الشارع المغاربي : لا شك أن الفشل في الحفاظ على الثروات المادية والطبيعية والبشرية وتوظيفها لخدمة المسيرة التنموية الوطنية من ابرز السمات المميزة للدول المتخلفة ومن بينها تونس التي كانت تفاخر غداة الاستقلال بأنها راهنت على النهوض بالإنسان التونسي باعتباره الغاية والوسيلة لأية عملية تنموية ناجحة.غير أن ما تشهده اليوم تونس من انهيار وتفكك اقتصادي واجتماعي ومن هجرة جماعية لكفاءاتها العلمية فضلا عن إقبال الشباب التونسي المكثف على الهجرة السرية، يؤكد إخفاق هذا الرهان الذي كان يستند إلى خيارات إستراتيجية مدروسة تم تبنيها في إطار الآفاق العشرية للتنمية لمرحلة الستينات.
لكن عدم التمسك بهذا الخيار- المرتبط بإنشاء أقطاب صناعية في الجهات وبناء اقتصاد تونسي إنتاجي صناعي وفلاحي بالاعتماد على الطاقات الإنتاجية والإبداعية التونسية -أدى إلى التخلي التدريجي عن جانب هام من هذه الثروة البشرية التونسية بكافة أصنافها لفائدة المستثمرين الأجانب وذلك في إطار انخراط تونس أو إدماجها شبه القسري في الاقتصاد المعولم. في هذا المقال سنحاول تسليط الأضواء على خطورة وتداعيات والكلفة الباهظة لهذا النزيف المرتبط بالسياسات الاقتصادية الانفتاحية وبالتوجهات الدبلوماسية المعتمدة في علاقاتنا مع فرنسا والدول الغربية والمجموعة الأوروبية التي كانت حريصة غداة الاستقلال على الحفاظ على نفوذها ومصالحها في بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط. ومن ضمن الأساليب المتبعة لتحقيق هذا الغرض الاعتماد على نخب محلية مكونة في المدرسة الفرنسية، متشبعة بالثقافة الغربية ومرتبطة مصلحيا بفرنسا فضلا عن إيمانها بضرورة تطوير التعاون معها ومع المجموعة الأوروبية باعتبارها الشريك الأساسي لتونس. ولقد تعودنا في تونس على طرح معضلة السيطرة الأجنبية على ثرواتنا المادية والباطنية ولكننا تغافلنا عن كارثة التفريط في ثروتنا البشرية المقتدرة وهي من أهم أسباب تخلفنا الأبدي وفشل المسيرة التنموية التونسية منذ الاستقلال وصولا إلى المأزق السياسي والأزمة الاقتصادية والمالية الحادة اللذين تعاني منهما تونس اليوم.
خطورة إهدار الثروة البشرية التونسية وتكاليفه
لقد تفاقم الجدل بعد الثورة حول تواصل الاستغلال الفاحش لثروات تونس الطبيعية والبترولية حتى بعد اعتماد الدستور التونسي الجديد بفصله الثالث عشر الذي من المفترض أن يؤدي إلى مراجعة الأطر القانونية والترسانة التشريعية الموروثة عن النظام السابق باتجاه التجسيد الفعلي لملكية الشعب التونسي لثرواته وحسن توظيفها لخدمة مصالحه. والملاحظ أن الدستور يثمن في فصله الثامن الثروة البشرية الوطنية ممثلة في الشباب باعتباره “قوة فاعلة في بناء الوطن” تحرص الدولة على “تنمية قدراته وتفعيل طاقاته وتعمل على تحمله المسؤولية وعلى توسيع إسهامه في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية”.
لكن السياسات المتبعة فعليا بعد الثورة والاتفاقيات والقوانين المعتمدة في إطار علاقات التعاون مع الشركاء الخارجيين غير منسجمة مع مقتضيات الدستور بل جاءت في تواصل مع السياسات القديمة القائمة مثلما أسلفنا على إدماج الطاقات البشرية التونسية في العولمة الاقتصادية ووضعها تحت تصرف المستثمرين الأجانب بحجة توفير مواطن الشغل وذلك من خلال قوانين استقطاب الاستثمارات الخارجية واتفاقيات الشراكة والتبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق المثير للجدل والمخاوف بسبب طابعه المختل وغير المتكافئ باعتبار انه يفتح المجال للجانب الأوروبي للاستثمار والعمل والتجارة الداخلية والخارجية في كافة القطاعات الإنتاجية والخدمية والفلاحية فضلا عن إخضاع تونس للقوانين الأوروبية. وسيؤدي ذلك حتما، لا فقط إلى استحواذه على ما تبقى من ثرواتنا المادية والباطنية بل أيضا الى إحكام سيطرته على الثروات البشرية التونسية وخاصة المتعلمة منها التي لا تجد مجالا للشغل بتونس أو بالخارج إلا في الأنشطة ذات القيمة المضافة العالية المتلائمة مع تكوينها والخاضعة بطبعها للدول الصناعية بفضل تفوقها التكنولوجي.
وعلى صعيد متصل لا بد من التذكير باتفاقي “الشراكة من اجل الحركية” و”الشراكة من اجل الشباب” المبرمين على التوالي سنتي 2014 و2016 مع الاتحاد الأوروبي واللذين يفتحان المجال للهجرة الانتقائية باتجاه أوروبا للكفاءات التونسية وللطلبة وللشباب التونسي المتعلم والمتفوق المتكون في المدارس النموذجية التونسية العمومية أو الخاصة وكذلك في المدارس والجامعات الأجنبية المنتصبة في تونس. ولا شك أن مثل هذه الاتفاقيات ساهمت بقسط وافر في موجة تهجير الكفاءات التونسية خاصة باتجاه أوروبا التي تسارعت وتيرتها بعد الثورة بسبب تدهور الأوضاع وظروف العمل بتونس وأيضا بسبب الحوافز والإغراءات الكبيرة التي توفرها بلدان المقصد التي أصبحت تشكو من نقص متزايد في عديد التخصصات الطبية والعلمية والبحثية وغيرها وهي تسعى لتدارك هذا العجز في الطاقات البشرية بالسعي لاستقطاب كفاءات الدول التي تتقن اللغة الفرنسية مثل تونس والبلدان الفرنكوفونية.
ووفقا لتقرير صادر عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في نوفمبر 2017، فقد بلغ عدد الكفاءات التونسية المهاجرة منذ 2012 حوالي 95 ألفا معظمهم استقر بأوروبا وبنسبة هامة بفرنسا وألمانيا وكندا. وهكذا يتضح أن تونس أصبحت تصدر لأكثر من 10 آلاف من خيرة إطاراتها وكفاءاتها مع الإشارة إلى كلفة تكوينهم المقدرة بمليار دولار سنويا وفقا لتقديرات احد الخبراء التونسيين الذي أكد أن الخسارة الفعلية تقدر بين 5 و10 مليارات دولار في شكل طاقات إنتاجية وإبداعية تفقدها تونس كل سنة في المجالات الصناعية والإنتاجية. والملاحظ أن سياسة استقطاب الكفاءات – المندرجة في إطار معالجة المشاكل الديمغرافية التي تشكو منها أوروبا وفي سياق “الحرب على الأدمغة” بين الدول الصناعية الكبرى- لا تقتصر على تحويل وجهة الكفاءات بل تشمل أيضا الاستحواذ على جانب من طفولتنا وشبابنا بجلبهم منذ الصغر إلى المنظومة التربوية الفرنسية المتكاملة التي تم إرساؤها في تونس .
مخاطر انتصاب المنظومة التعليمية الفرنسية الأوروبية بتونس وتداعياتها
التركيز المفرط على قضية الهجرة السرية وغير النظامية – التي تحظى بالأولوية لدى الجانب الأوروبي الساعي للتخلص من هذه المعضلة على حساب تونس ودول جنوب المتوسط – جعلنا نغفل المخاطر الناجمة عن المنظومة التعليمية الفرنسية الأوروبية المتكاملة القائمة بتونس لاستقطاب الشباب والطفولة التونسية منذ نعومة أظافرها وتكوينها وفقا للمناهج الفرنسية من مرحلة الحضانة إلى المراحل الجامعية المتقدمة وذلك بهدف إدماجها في الدورة الاقتصادية الأوروبية. ومن ضمن المؤسسات التعليمية العاملة في هذا المجال مجموعة ريني ديكارت وجامعة دوفين والجامعة الأوروبية وجامعة العلوم السياسية وكذلك المعاهد المتخصصة في العلوم الاقتصادية، إلى جانب المعاهد التابعة لوكالة التعاون الفرنسية وغيرها من المؤسسات التعليمية الخاصة التونسية الحاصلة على ترخيص لتدريس المناهج الفرنسية أو الأجنبية. اللافت أن هذه المجموعات تعمل بشكل قانوني في إطار اتفاقيات الشراكة السابق ذكرها مع الجانب الأوروبي بما فيها اتفاق 1995 وكذلك قانون الاستثمار التونسي الذي أرسى منذ 1993 مبدأ حرية الاستثمار وتحولت بموجبه عديد الخدمات ومنها قطاعات التعليم والصحة من مرافق عمومية إلى فرص استثمارية جد مربحة متاحة للقطاع الخاص التونسي والأجنبي.
ومن ضمن التداعيات الوخيمة لإضفاء الصبغة التجارية على هذه المرافق الحيوية تعريض طفولتنا وشبابنا في عقر دارنا لمخاطر التفسخ الحضاري وضياع الهوية والاغتراب وضعف الانتماء للوطن وهي خسارة جسيمة لا تقدر بثمن. ورغم التعتيم الرسمي المقصود عن مضامين هذه الاتفاقيات والقوانين العبثية، كما هو الشأن بالنسبة لـ”اليكا”، فان ما تسرب عنها يشير إلى أنها أقرت مبدأ الهجرة الانتقائية بحيث يقع تيسير منح تأشيرة الإقامة طويلة الأمد أو العمل لفائدة الطلبة أو الكفاءات العلمية والطبية والفنية التي تحتاج إليها أوروبا مقابل تضييق الخناق على الهجرة غير المنظمة وإلزامها بالعودة إلى تونس .
وهكذا تتضح مدى خطورة الاتفاقيات الموقعة أو المبرمجة مع الاتحاد الأوروبي وخاصة “اليكا” والقوانين الظالمة المتصلة بها المفروضة علينا في قالب “إصلاحات” والحال أنها هي التي بحاجة إلى المراجعة والإصلاح باعتبار أنها تفتح المجال للاستحواذ لا فقط على مقدراتنا المادية وثرواتنا الطبيعية والبشرية بل أيضا على طفولتنا وشبابنا وذلك بهدف إدماجهم في الاقتصادات الغربية وأيضا توظيفهم بتونس في إطار استكمال مخطط السيطرة على كافة مفاصل الاقتصاد التونسي ثم الادعاء بان ذلك يندرج في إطار منح تونس مرتبة “الشريك المميز”و إدماج اقتصادها في الفضاء الأوروبي الموسع وجعلها تستفيد من أسواقه الشاسعة والواعدة.
ومع ذلك تستعد تونس لجولة جديدة من المفاوضات حول “اليكا” مبرمجة لشهر ديسمبر القادم في أجواء تبدو فيها السلطة الحاكمة غير مكترثة وغير عابئة بمخاطر المخططات الأوروبية إزاء تونس مما يحمّل القوى الوطنية الواعية بدقة هذه الظرفية التاريخية مسؤولية مواصلة العمل والتحرك للدفاع عن مصالح تونس والحيلولة دون تمرير هذا الاتفاق قبل الانتخابات القادمة حفاظا على حق الشعب التونسي في الفصل عبر الآليات الديمقراطية في مثل هذه الملفات الإستراتيجية والمصيرية.
أحمد بن مصطفى – سفير سابق باحث في القضايا الدبلوماسية والإستراتيجية