نحو هذا البحيرة الاسمنتية، لم يكن يسعى إلى تقديم “درس مدرسيّ” أو قصصا ليليّة تهدهدُ التونسيّ، الذي يعيشُ ممزقا بين صراعات الماضي وأعطاب الحاضر، وإنّما يفكّكُ الخلفيات السوسيولوجية والسياسية والثقافيّة، لكلا العقلين، أيّ “العقل الديني” المنسجمِ مع حالة العسكرة التي يمارسها على النص الديني واندماجه “الماكر” في لعبة السياسة مع ما توفّره هذه اللعبة من اغراءات تجدُ لها صدى في مفردات ملتبسة كالحاكمية والتمكين وغيرها، وبين “العقل التنويري”، الذي يقودُ هو الآخرُ معركة غير منفصلٍ عن غريمه بل وغارفًا أيضا من نصوصهِ متى احتاجها، دون أن يضيع بوصلة التحديث داخل مجتمعاتٍ هي أقربُ على “الميتا-حداثة” منها إلى الحداثة.
وبالمحصلّة، فإنّ كتاب “تاريخ التكفير في تونس”، هو كتابٌ يسعى إلى تحفيز القارئ إلى غزالة القشرة الدينية ليصل على اللبّ السياسي، وهو يتعاطى سردًا وتفكيكا وتحليلاً للسياقات والأبعاد الكبرى التي حفّت بالقضايا التكفيرية الكبرى في التاريخ التونسي.