الشارع المغاربي: يكفي أن تلفظ إسم عبير موسي في ساحة السياسة أو في الفضاء العام حتى ينقسم الناس حولها إلى صفّين متقابلين متعارضين: هجوم حادّ على شخصها وعلى سيرتها (السياسية) ومواقفها وسلوكها مقابل دفاع شرس مضاد يعتبر موسي عنوان شجاعة وجرأة ومبدئية. للسيّدة عبير بعض النقاط التي تحسب في ميزانها وعليها جملة من الملاحظات والسّلبيات التي يمكن أن تجعل من عبير مع الوقت مجرّد ظاهرة «إيديولوجية» صاخبة وحالة نوستالجيا عابرة ليس إلّا.
يحسب لعبير موسي عدم «قلبان الفيستة» وعدم تنصّلها من الولاء والإخلاص لنظام بن علي رغم سقوطه وانفضاض مريديه وأتباعه من حوله فور سقوطه، كما يحسب لها أيضا هذا الثبات على الرأي والموقف دون تبديل أو تعديل أو تردّد. خرجت السيّدة موسي من رماد النظام بعد أن تهاوى وتوزّعت أركانه وأحجاره بين شيع وأحزاب ذات اليمين والوسط واليسار. أسّست حزبا وتزعّمت شتاتا باقية من التجمّعيين، وفازت في المحطّة الانتخابية الأخيرة بنسبة محترمة من أصوات الناخبين وعدد وازن من المقاعد في البرلمان. لعبير قدرة محترمة على الخطابة البعيدة عن الإنشاء واللّغو اللّفظي، فهي تعي جيّدا ما تقول ومن تستهدف وماذا تريد، وتنتقي لنفسها مفردات الخطاب التي تحقّق لها مراميها وأهدافها المعلنة دون وجل أو خجل. لها إلمام جيّد بالأرقام والإحصائيات التي تتعلّق بالاقتصادي والمالي والاجتماعي واقتدار على الحجاج والجدال وسرد المعطيات الرقمية وهي جميعها عناصر مهمّة وضرورية لا تتوفّر في العديد من القيادات السياسية الراهنة، إلى جانب أنّها خصلة مطلوبة في الناشط في مجال السياسة. لا يمكن أن نختلف مثلا ونحن نعدّد ما لعبير من خصال أنّها سيّدة شجاعة في الإصداع والإصداح بالرأي المباشر تجاه خصمها ( حركة النهضة) بغضّ النظر عن حجّتها مضمونا وشكلا. ولكنّها شجاعة تتقاطع وتلامس التهوّر السياسي أحيانا كثيرة ومبالغة واستزادة ورعونة تفسد وتهدم كلّ «البناء» الذي شيّدته عبير موسي في السّنوات الأخيرة وتضعف من وتيرة البعض من التعاطف الشعبي معها..وهذه نقطة ضعف محورية أو «كعب أخيل» التي قد تسقط عبير وتقضي عليها (سياسيا طبعا).
ثقافة الدولة ليست «عياط وزياط» !
في الحياة نقول إذا زاد الشيء عن حدّه انقلب إلى ضدّه، أمّا في السياسة فتدرك الحدود عادة دون أن يلامسها أو يتخطّاها السياسي الحكيم حتّى لا تنقلب عليه الأمور وبالا وخسرانا. وعبير موسي كظاهرة سياسية ملفتة لاسيّما بعد دخولها البرلمان قد أدركت حدود الشجاعة السياسية وتجاوزتها إلى نوع من التهوّر السياسي والقصووية الزائدة، ولم تنتبه خطابا وسلوكا ومواقف إلى أنّ ما بين الشجاعة والرعونة في السياسة خيط رفيع شفّاف وغير مرئي، وأنّها بصدد الانزلاق إلى نوع من الشعبوية البغيضة التي لا تملك سوى استثارة الوجدان والعواطف والغرائز، وبصدد تشييد عزلتها السياسية عبر حشر نفسها في زاوية الخطاب المهووس حصرا بالنهضة والعاجز عن رؤية الوقائع كما هي عارية متحرّرة من كلّ حقد إيديولوجي أو تصفية حسابات قديمة.
يمكن كشف تناقضات خطاب زعيمة الحزب الدستوري الحر بضربة واحدة، فنقول أنّها جزء من منظومة 14 جانفي ومفردة من مفرداته الحزبية والسياسية، وهي «قطعة» من «السيستام» الذي أفرزته الثورة، وذلك عبر انخراط حزبها في الانتقال الديمقراطي من خلال المشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسية والانضباط الكامل تحت سقف دستور الجمهورية الثانية. عبير موسي ليست خارج هذا النسق الجديد وهي جزء من «الربيع التونسي» الذي أثمر سقوطا للاستبداد وبروز إرادة شعبية شاملة وعامّة في تأسيس لنظام ديمقراطي مدني مواطني يجبّ ما قبله من انحرافات أوصلتنا إلى دولة «القائد الأوحد» و«صانع التغيير»، دولة «الشخص» ومن ورائه العائلة والطغمة المقرّبة التي جثمت على صدور التونسيين لأكثر من عشريتين تقريبا.
لقد كانت موسي ولا تزال جزءا من المنظومتين: منظومة بن علي ومنظومة الجمهورية الثانية ولا يحقّ لها منطقا وأخلاقا على الأقل أن تنقلب على «الثانية» وتحاول جاهدة صباحا مساءا على إنهاكها وإسقاطها. استفادت عبير خلال الجمهورية «السّاقطة» فكانت ركنا من الحكم والسّلطة وتستفيد راهنا من الجمهورية الثانية حرّية وكرامة إنسانية وممارسة لمواطنيتها كاملة لا ينقصها شيء. وما قولها وترديدها الدائم بأنّ حدث 14 جانفي هو مؤامرة دولية إلّا عين التناقض في خطابها ولا يحتمل إلّا احتمالين إثنين لا ثالث لهما، إذا أوّلناه ذلك وفق منظورية التكتيك السياسي بعيدا عن الاصطفاف مع / ضد: إمّا أن تكون موسي جزء من هذه «المؤامرة الدولية» بصفتها مشاركة فيها وعنصر من عناصرها التي أثمرتها هذه «المؤامرة»، أو هي مخاتلة بائسة وكذبة رديئة تروّج لها موسي بقصد الاستثمار الرّخيص في أوجاع التونسيين وإحباطهم المتصاعد…في الحالتين نحن إزاء تناقض داخلي في خطاب لا يستقيم منطقا ويتهاوى أخلاقا.
يستحيل وفق التحليل المنطقي الذي اعتمدناه أن تكون عبير موسي حاملة لمشروع سياسي سويّ ومتناسق وعقلاني. إذ لم تتحرّر في وعيها أو لاوعيها السياسي (لا ندري حقّا) من متناقضات داخلية تشقّ مقولها السياسي ولم تفصل نهائيا في الخطاب: هل هي مع مبادرة التونسيين في الحرية وبناء نظام ديمقراطي فعلي وحقيقي أم هي مع تصفية الحساب حصرا مع «عدوّ» سياسي حتى لو أدّى الأمر إلى هدم البيت على رؤوس الجميع وخسارة الدولة ؟. لم تبد موسي إشارات واضحة لا لبس فيها تؤكّد حرصها على أولوية نجاح الانتقال الديمقراطي وإعلاء قيم الحرية والتعدّدية الفعلية، بل لم يظهر عليها سلوك المحترم لمؤسّسات الدولة والمتشبّع بثقافة الدولة رغم حجاجها بأنّها سليلة بناة الدولة الوطنية. بالغت إلى أقصى حدّ في «العياط والصياح» وإرباك وتعطيل العمل البرلماني وراهنت على «الشو» السياسي بدل تقديم البدائل والمقترحات ومساعدة «التوانسة» فعليا في تجاوز محنهم عبر تيسير العمل البرلماني.
إنّ «صدامية» وجرأة عبير موسي المبالغ فيها صارت محور «مشروعها» ومداره، وهذا فيه حطّ من الفعل السياسي الذي يستند أساسا إلى الأفكار والرؤى والبرامج. وما تركيزها المطلق على رشق النهضويين حصرا بسهامها إلاّ دليل على خلوّ وفاضها السياسي من كلّ ما عدى ذلك من تصفية حساب إيديولوجي وسياسي. لقد حوّلت السيّدة عبير في الأثناء خصمها السياسي إلى «ضحيّة» بعد قصفها المستمر دون انقطاع عليه ولم تنتبه إلى أنّنا جميعا بمن فينا النهضويين على مركب واحد، وإذا اشتد واستمر قصفها سنغرق جميعا لا قدّر الله في مستنقع من العنف والعنف المضاد، لن يخرج منه منتصر ..الخاسر هذه المرّة هي الدولة التي تردّد عبير دائما حتى شنّفت آذاننا أنّها ابنتها المخلصة… للأسف ربما فالأحسن في عبير موسي صار يساوي الأسوأ
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي ” في العدد الصادر يوم الثلاثاء 21 جانفي 2020