الشارع المغاربي – العربي الوسلاتي: قامت الدنيا في تونس ولم تقعد خلال الأيّام القليلة الماضية واحتشد القوم من كلّ حدب وصوب ومن اليمين والى أقصى اليسار للإفتاء في أمر يشغل العامة وقد يمثّل لهم الطامة… سبب ذلك ليس انتشار فيروس كورونا أو غضب السماء التي حبست دموعها عنّا لتعاقب كلّ من خذلونا وليس أيضا تعثّر مشاورات تشكيل الحكومة…بل إن الحدث الجلل مثلما صورّه البعض أعمق وأخطر من ذلك بكثير الى درجة أنّ وزارة الخارجية تركت كلّ قضاياها الحارقة وتناست بعمد أو دونه “طرد” سفير تونس بالأمم المتحدة الذي تمّت إحالته على المعاش دون توضيحات مقنعة أو سابق نقاش وانشغلت فقط بالقضيّة الأمّ والأهمّ وهي مواجهة المنتخب التونسي للتنس وعلى رأسه البطلة التونسية أنس جابر ثنائي من الكيان الاسرائيلي المحتل في بطولة العالم للمنتخبات “فاد كاب” بفنلندا.
كلّ الأًصوات العالية والصاخبة هاجت وماجت وخاضت طويلا في الأمر… وحتى أحزاب الصفر فاصل التي خسرت كل معاركها الانتخابية وحتى الأخلاقية والتي لا رأس مال لها الآن سوى اجترار بعض الشعارات الحماسية والمتاجرة بما تبقّى من فتات القضيّة داخلية كانت أو خارجية أقحمت نفسها في الموضوع وطالبت بمحاسبة كلّ المسؤولين عن هذه “الفضيحة” التي باتت ترتقي في نظر كثيرين الى مرتبة الخيانة العظمى متناسين أنّ الخائن اليوم كان بالأمس القريب فخر كلّ التونسيين…
عدوّ واحد ولكن…
لا يشكّ أيّ عاقل منّا في أنّ الكيان الاسرائيلي الغاشم يبقى هو أصل ومحور الشرّ والظلم حقيقة كان ذلك أو مجرّد خيال… ولا جدال كذلك في أنّ فلسطين العزيزة بشعبها وبحدودها وبكلّ شبر منها تسكن وتخلد في قلوب كل الشعوب العربية النقيّة وستبقى دائما والى أن يرث الله الأرض ومن عليها القضية الأم والمركزية… ولا يختلف اثنان حول ضرورة التفطنّ والتوقّي من محاولات التمدّد الصهيوني الخبيثة بحدّيها الجغرافي والمعنوي التي يحاول الكيان تمريرها وتنفيذها… ولا نذيع سرّا إذا قلنا إننا نشعر جميعا بلا استثناء وبلا حياء بالاشمئزاز والضيم والغبن كلّما استحضرنا خيباتنا السابقة والمتواصلة والمتلاحقة مع هذا العدوّ الغادر…
ولكن مع ذلك ورغم توحّد المواقف والمشاعر حول هذه القضيّة الجوهرية لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال تبرير ما يحاول البعض لفّه حول رقبة أنس جابر وزميلتها في المنتخب وتصوير ما حصل في ملاعب فنلندا على أنه خيانة عظمى وفضيحة كبرى اجتمع من حولها الناس وقامت لأجلها الدنيا ولم تقعد… فالمعركة التي نراها اليوم لا علاقة لها بمعركة الخير والشرّ التي تسكننا وتجلد ذواتنا ولا بلعبة الحدود والأسلاك الجغرافية الشائكة ولا بالمسالك التاريخية المتهالكة… ولا بالثوابت السياسية أو الأخلاقية المتقادمة…القضيّة اليوم هي فقط محاولة بائسة يائسة متجدّدة لإقحام مفتعل ومتعمّد لسلوكات رياضية بريئة أسمى وأرقى مما يظنون في معارك وهمية وقودها الفتنة والفتوى وبعض بيانات الإدانة والمهانة…
على ما يبدو لم يفهم البعض بعد أنّ الرياضة هي مجموعة قيم انسانية مشتركة تلغي كل الفوارق والاختلافات من الجنس الى اللون الى العرق الى الديانات… هي ميثاق شرفي ورمزي تتلاقى حوله الأرواح الطاهرة وهي أبعد وفوق كلّ التجاذبات والخلافات الظاهرة… هي صوت بلا رجع صدى وهي لغة بلا حروف ومعجم بلا كلمات… هي أداة لترويض النفس وطرد الرجس… وهي الجينات التي من خلالها نصنع أبطالا يُرفعون على الأعناق يخرجون الى هذا العالم من رحم الأخلاق بلا زيف ولا نفاق…
أنس جابر لم ولن تكون يوما مطبّعة مثلها تماما كمثل كلّ التونسيين الأحرار الرافضين حتى لمجرّد الخوض في متاهات القضيّة… هي فقط بطلة تونسية تتعقّب آثار العالمية وتتحسّس بمفردها طريق الخارطة الأولمبية… تبحث لنفسها عن موضع قدم مع كبار القوم عتادها في ذلك ساعد جبّار ومضرب من نار وقلب ينبض عزيمة وإصرارا… هي بطلة عالمية بصناعة تونسية خالصة ونحن نفتخر بها ولا نسمح أبدا بتشويهها أو محاولة تدميرها تحت غطاء “المقاومة المغشوشة”… وبالنسبة لمن يقذفون الناس بحجارة التطبيع فهذا الباب أوسع من خيالهم ومن حدود تفكيرهم فالمطبّع الخائن للقضية وللهويّة ولمعركتنا المفصلية هو من يختار طواعية أن يضع يده في يد عدوّه… هو الذي يعترف بوجود ذلك الكيان الغاشم وهو جالس فوق أريكته يضع رجلا على رجل… التطبيع القذر هو فعل إرادي اختياري غير إجباري يكون سلوكا وسياسة بكامل الارادة والاقتناع… والمطبّعون بيننا كثر ومنهم من زار تلك الدار الخالية لإقامة حفلات صاخبة ومنهم كذلك من فتح أبوابه وذراعيه لاستقبالهم داخل حدوده بجوازات سفر زائفة ومنهم من دخل بيتهم آمنا وأكل من أكلهم ولبس من لبسهم وشرب من شرابهم وهو يحمل بين عروقه الاسم والدم العربيين… وهذا ليس حال أنس جابر فهي أبعد عن ذلك بكثير ولم تختر منافستها ولا أرض نزالها… هي فقط بمثابة جندية تجوب أرض المعركة حرّكت سواعدها وسواكنها فكان على رأي رئيس الجمهورية مضربها درعا وسيفا فأتمت مهمتها بنجاح دون أن تخسر نفسها أو اسمها أو قضيتها…
سياسة الهروب…
هناك من يوغل في تبنّي الطرح الثوري القائم على تجريم التطبيع مهما كانت عناوينه ومداخله فيكون من حيث المبدأ حازما وجازما بحيث أنه يدعو لترك الكرسي فارغا كلما كان الطرف المقابل خصما اسرائيليا وحجته في ذلك حرمان عدوّه من الشرف المزعوم وهو مجرّد الاعتراف بوجود شيء ما يسمى اسرائيل… وهذه وجهة نظر صائبة تحتمل الخطأ والعمل بها يبدو أمرا سهلا بل أسهل مما نعتقد خاصة إذا تعلّق الأمر بلعبة التنس التي تفتقد في تونس الى التقاليد الشعبية والى القواعد الجماهيرية لذلك لا يجد متبنّو هذا الطرح حرجا في الاعلان صراحة عن مواقفهم الهادفة الى إعلان راية الانسحاب ولا يهمّهم بعد ذلك ما الذي ستخسر بطلة في قيمة ومستوى ومكانة أنس جابر التي كان يمكن ان تتحطّم كل مسيرتها الاحترافية لو سارت في هذا النهج…
لكن لنكن عقلانيين أكثر ونتمهّل في حكمنا واندفاعنا قبل اللطم على ظهر الفضيحة… فماذا لو تعلّق الأمر برياضة أخرى أهمّ وأعرق بكثير من التنس؟ ماذا لو كان الأمر يتعلّق بالمنتخب التونسي لكرة القدم وبالمشاركة في كأس عالمية؟ هل كنّا حقّا سنطالب بانسحاب تونس من المونديال لأنّ مجموعتها تضمّ منتخب الكيان الاسرائيلي؟ هل كنّا وقتها سنقبل التضحية بحلم جيل كامل لهدف يبدو من الأوّل أنه متسلّل؟
ثمّ لنغلق قوس الرياضة ولننظر الى جوانب أخرى أكثر شمولية وحياتية…ماذا لو كانت الجامعة التي ندرس بها في الخارج تضم اسرائيليا؟ ماذا لو كانت الطائرة التي نحلّق بها في هذه السماء المفتوحة بها اسرائيلي بجواز وتذكرة سفر قانونيتين؟ ماذا لو كان علاج فيروس كورونا أو غيره من الفيروسات التي يصدّرونها لنا مصنوعة في مخابر اسرائيلية فهل كنّا سنقبل الموت جميعا لتحيا القضيّة في أرواحنا الطاهرة وتبقى اسرائيل وحدها على قيد الحياة ذليلة بائسة؟ وإذا سلّمنا بوجاهة مواقف المقاطعة لإعلاء راية تجريم التطبيع نصرة للقضية الفلسطينية وتركنا كل المقاعد خالية وإذا هجرنا المسارح والمخابر والملاعب وفررنا من الحلبات ومن أرض المصارعة هل كانت وقتها ستموت اسرائيل؟ هل كنّا سنعيد الحقّ المسلوب لأًصحابه وتعود فلسطين مثلما كانت قبل وصول الملاعين؟ وبهروبنا من المواجهة هل كان هذا العالم المبني على الغزوات والمتكالب على الثروات سيكفّ عن الاعتراف بهذا الكيان المحتلّ؟ أبدا… لأنه لو وجب علينا الانسحاب كلما اعترض طريقنا شيطان محتل سيكون علينا وقتها مغادرة هذا الكوكب الملعون على الفور وترك اسرائيل تمرح وتطرح خيرها وشرّها وحدها فوق هذه الأرض لأنّنا بصريح العبارة لم نعد نصدّق أنه تحت هذه السماء المفتوحة وبعد كل هذه الخيانات المفضوحة توجد بقعة أرض واحدة لم تدّنسها قدم جندي أو جاسوس تابع لذلك الكيان الجبان…
الموقف الرسمي…
التصدّي لمشروع الكيان الاسرائيلي المحتل لا يكون عبر الشعارات والمواقف التي تدوّنها البيانات والبلاغات كما أنه لا يكون بالهروب من المنافسة والمواجهة وبالفرار من أرض المعركة… والتصدّي لمحاولات التطبيع الذي أًصبح اليوم قضيّة نسمع عنها ولا نراها وبات سجنا كبيرا بلا جدران نرمي فيه بالغيب ونرجم كلّ الخارجين والمارقين عن النصّ وعن العنوان لا يكون الاّ بالمواجهة والانتصار على العدوّ ودفعه الى مربّع الهزيمة أمّا الخوف من الوقوع في فخّ الاعتراف فتلك قضيّة أخرى…
لنتعلّم أوّلا أن عدوّنا لن يتوقّف عن ضربنا واحتقارنا الاّ إذا تيقّن أننا صرنا أقوى وأن ردّنا لن يكون فقط مجرّد حبر على ورق بلا ضمير ولا عرق… لنعدّل من مواقفنا ومن طريقة تناولنا للقضية دون قذف للنوايا بعيدا عن ممارسة طقوس تقسيم التونسيين الى شرفاء وخونة وثوّار ومطبّعين ولنفهم للمرّة الأخيرة أننا في حضرة شيطان يتعاظم حجمه كلّما اختلفنا وانقسمنا وكلما علا فينا فقط صوت الأنين…
القضيّة إذن أكبر من مجرّد الاصطفاف وراء الشعارات والزعامات والقامات الفارهة الفارغة… القضية اليوم هي قضية مبدأ والمبادئ لا تتجزّأ… وساحة الحرب لا تقبل أنصاف الجبناء والانسحاب أو الهروب لن يغيّر شيئا في موازين القوى… وقبل أن نشهر سيوف النقد والتجريح في وجوه أبطالنا لا لشيء سوى لأنهم لم يفرّوا من ساحة المواجهة وقبل أن نتحدّث عن توحيد الصفوف والمواقف وقبل أن نطالب الرياضيين والفنانين والمثقفين وكل التونسيين بالانسحاب فورا من “مربّع الاعتراف” حتى نكون مثلما يريد البعض متجانسين قولا وفعلا مع الموقف الرسمي التونسي الرافض لكل شكل من أشكال التطبيع مثلما ورد على لسان الخارجية التونسية على الدولة التونسية أن تكون لسان دفاع رسمي وشرعي عن القضية لا أن تتخفّى وراء بعض البطولات الوهمية…
قبل أن ننصب المشانق لأنس جابر ولبعثة المنتخب في فنلندا دعونا نعود قليلا الى الخلف ونتساءل لماذا لم تطرح الأحزاب الحاكمة بنهضتها وندائها وبتيّارها وببقيّة الأطياف النائمة تحت قبّة البرلمان قانونا يجرّم التطبيع؟ الى ذلك الحين لا يمكن الحديث عن الموقف الرسمي للدولة التونسية طالما أنّ لها أكثر من موقف وأكثر من رأس يفكّر ويتدبّر…