الشارع المغاربي :تعبير” السيادين” هو مصطلح نقترحه للدلالة على الخليط المتفجّر بين السّياسة والدين، وفي الحقيقة فإنّ الظاهرة الدينيّة وُلدت من رحم العنف الأصلي في الكون وسرعان ما ارتبطت بالسلطة عموما ثمّ السلطة السياسيّة بالخصوص ليتشكّل مثلّث المقدّس للرّعب والرّهبة والعنف، وقد أكّدت البحوث الأنتروبولوجيّة ودراسة الأديان المقارنة، أنّ العنف ملازم لأصل الظاهرة الدينيّة وجوهرها، بل إنّ هذه الظاهرة نشأت أصلا من وعي الإنسان المبكّر بما يتعرّض له من عنف كونيّ شامل ومدمّر، فلا إمكانيّة للاستمرار في الوجود إلاّ بالصّراع والمواجهة مع عنف الطّبيعة والكائنات الوحشيّة والأقدار، وهي كلّها أشكال من العنف تتجاوز طاقته البدنيّة المحدودة، وكان عليه اللّجوء إلى السلاح الوحيد الّذي خصّته به الطبيعة دون غيره من الكائنات وهو العقل الّذي مكّنه، بتراكم التجارب، من ابتداع منظومة ثقافيّة سحريّة لاحتواء ذلك العنف الكوني وتحويله عبر تجريده وتمثّله في شكل قوى غيبيّة متعالية ممثّلة في آلهة عديدة تتقاسم العنف وتفرغ جزءا منه في الصّراعات المرعبة فيما بينها، ويحاول الإنسان دفع الأذى المترتّب عن النصيب الموجّه إليه عبر قنوات طقوسيّة تمثّلية بدأت بتقديم الأضاحي البشريّة من الأطفال خاصّة لهؤلاء الآلهة دفعا لأذاهم عن الجماعة والأفراد.. ثمّ مع تطوّر العقل البشري، أوجد الإنسان أضحية خادعة “Leurre” تستقطب نهم الآلهة للدم وتحيد به عن الأضاحي البشريّة إلى أضاح حيوانيّة،، ولئن حرّر ذلك الطفولة من مخاطر الذّبح والحرق في معابد الآلهة القساة، فإنّ تحوّل الظاهرة الدينيّة العنيفة ذاتها إلى ظاهرة ثقافيّة جعل الإنسان مع الزمن يتشرّب جزءا من ذاك العنف المقدّس، ليتعالى به إلى مصافّ الآلهة وهو ما يفسّر في حالته القصوى ظاهرة الملوك المتألّهين، وهو أيضا ما أبّد العلاقة بين الوعي الدّيني والعنف، هذا الوعي الّذي يحتدّ كلّما تأزّمت الأوضاع الماديّة والمعنويّة للأفراد والجماعات، وازدادت هشاشة، وذلك في إطار عمليّة تعويضيّة عن مشاعر الضّعف والإهانة والخوف على الوجود الفعلي أو الثقافي. ومهما كانت فظاعة هذا العنف وقسوته، فإنّ إضفاء صفة القدسيّة عليه وربطه بمنظومة طقوسيّة وإدراجه ضمن رسالة إلهيّة، تجعله عنفا سائغا تلتذّ به الرّوح الهشّة وتتداوى من وجع ضعفها الأصلي وهشاشة أوضاعها، وذلك عبر ثنائيّة الجهاد/الشهادة.
إنّ المتتبّع للتّاريخ العربي الإسلامي يلاحظ العلاقة العضويّة بين ظهور حركات العنف المقدّس وانتشارها من جهة، واستفحال واقع التأزّم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي من جهة ثانية. كذلك كان الشأن عند ظهور حركة الخوارج ثمّ حركة القرامطة والحركة النزاريّة الّتي أنتجت الحشّاشين وكذلك يمكن أن نفسّر ولو جزئيّا انبعاث حركات الإسلام السياسي العنيفة بعد هزيمة 1967 .
وبعكس العنف العادي الّذي يظلّ على العموم عنفا فرديّا، فإنّ العنف المقدّس ينشأ ويتطوّر عنفا جماعيّا، ولصبغته تلك سرعان ما يمتزج بالعنف السياسي وهو ما يكسبه حدّا أعلى من الخطورة لأنّه يتحوّل إلى “إرهاب مقدّس”، له فرقانه ونواميسه وطقوسه وفتاواه وتنظيماته وقدّيسوه وشيوخه.
وكما نبّهنا في كتابنا “التعبير الدّيني عن الصراع الاجتماعي في الإسلام”، فإنّه “من العبث أن نبحث عن سرّ الإرهاب، باعتباره الشكل الأكثر تدهورا للتعبير دينيّا عن طموحات الفئات والشعوب المقهورة، في هذه الآية أو تلك من القرآن الكريم، كآيات الجهاد مثلا، لأنّ السرّ يكمن في تدهور الواقع المفروض داخليّا وخارجيّا، وهو واقع من شأنه أن يفرّخ قراءات إرهابيّة لأكثر النّصوص الدينيّة تسامحا”.
إنّ كلّ ما يحدث في السنوات الأخيرة في هذا المجال يؤكّد رجاحة ما قاله كارل ماركس في “نقد فلسفة الحقوق عند هيغل” من أنّ “البؤس الديني هو في شطر منه تعبير عن بؤس الواقع، وهو في نفس الوقت احتجاج على ذلك البؤس الواقعي نفسه”.
السّلفيّة من الفكرة إلى الدّعوة فالجهاد
لا شكّ أنّ تنظيمات الإسلام السياسي الناشئة في هذا السياق في العصر الحديث، بداية من تأسيس جماعة الإخوان المسلمين إلى اليوم، قد تأثرت بطبيعة الأوضاع المتأزّمة الناتجة في مرحلة أولى عن الصدمة الاستعماريّة ومدّ الحضارة الغربيّة، وعن خيبات الأنظمة الوطنيّة وفشلها في تحقيق التنمية والعدالة والعزّة الوطنيّة، في مرحلة ثانية. وجاءت هزيمة 1967 لتمثّل نقطة تحوّل مفصلية على مسار تجذّر هذه التنظيمات وإغراقها في العنف، مقارنة حتى بالتنظيم الأم الذي فرّخها جميعا، وهو تنظيم “الإخوان المسلمون” الذي ظهر بمصر في سنة 1928 وكان هو نفسه يتبنّى العنف ويمارسه عن طريق جهاز خاصّ سرّي.وهذه الحقيقة ينبغي أن تدفعنا إلى تنسيب ما ذهب إليه نصرٍ حامد أبو زيد في مقالة بعنوان”الخطاب الديني المعاصر: آلياته ومنطلقاته الفكريّة”، وذلك بقوله: “الحقيقة أنّ الناظر في الفارق بين “المعتدل” و”المتطرّف” من الخطاب الدّيني لا يجد تغايرا أو اختلافا من حيث المنطلقات الفكريّة أو الآليّات، ويتجلّى التّطابق في اعتماد نمطيﹾ الخطاب على عناصر أساسيّة ثابتة في بنية الخطاب الدّيني بشكل عامّ، عناصر أساسيّة غير قابلة للنقاش أو الحوار أو المساومة”. فالواقع يثبت أنّها تختلف، كثيرا أو قليلا، في حدّة العنف الممارس وقنوات تفريغه وطبيعة الأهداف التي ينصبّ عليها، وذلك بحسب طبيعة الظروف الحافّة بها وخصوصيّات المجتمعات الّتي أفرزتها، وهذا الاختلاف يكون أحيانا على غاية من الأهميّة وإن كانت تنطلق جميعا من جذع مرجعيّ مشترك .
إذا نظرنا في أدبيات مختلف هذه التنظيمات وممارساتها سنجد أنّها تنطلق كلّها من نفس المرجعيّة الأصوليّة من كتاب وسنّة وعمل السلف الصالح،ولكنّها تختلف في قراءة هذه المرجعيّة وفي أشكال تمثّلها ممّا أدّى إلى إعادة ترتيب للأولويّات وإعادة تأهيل للآليّات ومراجعة لفرز”الفرق الضالّة” وكيفيّة التعامل معها قياسا على عمل الجماعة المسلمة الأولى زمن الوحي والعقود الّتي تلت موت الرسول (صلعم) والّتي يعبّر عنها اصطلاحا بالسّلف الصّالح، كما سمّيت الحركة الفكريّة الدينيّة الّتي تمحورت حولها بالحركة السلفيّة، وهو مصطلح، رغم جذوره القديمة، تبلور مع بروز حركة الإصلاح الديني بزعامة الشيخ جمال الدين الأفغاني في أواخر القرن التّاسع عشر، وكان هدف الأفغاني نقل التجربة الإصلاحيّة التجديديّة اللّوثريّة من المسيحيّة إلى الإسلام لجعل الديانة المحمّديّة متلائمة مع روح التطوّر والتقدّم الحضاري الّذي تعيشه الإنسانيّة في هذا العصر، ولكنّ صدمة الاستعمار وتدخّله المباشر في صياغة واقع المسلمين وتهديده لهوّيتهم الدينيّة والثقافيّة، وفي إطار ردّة فعل غريزيّة، تدفع طبيعيّا إلى التقوقع والانكماش على الذّات، أخذ الفكر السّلفي الإصلاحي يضيق ويتحوّل من دعوة إلى التجديد إلى مقاومة مقدّسة لكلّ جديد أو تغيير، وعمل مستميت للفرار من الحاضر الحضاري والاجتماعي والسياسي الموسوم بثقافة “الآخر/ الغرب المعادي” حتّى يتمّ التماهي الموهوم مع صورة مصفّاة ومثاليّة للماضي الذاتي قصد الاحتماء بها وطمأنة الضمير الجمعي .. لذلك نلاحظ أنّ تلامذة الأفغاني المتعاقبين: محمّد عبده ، رشيد رضا، ثم حسن البنّا، رغم محافظتهم على الانتماء إلى المنظومة السلفيّة كان كلّ واحد منهم يزيد في تضييقها عمّا كانت مع سابقه إلى أن انتهت على يدي حسن البنّا إلى تنظيم دينيّ سياسيّ على غاية من الانغلاق والخطورة وهو تنظيم “الإخوان المسلمون” الذي حوّل الفكرة السلفيّة إلى حزب سياسيّ معسكر، ثمّ ستتحوّل هذه الفكرة مع جماعات الإسلام السياسي اللاحقة إلى تنظيمات شبه عسكريّة مسلّحة ومنغلقة، شعارها مع كلّ من يبقى خارجها الآية 5 من سورة التّوبة:
“…فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصّلاة وآتوا الزّكاة، فخلّوا سبيلهم، إنّ الله غفور رحيم.”
وكأنّهم بذلك يؤكدون قول “رونيه جيرار” في كتابه ” العنف المقدّس” : ” إنّ الدّيني يرشد الناس إلى ما يتعيّن عليهم فعله وعدم فعله تجنّبا لعودة العنف المدمّر، فعندما يهمل البشر الطقوس وينتهكون المحرّمات يحرّضون العنف المتعالي، بكلّ معنى الكلمة،على النزول بينهم مجدّدا والتحوّل إلى مجرّب شيطانيّ، أي إلى رهان عظيم وعقيم في آن، يتقاتلون حوله ويفني بعضهم بعضا، جسديا وروحيّا حتّى الإبادة الكلّية…”