الشارع المغاربي: عشر سنوات !! هي قطعة من الزمن، وليست بالهيّنة.. عشر سنوات انفلتت في لحظة مثل النيزك الذي يخترق فضاء الزمن ، ولكنّه هذه المرّة انطلق من أرض تونس ليتفشّى في الكون وينتشر ذبابا..
عشر سنوات اقتطعت من لحم جسدنا قطعا.. انتزعت بدماء شهداء وسط صراخ ثكالى ويتامى.. اقتطعوها وهم يرتلون أهازيج الشرعية والحكم العادل وافتكوها وهم يولولون باسم الديمووقراطية.. فإذا في ديموقراطيتهم واوا وليتها واوا واحدة..
قدم علينا بدرهم ورأوا في وجهه نورا ..ورأينا في طلّته همّا وغمّا.. حتى كأنّه الدابة التي نسج صورتها الخيال الشعبي في قصص الحشر والنشر.. هي دابة لا تحمل وجها، وأطلقت للخيال العنان حتى يضع على جثمانها الوجه الذي يريد..: يرى فيها الضعيف المسلوب مهديا منتظرا ..سينجيه من الفقر ومن الفاقة.. ويرى فيها المذنب وجها غافرا للذنوب وشفيعا له مع ربّ العالمين يوم القيامة.. ويرى فيها ذئب السياسة مطية مريحة للقفز على الفرص واقتناء أفضلها.. ورأينا فيه دجّالا وغولا جائعا لن يبقي ولن يذر..
أسماء تعترضني في تفاسير القرآن ، وكنت أحار في فهمها حتى أقرّبها لطلبتي وأيسّر دلالتها.. أسماء أعترف بعجزي عن تجسيم دورها فدفنتها في ذاكرتي وتناسيتها وصنّفتها من قبيل الشخصيات المحرّكة للمخيال الشعبي الديني لا غير، خاصّة أنّ القرآن لم يذكرها وابتدعها الفكر الديني الباحث دوما عن خيط يصله بالواقع..
أسماء ثلاثة خاصّة أعترف اليوم أنّها بمثابة ذلك الزئبق الذي يتأقلم مع كلّ وضع متجدّد مهما اختلف بها المقام، هي: الجسّاسة، الدجّال والدابّة..
فإذا بها هذه الأيام تفرض نفسها على تفكيري وأنا أعيش وضع بلادي تونس.. وإذا بي أبحث في كلّ اسم منها عن قرائن تحكي بأنّنا نشهد حضور هذه الشخصيات في تونس… وإذا بي أتساءل إن لم يكن المخيال الشعبي رحيما بنفسه عندما اختلق هذه الشخصيات وابتدعها حتى يحمّلها وزر ما يعيشه من عذاب وشقاء في هذه الدنيا..
في الحقيقة أعترف.. أنّني عاجزة عن نسبة كلّ شخصية من هذه الشخصيات الأسطورية إلى شخصية من الشخصيات التي آذتنا منذ 2011 وإلى اليوم لا تزال تلحّ في امتصاص ما بقي فينا من دماء الحياة.. صحيح أنّها صناعة خيال وأسطورة ولكنّها نمت في ذاكرتنا وتعاظمت طيلة هذه العشرية الأخيرة.. فإذا لكلّ مجتمع جساسته ودابته ودجّاله.. هي شخصياته تحمل دهاء ومكرا.. و فهمت قوانين اللعبة، بل ونضجت لتطلب التكاثر.. ألحّ فيها الطمع والجشع ولذلك صارت آهلة لأن تتناكح مع بعضها بعضا وتتكاثر، بل وتلد لنا شخصيات أخرى حاملة لنفس الخاصيات وجامعة لها.. ثمّ لا يفوتنا التنبيه إلى أنّها في نشاطها تتسم باللهفة حتى تترك آثارا وتطمس سمات.. ولذلك فهي شخصيات في تناميها تنزع إلى الدمار حتى تبني على أطلاله رؤيتها وتنسج علاقات ترضاها..
لنتحدّث عن حكاية الجساسة والدابة والدجال بدل الحديث عن أسطورة ، بما أنّها رواية عن الرسول وخبر تناقله الرواة آحادا عن فاطمة بنت قيس، جزاها الله خيرا..واللافت أنّها رواية تحمل إشارات ورموزا تسمح لكلّ انسان مهما اختلف به الزمان أو المكان أن يقرأها بوضعه: فركوب ثلاثين رجلا من العرب سفينة وضياعها في البحر، أمر مرعب بالنسبة إلى العربي الذي اعتاد الصحراء وركوب الدواب.. وبقاؤهم في البحر شهرا يحكي عن مدى ضياع الإنسان عندما يفقد مرجعياته.. لكن، تحصل المفاجأة” رموا في جزيرة خالية فلقيتهم دابة اهلب كثيرة الشعر.فسألوها من أنت قالت أنا الجساسة”.. وتوجّههم إلى رجل مكبّل اليدين حتى يسألوه ويجيبهم.. فإذا به يحبط عزائمهم: سألهم عن نخل بيسان فأخبروه بأنّه يثمر فإذا به ينبئهم بانه يوشك ان لا يثمر.. وسألهم سؤال المتوجّس شرّا عن خبر ماء بحيرة الطبرية وعين زعر.وفي الأخير يعرّفهم بأنّه المسيح الدجال ينتظر الإذن بالخروج ليسير في الأرض قرية.. قرية ويمكث في كلّ قرية أربعين ليلة ما عدا مكة والمدينة. وتختم فاطمة بنت قيس حديثها بقول الرسول ” فإن يخرج وانا بين أظهركم فأنا حجيج كل مسلم وأن يخرج فيكم بعدي فكل امرئ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم”..
عِبَرٌ كثيرة يستخلصها المرء من هذا الحديث:
أليس في ضياع هذه الطائفة من المسلمين إشارة إلى ضياع اللاحقين منهم والمتأخرين في الزمن عن الرسول؟ ستضيع عنهم الديار مثلما ستضيع عنهم المدن!!! وهاهي تونس قد ضاعت عنّا!! بمدنها وقُراها.. وبأحيائها ودُورِها!! أليس في الحديث عن شهر من الضياع إشارة إلى ما قد سيعانيه كلّ شعب من زمن في التيه والخسران؟؟ ألا نقف على أنّ هذه الشخصيات، وإن تعدّدت، فهي في الحقيقة تقلّ وتكثر حسب الأوضاع؟
أخيرا يبدو من الحديث أنّنا عزّل مع هؤلاء بل عراة ، وأنّ السماء لن تتكفّل بحمايتنا.. فنجاتنا بأيدينا ومواتنا بأيدينا. هذا قدرُنا ، فإن أردنا الحياة لنبدأ بإنقاذ أنفسنا من هذه الشخصيات التي تمكنت منّا وعندئذ سيستجيب القدر لا محالة..
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” بعددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 9 جانفي 2021