الشارع المغاربي – مخاطر‭ ‬السيطرة‭ ‬الأوروبية‭ ‬الغربية‭ ‬على‭ ‬الثروة‭ ‬البشرية‭ ‬التونسية- بقلم أحمد بن مصطفى

مخاطر‭ ‬السيطرة‭ ‬الأوروبية‭ ‬الغربية‭ ‬على‭ ‬الثروة‭ ‬البشرية‭ ‬التونسية- بقلم أحمد بن مصطفى

25 نوفمبر، 2018

الشارع المغاربي : لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬الفشل‭ ‬في‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الثروات‭ ‬المادية‭ ‬والطبيعية‭ ‬والبشرية‭ ‬وتوظيفها‭ ‬لخدمة‭ ‬المسيرة‭ ‬التنموية‭ ‬الوطنية‭ ‬من‭ ‬ابرز‭ ‬السمات‭ ‬المميزة‭ ‬للدول‭ ‬المتخلفة‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬تونس‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تفاخر‭ ‬غداة‭ ‬الاستقلال‭ ‬بأنها‭ ‬راهنت‭ ‬على‭ ‬النهوض‭ ‬بالإنسان‭ ‬التونسي‭ ‬باعتباره‭ ‬الغاية‭ ‬والوسيلة‭ ‬لأية‭ ‬عملية‭ ‬تنموية‭ ‬ناجحة‭.‬غير‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬تشهده‭ ‬اليوم‭ ‬تونس‭ ‬من‭ ‬انهيار‭ ‬وتفكك‭ ‬اقتصادي‭ ‬واجتماعي‭ ‬ومن‭ ‬هجرة‭ ‬جماعية‭ ‬لكفاءاتها‭ ‬العلمية‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬إقبال‭ ‬الشباب‭ ‬التونسي‭ ‬المكثف‭ ‬على‭ ‬الهجرة‭ ‬السرية،‭ ‬يؤكد‭ ‬إخفاق‭ ‬هذا‭ ‬الرهان‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬خيارات‭ ‬إستراتيجية‭ ‬مدروسة‭ ‬تم‭ ‬تبنيها‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬الآفاق‭ ‬العشرية‭ ‬للتنمية‭ ‬لمرحلة‭ ‬الستينات‭.‬

لكن‭ ‬عدم‭ ‬التمسك‭ ‬بهذا‭ ‬الخيار‭- ‬المرتبط‭ ‬بإنشاء‭ ‬أقطاب‭ ‬صناعية‭ ‬في‭ ‬الجهات‭ ‬وبناء‭ ‬اقتصاد‭ ‬تونسي‭ ‬إنتاجي‭ ‬صناعي‭ ‬وفلاحي‭ ‬بالاعتماد‭ ‬على‭ ‬الطاقات‭ ‬الإنتاجية‭ ‬والإبداعية‭ ‬التونسية‭ -‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬التخلي‭ ‬التدريجي‭ ‬عن‭ ‬جانب‭ ‬هام‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الثروة‭ ‬البشرية‭ ‬التونسية‭ ‬بكافة‭ ‬أصنافها‭ ‬لفائدة‭ ‬المستثمرين‭ ‬الأجانب‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬انخراط‭ ‬تونس‭ ‬أو‭ ‬إدماجها‭ ‬شبه‭ ‬القسري‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬المعولم‭. ‬ في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬سنحاول‭ ‬تسليط‭ ‬الأضواء‭ ‬على‭ ‬خطورة‭ ‬وتداعيات‭ ‬والكلفة‭ ‬الباهظة‭ ‬لهذا‭ ‬النزيف‭ ‬المرتبط‭ ‬بالسياسات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الانفتاحية‭ ‬وبالتوجهات‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬المعتمدة‭ ‬في‭ ‬علاقاتنا‭ ‬مع‭ ‬فرنسا‭ ‬والدول‭ ‬الغربية‭ ‬والمجموعة‭ ‬الأوروبية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬حريصة‭ ‬غداة‭ ‬الاستقلال‭ ‬على‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬نفوذها‭ ‬ومصالحها‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬الضفة‭ ‬الجنوبية‭ ‬للمتوسط‭. ‬ومن‭ ‬ضمن‭ ‬الأساليب‭ ‬المتبعة‭ ‬لتحقيق‭ ‬هذا‭ ‬الغرض‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬نخب‭ ‬محلية‭ ‬مكونة‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬متشبعة‭ ‬بالثقافة‭ ‬الغربية‭ ‬ومرتبطة‭ ‬مصلحيا‭ ‬بفرنسا‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬إيمانها‭ ‬بضرورة‭ ‬تطوير‭ ‬التعاون‭ ‬معها‭ ‬ومع‭ ‬المجموعة‭ ‬الأوروبية‭ ‬باعتبارها‭ ‬الشريك‭ ‬الأساسي‭ ‬لتونس‭.‬ ولقد‭ ‬تعودنا‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬على‭ ‬طرح‭ ‬معضلة‭ ‬السيطرة‭ ‬الأجنبية‭ ‬على‭ ‬ثرواتنا‭ ‬المادية‭ ‬والباطنية‭ ‬ولكننا‭ ‬تغافلنا‭ ‬عن‭ ‬كارثة‭ ‬التفريط‭ ‬في‭ ‬ثروتنا‭ ‬البشرية‭ ‬المقتدرة‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أسباب‭ ‬تخلفنا‭ ‬الأبدي‭ ‬وفشل‭ ‬المسيرة‭ ‬التنموية‭ ‬التونسية‭ ‬منذ‭ ‬الاستقلال‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬المأزق‭ ‬السياسي‭ ‬والأزمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والمالية‭ ‬الحادة‭ ‬اللذين‭ ‬تعاني‭ ‬منهما‭ ‬تونس‭ ‬اليوم‭.‬

خطورة‭ ‬إهدار‭ ‬الثروة‭ ‬البشرية‭ ‬التونسية‭ ‬وتكاليفه
لقد‭ ‬تفاقم‭ ‬الجدل‭ ‬بعد‭ ‬الثورة‭ ‬حول‭ ‬تواصل‭ ‬الاستغلال‭ ‬الفاحش‭ ‬لثروات‭ ‬تونس‭ ‬الطبيعية‭ ‬والبترولية‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬اعتماد‭ ‬الدستور‭ ‬التونسي‭ ‬الجديد‭ ‬بفصله‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬مراجعة‭ ‬الأطر‭ ‬القانونية‭ ‬والترسانة‭ ‬التشريعية‭ ‬الموروثة‭ ‬عن‭ ‬النظام‭ ‬السابق‭ ‬باتجاه‭ ‬التجسيد‭ ‬الفعلي‭ ‬لملكية‭ ‬الشعب‭ ‬التونسي‭ ‬لثرواته‭ ‬وحسن‭ ‬توظيفها‭ ‬لخدمة‭ ‬مصالحه‭.‬ والملاحظ‭ ‬أن‭ ‬الدستور‭ ‬يثمن‭ ‬في‭ ‬فصله‭ ‬الثامن‭ ‬الثروة‭ ‬البشرية‭ ‬الوطنية‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬الشباب‭ ‬باعتباره‭ “‬قوة‭ ‬فاعلة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الوطن‭” ‬تحرص‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ “‬تنمية‭ ‬قدراته‭ ‬وتفعيل‭ ‬طاقاته‭ ‬وتعمل‭ ‬على‭ ‬تحمله‭ ‬المسؤولية‭ ‬وعلى‭ ‬توسيع‭ ‬إسهامه‭ ‬في‭ ‬التنمية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والثقافية‭ ‬والسياسية‭”.‬

لكن‭ ‬السياسات‭ ‬المتبعة‭ ‬فعليا‭ ‬بعد‭ ‬الثورة‭ ‬والاتفاقيات‭ ‬والقوانين‭ ‬المعتمدة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬علاقات‭ ‬التعاون‭ ‬مع‭ ‬الشركاء‭ ‬الخارجيين‭ ‬غير‭ ‬منسجمة‭ ‬مع‭ ‬مقتضيات‭ ‬الدستور‭ ‬بل‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬تواصل‭ ‬مع‭ ‬السياسات‭ ‬القديمة‭ ‬القائمة‭ ‬مثلما‭ ‬أسلفنا‭ ‬على‭ ‬إدماج‭ ‬الطاقات‭ ‬البشرية‭ ‬التونسية‭ ‬في‭ ‬العولمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬ووضعها‭ ‬تحت‭ ‬تصرف‭ ‬المستثمرين‭ ‬الأجانب‭ ‬بحجة‭ ‬توفير‭ ‬مواطن‭ ‬الشغل‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قوانين‭ ‬استقطاب‭ ‬الاستثمارات‭ ‬الخارجية‭ ‬واتفاقيات‭ ‬الشراكة‭ ‬والتبادل‭ ‬الحر‭ ‬مع‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭.‬ وفي‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭ ‬تجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬اتفاق‭ ‬التبادل‭ ‬الحر‭ ‬الشامل‭ ‬والمعمق‭ ‬المثير‭ ‬للجدل‭ ‬والمخاوف‭ ‬بسبب‭ ‬طابعه‭ ‬المختل‭ ‬وغير‭ ‬المتكافئ‭ ‬باعتبار‭ ‬انه‭ ‬يفتح‭ ‬المجال‭ ‬للجانب‭ ‬الأوروبي‭ ‬للاستثمار‭ ‬والعمل‭ ‬والتجارة‭ ‬الداخلية‭ ‬والخارجية‭ ‬في‭ ‬كافة‭ ‬القطاعات‭ ‬الإنتاجية‭ ‬والخدمية‭ ‬والفلاحية‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬إخضاع‭ ‬تونس‭ ‬للقوانين‭ ‬الأوروبية‭. ‬وسيؤدي‭ ‬ذلك‭ ‬حتما،‭ ‬لا‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬استحواذه‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬ثرواتنا‭ ‬المادية‭ ‬والباطنية‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬الى‭ ‬إحكام‭ ‬سيطرته‭ ‬على‭ ‬الثروات‭ ‬البشرية‭ ‬التونسية‭ ‬وخاصة‭ ‬المتعلمة‭ ‬منها‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬مجالا‭ ‬للشغل‭ ‬بتونس‭ ‬أو‭ ‬بالخارج‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الأنشطة‭ ‬ذات‭ ‬القيمة‭ ‬المضافة‭ ‬العالية‭ ‬المتلائمة‭ ‬مع‭ ‬تكوينها‭ ‬والخاضعة‭ ‬بطبعها‭ ‬للدول‭ ‬الصناعية‭ ‬بفضل‭ ‬تفوقها‭ ‬التكنولوجي‭.‬

وعلى‭ ‬صعيد‭ ‬متصل‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬التذكير‭ ‬باتفاقي‭ “‬الشراكة‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬الحركية‭” ‬و‭”‬الشراكة‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬الشباب‭” ‬المبرمين‭ ‬على‭ ‬التوالي‭ ‬سنتي‭ ‬2014‭ ‬و2016‭ ‬مع‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬واللذين‭ ‬يفتحان‭ ‬المجال‭ ‬للهجرة‭ ‬الانتقائية‭ ‬باتجاه‭ ‬أوروبا‭ ‬للكفاءات‭ ‬التونسية‭ ‬وللطلبة‭ ‬وللشباب‭ ‬التونسي‭ ‬المتعلم‭ ‬والمتفوق‭ ‬المتكون‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬النموذجية‭ ‬التونسية‭ ‬العمومية‭ ‬أو‭ ‬الخاصة‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬والجامعات‭ ‬الأجنبية‭ ‬المنتصبة‭ ‬في‭ ‬تونس‭.‬ ولا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬ساهمت‭ ‬بقسط‭ ‬وافر‭ ‬في‭ ‬موجة‭ ‬تهجير‭ ‬الكفاءات‭ ‬التونسية‭ ‬خاصة‭ ‬باتجاه‭ ‬أوروبا‭ ‬التي‭ ‬تسارعت‭ ‬وتيرتها‭ ‬بعد‭ ‬الثورة‭ ‬‭ ‬بسبب‭ ‬تدهور‭ ‬الأوضاع‭ ‬وظروف‭ ‬العمل‭ ‬بتونس‭ ‬وأيضا‭ ‬بسبب‭ ‬الحوافز‭ ‬والإغراءات‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬توفرها‭ ‬بلدان‭ ‬المقصد‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تشكو‭ ‬من‭ ‬نقص‭ ‬متزايد‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬التخصصات‭ ‬الطبية‭ ‬والعلمية‭ ‬والبحثية‭ ‬وغيرها‭ ‬وهي‭ ‬تسعى‭ ‬لتدارك‭ ‬هذا‭ ‬العجز‭ ‬في‭ ‬الطاقات‭ ‬البشرية‭ ‬بالسعي‭ ‬لاستقطاب‭ ‬كفاءات‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تتقن‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية‭ ‬مثل‭ ‬تونس‭ ‬والبلدان‭ ‬الفرنكوفونية‭.‬

ووفقا‭ ‬لتقرير‭ ‬صادر‭ ‬عن‭ ‬منظمة‭ ‬التعاون‭ ‬والتنمية‭ ‬الاقتصادية‭ ‬في‭ ‬نوفمبر‭ ‬2017،‭ ‬فقد‭ ‬بلغ‭ ‬عدد‭ ‬الكفاءات‭ ‬التونسية‭ ‬المهاجرة‭ ‬منذ‭ ‬2012‭ ‬حوالي‭ ‬95‭ ‬ألفا‭ ‬معظمهم‭ ‬استقر‭ ‬بأوروبا‭ ‬وبنسبة‭ ‬هامة‭ ‬بفرنسا‭ ‬وألمانيا‭ ‬وكندا‭.‬ وهكذا‭ ‬يتضح‭ ‬أن‭ ‬تونس‭ ‬أصبحت‭ ‬تصدر‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬10‭ ‬آلاف‭ ‬من‭ ‬خيرة‭ ‬إطاراتها‭ ‬وكفاءاتها‭ ‬مع‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬كلفة‭ ‬تكوينهم‭ ‬المقدرة‭ ‬بمليار‭ ‬دولار‭ ‬سنويا‭ ‬وفقا‭ ‬لتقديرات‭ ‬احد‭ ‬الخبراء‭ ‬التونسيين‭ ‬الذي‭ ‬أكد‭ ‬أن‭ ‬الخسارة‭ ‬الفعلية‭ ‬تقدر‭ ‬بين‭ ‬5‭ ‬و10‭ ‬مليارات‭ ‬دولار‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬طاقات‭ ‬إنتاجية‭ ‬وإبداعية‭ ‬تفقدها‭ ‬تونس‭ ‬كل‭ ‬سنة‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬الصناعية‭ ‬والإنتاجية‭.‬ والملاحظ‭ ‬أن‭ ‬سياسة‭ ‬استقطاب‭ ‬الكفاءات‭ – ‬المندرجة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬معالجة‭ ‬المشاكل‭ ‬الديمغرافية‭ ‬التي‭ ‬تشكو‭ ‬منها‭ ‬أوروبا‭ ‬وفي‭ ‬سياق‭ “‬الحرب‭ ‬على‭ ‬الأدمغة‭” ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬الصناعية‭ ‬الكبرى‭- ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬وجهة‭ ‬الكفاءات‭ ‬بل‭ ‬تشمل‭ ‬أيضا‭ ‬الاستحواذ‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬طفولتنا‭ ‬وشبابنا‭ ‬بجلبهم‭ ‬منذ‭ ‬الصغر‭ ‬إلى‭ ‬المنظومة‭ ‬التربوية‭ ‬الفرنسية‭ ‬المتكاملة‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬إرساؤها‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬.

مخاطر‭ ‬انتصاب‭ ‬المنظومة‭ ‬التعليمية‭ ‬الفرنسية‭ ‬الأوروبية‭ ‬بتونس‭ ‬وتداعياتها‭ ‬‭ ‬
التركيز‭ ‬المفرط‭ ‬على‭ ‬قضية‭ ‬الهجرة‭ ‬السرية‭ ‬وغير‭ ‬النظامية‭ – ‬التي‭ ‬تحظى‭ ‬بالأولوية‭ ‬لدى‭ ‬الجانب‭ ‬الأوروبي‭ ‬الساعي‭ ‬للتخلص‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المعضلة‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬تونس‭ ‬ودول‭ ‬جنوب‭ ‬المتوسط‭ – ‬جعلنا‭ ‬نغفل‭ ‬المخاطر‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬المنظومة‭ ‬التعليمية‭ ‬الفرنسية‭ ‬الأوروبية‭ ‬المتكاملة‭ ‬القائمة‭ ‬بتونس‭ ‬لاستقطاب‭ ‬الشباب‭ ‬والطفولة‭ ‬التونسية‭ ‬منذ‭ ‬نعومة‭ ‬أظافرها‭ ‬وتكوينها‭ ‬وفقا‭ ‬للمناهج‭ ‬الفرنسية‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬الحضانة‭ ‬إلى‭ ‬المراحل‭ ‬الجامعية‭ ‬المتقدمة‭ ‬وذلك‭ ‬بهدف‭ ‬إدماجها‭ ‬في‭ ‬الدورة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الأوروبية‭.‬ ومن‭ ‬ضمن‭ ‬المؤسسات‭ ‬التعليمية‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬مجموعة‭ ‬ريني‭ ‬ديكارت‭ ‬وجامعة‭ ‬دوفين‭ ‬والجامعة‭ ‬الأوروبية‭ ‬وجامعة‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬وكذلك‭ ‬المعاهد‭ ‬المتخصصة‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬المعاهد‭ ‬التابعة‭ ‬لوكالة‭ ‬التعاون‭ ‬الفرنسية‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬التعليمية‭ ‬الخاصة‭ ‬التونسية‭ ‬الحاصلة‭ ‬على‭ ‬ترخيص‭ ‬لتدريس‭ ‬المناهج‭ ‬الفرنسية‭ ‬أو‭ ‬الأجنبية‭.‬ اللافت‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المجموعات‭ ‬تعمل‭ ‬بشكل‭ ‬قانوني‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬اتفاقيات‭ ‬الشراكة‭ ‬السابق‭ ‬ذكرها‭ ‬مع‭ ‬الجانب‭ ‬الأوروبي‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬اتفاق‭ ‬1995‭ ‬وكذلك‭ ‬قانون‭ ‬الاستثمار‭ ‬التونسي‭ ‬الذي‭ ‬أرسى‭ ‬منذ‭ ‬1993‭ ‬مبدأ‭ ‬حرية‭ ‬الاستثمار‭ ‬وتحولت‭ ‬بموجبه‭ ‬عديد‭ ‬الخدمات‭ ‬ومنها‭ ‬قطاعات‭ ‬التعليم‭ ‬والصحة‭ ‬من‭ ‬مرافق‭ ‬عمومية‭ ‬إلى‭ ‬فرص‭ ‬استثمارية‭ ‬جد‭ ‬مربحة‭ ‬متاحة‭ ‬للقطاع‭ ‬الخاص‭ ‬التونسي‭ ‬والأجنبي‭.

ومن‭ ‬ضمن‭ ‬التداعيات‭ ‬الوخيمة‭ ‬لإضفاء‭ ‬الصبغة‭ ‬التجارية‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المرافق‭ ‬الحيوية‭ ‬تعريض‭ ‬طفولتنا‭ ‬وشبابنا‭ ‬في‭ ‬عقر‭ ‬دارنا‭ ‬لمخاطر‭ ‬التفسخ‭ ‬الحضاري‭ ‬وضياع‭ ‬الهوية‭ ‬والاغتراب‭ ‬وضعف‭ ‬الانتماء‭ ‬للوطن‭ ‬وهي‭ ‬خسارة‭ ‬جسيمة‭ ‬لا‭ ‬تقدر‭ ‬بثمن‭.‬ ورغم‭ ‬التعتيم‭ ‬الرسمي‭ ‬المقصود‭ ‬عن‭ ‬مضامين‭ ‬هذه‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬والقوانين‭ ‬العبثية،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الشأن‭ ‬بالنسبة‭ ‬لـ‭”‬اليكا‭”‬،‭ ‬فان‭ ‬ما‭ ‬تسرب‭ ‬عنها‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬أقرت‭ ‬مبدأ‭ ‬الهجرة‭ ‬الانتقائية‭ ‬بحيث‭ ‬يقع‭ ‬تيسير‭ ‬منح‭ ‬تأشيرة‭ ‬الإقامة‭ ‬طويلة‭ ‬الأمد‭ ‬أو‭ ‬العمل‭ ‬لفائدة‭ ‬الطلبة‭ ‬أو‭ ‬الكفاءات‭ ‬العلمية‭ ‬والطبية‭ ‬والفنية‭ ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬إليها‭ ‬أوروبا‭ ‬مقابل‭ ‬تضييق‭ ‬الخناق‭ ‬على‭ ‬الهجرة‭ ‬غير‭ ‬المنظمة‭ ‬وإلزامها‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ .

وهكذا‭ ‬تتضح‭ ‬مدى‭ ‬خطورة‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬الموقعة‭ ‬أو‭ ‬المبرمجة‭ ‬مع‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬وخاصة‭ “‬اليكا‭” ‬والقوانين‭ ‬الظالمة‭ ‬المتصلة‭ ‬بها‭ ‬المفروضة‭ ‬علينا‭ ‬في‭ ‬قالب‭ “‬إصلاحات‭” ‬والحال‭ ‬أنها‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬المراجعة‭ ‬والإصلاح‭ ‬باعتبار‭ ‬أنها‭ ‬تفتح‭ ‬المجال‭ ‬للاستحواذ‭ ‬لا‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬مقدراتنا‭ ‬المادية‭ ‬وثرواتنا‭ ‬الطبيعية‭ ‬والبشرية‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬طفولتنا‭ ‬وشبابنا‭ ‬وذلك‭ ‬بهدف‭ ‬إدماجهم‭ ‬في‭ ‬الاقتصادات‭ ‬الغربية‭ ‬وأيضا‭ ‬توظيفهم‭ ‬بتونس‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬استكمال‭ ‬مخطط‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬مفاصل‭ ‬الاقتصاد‭ ‬التونسي‭ ‬ثم‭ ‬الادعاء‭ ‬بان‭ ‬ذلك‭ ‬يندرج‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬منح‭ ‬تونس‭ ‬مرتبة‭ “‬الشريك‭ ‬المميز‭”‬و‭ ‬إدماج‭ ‬اقتصادها‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الأوروبي‭ ‬الموسع‭ ‬وجعلها‭ ‬تستفيد‭ ‬من‭ ‬أسواقه‭ ‬الشاسعة‭ ‬والواعدة‭.‬

ومع‭ ‬ذلك‭ ‬تستعد‭ ‬تونس‭ ‬لجولة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬المفاوضات‭ ‬حول‭ “‬اليكا‭” ‬مبرمجة‭ ‬لشهر‭ ‬ديسمبر‭ ‬القادم‭ ‬في‭ ‬أجواء‭ ‬تبدو‭ ‬فيها‭ ‬السلطة‭ ‬الحاكمة‭ ‬غير‭ ‬مكترثة‭ ‬وغير‭ ‬عابئة‭ ‬بمخاطر‭ ‬المخططات‭ ‬الأوروبية‭ ‬إزاء‭ ‬تونس‭ ‬مما‭ ‬يحمّل‭ ‬القوى‭ ‬الوطنية‭ ‬الواعية‭ ‬بدقة‭ ‬هذه‭ ‬الظرفية‭ ‬التاريخية‭ ‬مسؤولية‭ ‬مواصلة‭ ‬العمل‭ ‬والتحرك‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬مصالح‭ ‬تونس‭ ‬والحيلولة‭ ‬دون‭ ‬تمرير‭ ‬هذا‭ ‬الاتفاق‭ ‬قبل‭ ‬الانتخابات‭ ‬القادمة‭ ‬حفاظا‭ ‬على‭ ‬حق‭ ‬الشعب‭ ‬التونسي‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬عبر‭ ‬الآليات‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الملفات‭ ‬الإستراتيجية‭ ‬والمصيرية‭.‬

أحمد‭ ‬بن‭ ‬مصطفى‭ – ‬سفير‭ ‬سابق‭ ‬باحث‭ ‬في‭ ‬القضايا‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬والإستراتيجية‭ ‬


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING