الشارع المغاربي : تعيش تونس على وقع عديد الأحداث المحلية والإقليمية التي تجلت مؤخرا في انعقاد القمة العربية العادية الثلاثين. ورغم الأهمية الإعلامية لهذا الحدث يبدو على مستوى النتائج انه أفضى إلى كشف مدى عمق التصدع العربي ومدى عقم هذه المنظمة. ورغم أهمية هذا الحدث فإنه لا يجب أن يحجب ما يجري داخليا في اثر زيارة بعثة صندوق النقد الدولي بداية من يوم 27 مارس وإلى غاية التاسع من أفريل الحالي “لإجراء مناقشات تتعلق بالمراجعة الخامسة من برنامج القرض المبرم مع تونس” حسب ما صرح به وزير الإصلاحات الاقتصادية توفيق الراجحي. وهذا ما يرجعنا إلى صلب الموضوع الذي يشغل بال كل تونسي.
ذلك لأن تونس تعيش على وقع أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة تبدو من أخطر الأزمات التي مرت بها البلاد منذ الاستقلال. غير أن ما يبعث على المزيد من القلق والحيرة لدى العديد من الخبراء ولدى عامة الشعب التونسي كذلك هو سياسة الهروب إلى المجهول التي تعتمدها الحكومة والأحزاب التي تساندها عبر قرارها الاستسلام لضغوط وإملاءات الاتحاد الأوروبي وذراعه المالي صندوق النقد الدولي والبنك الأوروبي دون أية رؤيا إستراتيجية تراعي المصالح العليا للبلاد.
للتذكير فإن هذه الزيارة تأتي مباشرة اثر قرار الحكومة التونسية بالزيادة في أجور الوظيفة العمومية لتفادي الصدام مع المنظمة الشغيلة التي هددت بتنفيذ إضراب عام بيومين في شهر فيفري الماضي في حالة الرفض، في خطوة تبدو ظاهريا على الأقل أنها تتناقض مع مطلب صندوق النقد الدولي بعدم الزيادة في الأجور سعيا لخفض عجز الميزانية حسب زعمه.
مع العلم أن كل المؤشرات تبين أن الوضع الاقتصادي يتدحرج نحو المزيد من التأزم و أن كل الإجراءات التي حرصت الحكومة على تطبيقها لم تفض لأي انفراج. من ذلك فقد شهدت البلاد ارتفاعا في نسبة المديونية نتيجة ارتفاع العجز في ميزان الدفوعات. ورغم كل التحذيرات التي أطلقت من عديد الجهات بما فيها تلك التي صدرت عن البنك المركزي فإن الحكومة، تحت ضغط لوبيات التوريد، رفضت اتخاذ أي إجراء لوقف تنامي العجز التجاري الذي يجر البلاد حتميا نحو كارثة مالية تهدد السيادة الوطنية بالدرجة الأولى. من ذلك ورغم الرقم القياسي المفزع للعجز التجاري في سنة 2018 الذي ارتفع إلى 29,2 مليار دينار في النظام العام فإن الإحصائيات الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء المتعلقة بشهري جانفي وفيفري 2019 شهدت ارتفاعا متزايدا للعجز التجاري بنسبة 18,3 بالمائة مقارنة بنفس المدة من السنة الفارطة حيث ارتفع العجز التجاري إلى 4,6 مليار دينار إلى غاية شهر فيفري 2019 مقابل 3,9 مليار في نفس المدة من سنة 2018. كما شهدت البلاد ارتفاعا في نسبة التضخم في حدود 7,3 بالمائة في شهر فيفري 2019. وهي نسبة مرتفعة سوف تقوض القدرة الشرائية للمواطن الذي أصبح يتذمر من غلاء المعيشة نتيجة التضخم المستورد والناتج مباشرة عن تدهور سعر الدينار. غير أن هذه النسبة تبدو مرشحة لمزيد من الارتفاع نتيجة الزيادات التي أقرتها الحكومة في أسعار قطاعات حساسة جدا شملت الطاقة التي ارتفعت بأكثر من 50 بالمائة على المؤسسات و 13 بالمائة على عامة المستهلكين في ظرف سنة تقريبا. و كذلك قطاع المحروقات الذي ارتفع عدة مرات في نفس المدة كذلك علاوة على الزيادة الأخيرة التي تقررت يوم السبت الفارط تحت جنح الظلام وفي غمرة اجتماع القمة العربية. وهي زيادة ليس لها أي مبرر موضوعي لأن سعر النفط في السوق العالمية لم يتجاوز 68 دولارا للبرميل الواحد و الحال أن السعر الذي تم اعتماده في ميزانية الدولة لسنة 2019 حُدّد بـ75 دولارا للبرميل؟ لذلك لا يمكن تفسير هذه الزيادات المتواترة إلا في إطار الصعوبات التي تجدها الدولة على مستوى السيولة المالية للميزانية خاصة أن اللجوء للقروض الخارجية أصبح صعب المنال نظرا للمؤشرات السلبية للاقتصاد الوطني ونظرا للضغوطات التي تمارس من طرف الجهات الخارجية وخاصة الطرف الأوروبي لتحقيق الأهداف الإستراتيجية التي رسمها على مستوى التوقيع على مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل و المعمق “أليكا”.
الاقتراض لسداد الديون الداخلية والخارجية وضع ينذر بالخطر الداهم
إن المتأمل في الشأن المالي في البلاد يلاحظ عديد التناقضات السائدة حاليا مما يدل على التخبط الذي أصبح يسود سياسة الحكومة. من ذلك فإن كل الأطراف تدرك أن البنوك التونسية تشهد شحا في السيولة المالية على مستوى العملة الوطنية وبالطبع كذلك على مستوى العملة الأجنبية. رغم ذلك فإن الحكومة مازالت مقبلة على شفط ما تبقى من سيولة لدى البنوك بمقتضى الفصل 25 من القانون الأساسي للبنك المركزي الذي تم التصويت عليه في أفريل 2016 وذلك عبر سندات الخزينة التي تصدرها والتي تتحصل عليها من البنوك بطريقة متواترة لتأمين سداد أقساط القروض التي حلت آجالها.
غير أن ما أقدمت عليه الحكومة يوم 26 مارس الماضي عبر التوقيع المفاجئ على قرض بمبلغ 365 مليون أورو تم جمعه عن طريق اثني عشر بنكا محليا ساهمت البنوك الخاصة في تأمينه بنسبة 73 بالمائة تقريبا من بينها بنكا خاصا محليا تابع لمجموعة كبرى مول لوحده 41 بالمائة من هذا المبلغ. وهذا التوجه يعتبر تحولا خطيرا لعدة أسباب نذكر منها:
السبب الأول يتعلق بما قدمت الحكومة من تبرير لهذا القرض والذي أعزته لتمويل ميزانية الدولة دون ذكر الباب الذي سيستعمل من أجله بالعملة الأجنبية. وإذا علمنا أن 23 بالمائة من ميزانية الدولة لسنة 2019 أي ما قيمته 9,3 مليار دينار خصص لسداد خدمة الدين فإن الأرجح أن يكون هذا القرض موجها لسداد الدين الخارجي. بمعنى أن الدولة أصبحت تقترض لسداد الديون الداخلية منها والخارجية وذلك على حساب تأمين السيولة للدورة الاقتصادية في البلاد.
وهي وضعية دأبت على استعمالها الحكومة منذ عدة سنوات سواء لسداد الديون الداخلية كما جرى الأمر بتاريخ التاسع من أكتوبر 2018 حينما التجأت الحكومة إلى إصدار سندات بقيمة 500 مليون دينار لسداد دين بمبلغ 550 مليون دينار الذي حدد أجله بتاريخ 12 أكتوبر من نفس الشهر. وهي طريقة نبهت من مخاطرها عديد الجهات المختصة الداخلية منها و الخارجية لأنها سوف تؤدي حتميا لتعطيل الاقتصاد الوطني الذي يشكو بطبيعته من الركود الخطير والذي سيدفع نحو تعميق الأزمة الاقتصادية نظرا لصعوبات التمويل التي ستتعرض لها المؤسسات مما سيقلص من نشاطها وسيتحول الأمر إلى أزمة اجتماعية حيث سيدفع إلى ارتفاع نسبة البطالة والحال أن الوضع لا يتحمل المزيد من التصعيد.
أما السبب الثاني فهو يتعلق بخطورة هذه التصرف خاصة عندما يصبح متواترا مثل ما دأب عليه الوضع حاليا لأنه سوف يعرض المؤسسات المالية إلى مخاطر كبيرة يمكن أن تؤدي إلى انهيار الاقتصاد الوطني خاصة عندما تصبح هذه المؤسسات غير قادرة على تمويل حاجات الخزينة العمومية لسداد الديون.
والسبب الثالث هو كلفة هذا القرض بالعملة الأجنبية التي تتحمل الدولة مخاطر الصرف عند تسديده. ففي حالة المزيد من تدهور قيمة الدينار وهو أمر وارد جدا بالنظر إلى اختلال التوازنات المالية الخارجية الناتج عن التوريد المكثف سوف يثقل هذا القرض عبء الخزينة العمومية والحال أن نسبة النمو لا تُمكّن الدولة من تحمل هذه الأعباء.
تغول دور القطاع الخاص وخطر تضارب المصالح
أما السبب الأخير فهو يتعلق بمدى تغول دور القطاع الخاص في تمويل القروض العمومية مما سيمكنه من مزيد التأثير على مفاصل الاقتصاد الوطني وعلى التأثير المتزايد لدوره السياسي لترشيح كفة كل طرف يركن إلى تلبية مصالحه الذاتية سواء على المستوى التشريعي أو على مستوى المزيد من الامتيازات الخاصة بكل مجموعة. وهذا لا يخدم المصلحة العليا للبلاد التي تستوجب تحييد الدور السياسي عن الدور الاقتصادي لمقاومة ظاهرة الفساد التي استفحلت في البلاد.
وبالنظر لكل هذه الأسباب بات جليا أن الحكومة تتعرض إلى ضغوط كبيرة منسقة داخليا وخارجيا لتحقيق أهداف كل الاطراف المتدخلة في الشأن الوطني. من ذلك فإن الاتحاد الأوروبي يسعى لتحقيق هدفه الإستراتيجي لضم بلدان منطقة جنوب وشرق المتوسط إلى نفوذه. وهو يسعى إلى فرض التوقيع على اتفاق “أليكا ” على الطرف التونسي الذي يبدو أضعف حلقة حاليا لفتح الأبواب لبقية البلدان الأخرى المعنية نذكر من بينها المغرب ومصر ولبنان. وللتذكير هذا التمشي هو نفسه الذي اعتمده الاتحاد الأوروبي عند التوقيع على اتفاق الشراكة مع تونس في سنة 1995 مقدما الأمر على انه إنجاز عظيم لتونس وهو التقديم الذي تبناه النظام السابق لاستعماله داخليا لتلميع صورته.
كما أن الأطراف الداخلية والخارجية تسعى للدفع نحو المزيد من الخصخصة للمؤسسات العمومية الهامة والإستراتيجية عبر جر البلاد إلى المزيد من المديونية وهي الطريقة التي ستجعل الطرف السياسي أكثر عرضة للابتزاز والمساومة خاصة وقد دخلت البلاد في سنة انتخابية تشريعية ورئاسية فتحت الأبواب على مصراعيها لمزيد المساومات والتنازلات. كل هذه المناورات تجري في ظل التجاذبات السياسية بين الاطراف المعنية بالسلطة في الانتخابات القادمة والتي بدت أبعد ما تكون عن المحاور الأساسية التي تتعلق بمستقبل ومصير البلاد. كل هذه المناورات تجري أيضا في خضم وضع اقتصادي واجتماعي ينذر بالانفجار، خاصة في ظل ما تشهد المنطقة وفي الشقيقة الجزائر بالذات من أزمات كبيرة سياسية واجتماعية من شأنها أن تؤثر مباشرة على الوضع الداخلي لا محالة.
صدر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في العدد 156.