الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: لولاية القيروان رمزية خاصة لدى التونسيين فهي منطقة ثراء تاريخي وحضاري ذات تميز فضلا عن اهمية ثرائها البشري ومجالها الجغرافي الخصب. ويعود تاريخ القيروان إلى عام 50 هـ / 670 م، وأنشأها عقبة بن نافع. وقد كانت مدينة القيروان تلعب دورين هامين في آن واحد، هما الجهاد والدعوة، فبينما كانت الجيوش تخرج منها لنشر الدعوة والتوسعات، كان الفقهاء يخرجون منها لينتشروا بين البلاد يُعلِّمون العربية وينشرون الإسلام. وتعتبر المنطقة التي وقع الاختيار عليها لتأسيس القيروان منطقة تتوفر فيها اهم الخصائص الاستراتيجية والاقتصادية الضرورية للنمو والتوسع.
غير انه وبعد عهود طويلة من الامجاد والحضارة وفي ظرف عقد من الزمن وتحديدا منذ سنة 2011، تحولت هذه الولاية الغالية على قلوب التونسيين وشعوب المغرب العربي قاطبة وهي التي تمسح 658 الف هكتار و يقطنها 571 الف ساكن الى منطقة مهمشة تسجل فيها اعلى نسب انتحار الاطفال والانقطاع المدرسي والفاقة والاحتياج.
كما تراجعت بشكل مخيف جل مؤشراتها الاقتصادية والاجتماعية اذ تبلغ نسبة الفقر فيها 34.9% وهي اعلى نسبة في البلاد ولا يتجاوز مؤشر التنمية الجهوية للولاية 0.25 لتحتل بذلك المرتبة 23 أي قبل الاخيرة على المستوى الوطني حسب البيانات الاحصائية لوزارة التنمية. ومن سخرية القدر، ان مطالب اهل ارض العزة والموروث الانساني والاشعاع الحضاري في ولاية القيروان لا تزيد اليوم عن بناء مستشفى ومد بعض المناطق بالماء الصالح للشرب .
ومنذ ايام وتحديدا يوم 26 ماي الفارط ، عاشت معتمدية حاجب العيون على وقع مأساة انسانية غير مسبوقة بعد تضرر نحو 66 شخصا من الاهالي الذين سئموا التهميش والفشل في ايجاد حلول ولو بسيطة تحد من معاناتهم اليومية ورتابة حياتهم القاتلة، من استهلاك مادة “القوارص” المحتوية على نسبة مرتفعة من كحول “الميثانول” والتي اقتنوها بقيمة دينارين للتر الواحد.وسجلت 7 وفيات في هذه الحادثة للتسمّم الجماعي بالإضافة الى فقدان 3 اشخاص بصرهم وتحويل العشرات لتلقي العلاج في عدة مستشفيات وجلهم في وضعيات صحية حرجة ودقيقة.
في سياق تواصل المأساة، نفذ يوم الاربعاء الفارط 27 ماي، عدد من اهالي مدينة حاجب العيون مسيرة جابت شوارع المدينة ووقفة احتجاجية امام المعتمدية وذلك للتنديد بما اعتبروه عدم تجاوب السلط مع الحادثة التي راح ضحيتها 7 مواطنين وتسمم 66 شخصا اخر . وردد الاهالي شعارات تنادي بالحرية و التنمية ورد الاعتبار للمدينة المهمشة مستنكرين تصريح والي القيروان محمد بورقيبة الذي اساء، وفق تقديرهم، الى المنطقة بعد ان ذكر لإحدى وسائل الاعلام ان اهاليها معروفون باستهلاك الكحول وطالب الاهالي بعزله.
وبطبيعة الحال غاب السياسيون عن المنطقة ولم يقوموا حتى بواجب العزاء وسط صمت مريب لرئيس الحكومة وغياب تام لوزير الصحة. ومن المؤكد ان “المسؤولين” قد فضلوا عدم التوجه الى حاجب العيون ليس لان الاسلام يحرم الخمر بل خشية ردة فعل الاهالي في سياق حالة الاحتقان الني تعيشها المعتمدية على غرار اغلب معتمديات الولاية على خلفية فشل سياسات الحكومة وتكريسها للتخلف التنموي، في هذه الربوع.
ومن المضحكات المبكيات ان الوالي صرح يوم امس الجمعة 29 ماي 2020 بعد هياط ومياط انه سيجد حلا لخلاص فواتير علاج المصابين بالمستشفيات. غير ان السؤال الاهم يتمثل في ان ولاية القيروان لا يوجد بها أي محل لبيع المشروبات الكحولية رغم وجود العشرات على بعد 50 كلم في سوسة، فان كان الامر يتعلق بالمكانة الدينية للولاية فلم يوجد بها ماخور قديم ومهترئ بالكامل ؟. ومهما يكن من امر فان المسالة تكشف مدى تفشي حالة النفاق الاجتماعي و السياسي الى مستوى العدمية و “السكوزوفرينيا”.
ويذكر ان يوسف الشاهد رئيس الحكومة السابق كان قد اعلن عن مجموعة من الوعود التنموية لفائدة ولاية القيروان، نهاية 2017 ذهبت بالتأكيد كغيرها من الوعود الواهية ادراج الرياح في سياق مشابه لما ورد في أحد ابرز قصائد الشارع الراحل محمود درويش “عابرون في كلام عابر” وتمثلت ابرزها في :
– الارتقاء بمؤشرات التنمية البشرية الى المستوى الوطني؛
– تسريع انجاز مشاريع التنمية المندمجة في كل معتمديات الولاية بكلفة 110 ملايين دينار
– الحرص على انجاز المستشفى الجامعي بكلفة 200 مليون دينار؛
– الانطلاق في المستشفى الجهوي بحفوز بكلفة 45 مليون دينار؛
– انجاز مشروع تدعيم تزويد مناطق جنوب الولاية بالماء الصالح للشرب عبر انجاز محور لجلب المياه بكلفة 29.8 مليون دينار؛
– تهذيب مشاريع الماء الصالح للشرب بكلفة 17.25 مليون دينار؛
– تزويد المنطقة الصناعية بالماء الصالح للشرب في عملية التوسعة بكلفة 10 ملايين دينار؛
– توزيع مساكن ومقاسم اجتماعية بكلفة 81 مليون دينار بحي المنار والوسلاتية والمنصورة؛
– انجاز مشروع دعم طاقة خزن سد سيدي سعد وتدعيم حائط مفرق الفيضانات بكلفة 42 مليون دينار؛
– تحويل القيروان الى قطب ثقافي سياحي وترفيهي وديني.
ولا يفوت “الشارع المغاربي” في هذه المناسبة الاليمة ان يتقدم لأهالي الضحايا بخالص التعازي راجيا تماثل المصابين للشفاء والعودة الى عائلاتهم سالمين.