الشارع المغاربي – انقسام الجبهة الشعبية يعمّق أزمة اليسار

انقسام الجبهة الشعبية يعمّق أزمة اليسار

29 مارس، 2019

الشارع المغاربي – محمد بوعود : قد يكون السيد حمة الهمامي فوجئ مثلما قيل باعلان النائب، رفيقه في الجبهة الشعبية المنجي الرحوي اعتزامه الترشّح لسباق الرئاسة، وقد يكون أيضا اعتقد انه لن يفعلها، أو سينتظر قليلا حتى تبلور الجبهة موقفا موحّدا، لكنه في نهاية المطاف كان يعلم، مثلما يعلم الكثيرون من الجبهة ومن خارجها، بأن هناك تململا في صفوف الجبهاويين، وبأن هناك فصيلا على الاقل، الوطد الموحّد لم يعد راضيا منذ فترة عن آداء القيادة السياسية للجبهة، وخصوصا عما يسميه الخطاب الذي يرفض ان يتجدّد، لناطقها الرسمي حمة الهمامي.

صحيح أن حزب العمال استطاع ان يجنّد بقية مكونات الجبهة الى جانبه، وان يضمن تأييدا من مجلس الامناء لحمة الهمامي كمرشح توافقي للاستحقاق الرئاسي القادم، بل واستطاع ان يقطع الطريق على حزب الوطد الموحّد قبل أن يتمكن من حشد مناصرين لترشيح المنجي الرحوي داخل المجلس المركزي وداخل مجلس الامناء، لكن الاصح أيضا أن مجرد الاعلان عن ترشيح المنجي الرحوي يؤكّد ان هناك أزمة تواصل داخل الجبهة، وان هناك أطرافا ذات وزن في هياكلها لم تعد راضية عن ادائها وعلى قيادتها، وتريد التغيير، سواء من منطلق التداول على المسؤولية الذي انبنى عليه اول اجتماع تأسيسي للجبهة، او من منطلق تقديم الافضل من أجل حظوظ أوفر.

يعرف حزب الوطد الموحّد ويعرف السيد الرحوي أنه لن يصبح رئيسا، وأن حجم الجبهة الشعبية في أي استحقاق انتخابي هو حجم شبه قارّ هذا إذا لم يقع تحجيمه بفعل التطورات المتسارعة عند بقية مكونات المشهد السياسي، ويعرف أيضا أنه سباق محسوم سلفا لأحد مرشّحي اليمين، سواء الليبرالي أو الديني، كما يعرف أن مشاركة الجبهة الشعبية تصب دائما في سياق تقديم البديل الحالم أو البديل الثوري، وأن الانتخابات تقوم على “ماكينات” غير تلك التي تشتغل بالسياسة، وان لا مجال تقريبا لتحقيق اختراق في منظومة تعوّدت تقاسم الحكم منذ عقود طويلة، ولن تسمح لليسار بأن يستحوذ على نصيب أكثر من الحجم المحدد له سلفا من “كعكة” السلطة، وبالتالي فان اقتراح اسم السيد المنجي الرحوي من قبل حزب الوطد كمرشح للرئاسية لا يخرج عن نطاق الداخل الجبهاوي كثيرا، بل لا يبتعد عن منطق المنافسة الرفاقية والحسابات القديمة، ولا يتعدّاها الى فرز على المستوى الوطني.

فالوطد الموحّد لم يقدّم المنجي الرحوي كمرشّح على أساس أنه يحظى باجماع وطني، ولا على أساس أن نجاحه مضمون وشعبيته فاقت كل الاخرين، بل فقط لان الوطد يرغب في الخروج من “عباءة” حمة الهمامي، والطيران بأجنحة غير جناح حزب العمال.

كما أن حزب العمال بدوره لا يتشبّث بترشيح حمة على اساس انه الزعيم الاوحد في الساحة الذي لا يشق له غبار والذي سيهزم النهضة والنداء والشاهد وسيفوز بالرئاسة من الدور الاول، بل على أساس نوع من الاحقية النضالية، والاسبقية التاريخية، وعلى أساس أيضا من الشعور بالزعامة على بقية مكونات الجبهة الشعبية، التي لا يرى حزب العمال انها موازية له، جماهيريا ونضاليا وزعاماتيا ايضا.

هذا الانشقاق الذي ضرب في عمق الجبهة، وأعلن قطيعة بين اثنين من أهم مكوناتها، لن يقتصر عليها فحسب، بل ستكون له انعكاسات هامة على مجمل الساحة اليسارية وخصوصا على الطيف الديمقراطي والنخب الثقافية التي رأت في الجبهة منذ سنوات مجسّدا ولو صغيرا لاحلامها في الوصول الى الحكم، او على الاقل في احداث التوازن مع بقية القوى المهيمنة تقليديا على الساحة السياسية التونسية، حكما ومعارضة.

ولا يبدو الخلل في النظام الداخلي للجبهة، ولا حتى في بنيتها الهرمية والتراتبية التي تسير بها، بقدر ما هو منافسة محمومة بين فصيلين عُرفا دائما بتقابل منهجي وفكري وسياسي، رغم أنهما ينطلقان من نفس الاسس الايديولوجية، ورغم انهما استطاعا أن يتجاوزا كل العقبات والصراعات التاريخية، وان يؤسسّا مع بقية الفصائل القريبة منهما، الجبهة الشعبية، كوعاء حامل لكل المشاريع السياسية اليسارية، وكحلم توحيدي، للعائلات الثقافية والفكرية التي تتمركز سياسيا على يسار المشهد.

هذا الهيكل الائتلافي او التوافقي أو الجبهوي، جعل منذ البداية قانون التداول على المسؤولية من أهم مرتكزاته حتى يتجنب الوقوع في مطبات التمسّك المرضي بالكراسي، وجعل من المجلس المركزي للجبهة المكلّف بفض كل النزاعات داخل الجبهة، ومجلس الامناء المعني برسم السياسات العامة التي تسير عليها هياكل الجبهة، لكن الذي يمكن أن يكون السبب المباشر في ما وصلت اليه الجبهة من خلافات انتشرت في وسائل الاعلام ولم يعد من الممكن اخفاؤها او حجبها، هو تأخّر الندوة الوطنية عن الانعقاد، وهي بمثابة المؤتمر الجامع الذي يناقش كل ما تمر به الجبهة والبلاد من تطورات ويقدم الحلول والمقترحات، مما جعل الهيكلين المذكورين آنفا، يعجزان لوحدهما عن حل الخلاف، بحكم تموقع حمة الهمامي في داخل مجلس الامناء، والذي استطاع أن يحصّل منه دعما بالاغلبية لاعتزامه الترشّح، وبحكم عدم انعقاد المجلس المركزي منذ مدّة، وعدم توافق أعضائه حول اسم محدد يقع التوافق حوله.

هذا الاشكال التنظيمي جعل الجميع يتمترس خلف حُجّته، فالوطد يرى ان السيد حمة الهمامي أخذ فرصته في ديسمبر 2014، وان منطق الاشياء يقول ان على حزبا آخر من الجبهة ان يبادر لتجريب حظه في الاستحقاقات القادمة، ولا يرى أفضل من المنجي الرحوي للقيام بذلك.

في حين يرى حزب العمال أن حمة يحظى بشعبية لا بأس بها، وانه استطاع في 2014 أن يتجاوز عقدة “الشيوعي” في أول انتخابات عربية وإسلامية يتحصل فيها مرشّح من هذا التيار على نسبة ستة في المائة من أصوات الناخبين، ويعتبر أن ذلك انجاز في حد ذاته وجبت المحافظة عليه وتدعيمه، ويرى أن لا أحد في الجبهة، من أمناء ونواب وقادة، قادر على ملء مكان ومكانة حمة الهمامي.

ومرد هذا التباين في التعليل والتبرير ما يسميه البعض ب”مرض الزعامة” والذي لا ينكر أحد أنه مستوطن في داخل اليسار التونسي، وأن ربح كل التنظيمات اليسارية في بلادنا، لم تذهب ولم يتشتت شملها ولم تضعف وتندثر الا من جرّاء هذا الداء العضال الذي يتحكم في عقلية القائمين عليها، والذين يعلنون صباحا مساء عن ديمقراطيتهم، ويمارسون عكسها تماما.
وقد يعرف هذا الخلاف مزيدا من التطورات والتأثير السلبي على الجبهة خصوصا انه تقع تغذيته يوميا بتصريحات من مختلف الجهات، تزيد في تعميق الخلاف، وتذهب نحو مزيد من تشبّث كل طرف بموقفه.
فالجماعات الموالية لحمة الهمامي اتّخذت من مواقع التواصل الاجتماعي قاعدة للتهجّم على المنجي الرحوي وعلى حزب الوطد الموحّد، وأصدرت تصريحات ايضا عنيفة اتجاه رفاق الامس، خاصة على لسان الجيلاني الهمامي، الرجل الثاني في حزب العمال، الذي اتهم المنجي الرحوي بالتسرّع وعدم القراءة الواقعية للساحة السياسية، وكذلك الاستاذ أحمد الصديق الذي اتهم الوطد الموحّد بالتسرّع وعدم انتظار القرار الموحد لمجلس الامناء، وبالرغبة في خلق مناخ أزمة داخل الجبهة.

أما الموالين للشق الاخر، أي الوطد الموحّد، فقد اعتبروا أن حمة الهمامي أخذ فرصته وان الرحوي يمكن ان يكون الاختيار الاصوب والامثل للترشح للرئاسية، وقال الرحوي نفسه انه مستعد لاجراء “استفتاء” داخلي يصوت فيه أنصار الجبهة الشعبية لصالحه او لصالح حمة الهمامي، واعتبر ان شعبيته وحضوره في المداخلات البرلمانية وعلاقاته داخل المشهد السياسي والجهات والقاعدة الشعبية للجبهة، كلها عوامل تجعل منه أفضل وذا اسبقية على حمة الهمامي.
واذا كان مجلس أمناء الجبهة قد حسم المسألة وانحاز الى حمة الهمامي واعتبره الانسب لتمثيل الجبهة في السباق الرئاسي، فان الوطد الموحد بدا أكثر تشبثا من قبل، ولازال مصرّا على دعم الرحوي في معركة يبدو أنها ستستنزف قوى الجبهة قبل غيرها، وستكون لها نتائج وخيمة على حظوظها في السباق الرئاسي، وحتى التشريعي، وقد تصل اذا استمرت وتطورت حتى الى مستوى الانقسام الداخلي بين مكوناتها، ويقول الموغلون في التشاؤم اننا قد نشهد الاسابيع القادمة انشقاقا وخروجا لبعض التيارات من تحت مظلة الجبهة الشعبية. في حين يرى الساعون الى رأب الصدع ان اليسار التونسي لا يحتاج الى معارك مماثلة تزيد في تجذير الخلاف داخله، بقدر ما يحتاج الى مزيد من اللُّحمة والتوحّد لمواجهة القوى الاخرى التي يزداد نفوذها يوما بعد يوم، والتي تهدد باكتساح الساحة نهائيا في الاستحقاقات القادمة. فهل تنجح الجبهة في تجاوز هذا المأزق الصعب أم أن مصيرها الانقسام مرة أخرى كما مصير كل التنظيمات اليسارية؟
صدر بآخر عدد من أسبوعية “الشارع المغاربي”.

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING