الشارع المغاربي: كنّا نراها هنا في هذا الركن قادمة لا ريْب فيها، إنّها الفوضى جرّاء سنوات الهدْر والخراب، وكنّا ندرك جيّدا أنّها ستستهدف كلّ ما يمتّ إلى حركة النهضة بِصِلَةٍ، بل كنّا نرى الأمر قد يصل إلى حدّ اقتحام القصور والأراضي والعقارات والشركات وحرقها بعد نهبها، هذا الذي كنّا نتوقعه، لذا، اعتبرنا أنّ قرارات الرئيس قيس سعيد يوم 25 جويلية الفارط، إنّما أنقذت حركة النهضة في الحقيقة من “سحْل” جماعي متوقع ومن “محْرقة” حقيقية لكلّ ما يُرمز إليها، وذلك لأنّ هذه الحركة لم تستوعب إلى الآن ولن تستوعب أبدا مدى حجم السخط والنقمة الشعبية ضدّها.
ونجزم بأنّنا لم نر مثل هذه المشاعر منذ عقود، لأنّ هذا التونسي اسْتحْضر، وهو يعيش الخراب الشامل والجوع الكافر، كيف أنّه انخدع يوما بهم وصدّق عن حسن نيّة وبساطة بأنّهم يريدون فعلا الخير له، وانطلت عليه “السرْدية” التي حاولت حركة النهضة فرضها بكلّ الطرق، والمتمثلة في أنّها قارعت الرئيسيْن الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي من أجْل هذا الشعب وحُبّا فيه، وبأنّ هؤلاء “المساكين” النهضويين “ناضلوا” من أجل الحرّيات والديموقراطية ووقفوا في وجه “الاستبداد” و”الدكتاتورية”، بينما هذا كلّه هُرَاء وتدجيل وزور وبهتان.
وقد تَذكّر التونسي بعد أن انْزاحت عنه هذه الغشاوة المُركّبة أنّ هذه الحركة واجهت الدولة التونسية مرّة أولى في الثمانينات من القرن العشرين ومرّة ثانية في بداية التسعينات، وكيف أنّها كانت ترغب في إسقاط الدولة الوطنية -على علاّتها- بقوّة السلاح وخاصّة الانقلاب المسلّح والعسكري، ثمّ شاهد هذا التونسي كيف أنّ هذه الحركة “تمكّنت” من أوصال الدولة التونسية بعد 2011 بعد أن عملت منذ 2009 على “تدمير” الأسس التاريخية لهذه الدولة كي تُرْسِي مشروعها وتُنْهي وهي في الحكم كلّ الإرث المؤسّساتي الوطني.
وفي الأثناء، عاين أكثر هذا التونسي كيف أنّه هو وبلاده باتَا “غنيمةً” غير معلنة لهذه الحركة و”سبْيا” معاصرا لها، لذا، كان من الحتمي أن تتحرّك “البطون الخاوية” التونسية كي “تنتقم” من مُجوِّعيها، ولكن تمّ تفادي “المجزرة” تجاه النهضويين يوم 25 جويلية الماضي، ولو مؤقتا، ولوْ لم تكن تلك القرارات لوجدت حركة النهضة نفسها تواجه هذه المرّة الشعب التونسي في معظمه وليست الدولة، وهذا إيذان بأنّها ليس فقط لم تتمكّن من كسب أفئدة التونسيين طوعا أو كرها إليها، بل تركت الشعور لدى التونسيين أيضا بأنّ منتسبي هذه الحركة ليسوا منهم ولا يشبهونهم في شيء، فأصبحوا ينظرون إليهم على أنّهم هم “الأعداء”، وباتوا هم “الهدف”.
ومن الجليّ، أنّ حركة النهضة تعيش حالة “توحّد” جماعي حاليا أدّت إلى تعاظم شعور “الإنْكار” لديها، وكلّ الذي يحدث داخلها الآن، إنّما هو مزيج من رغبة في الانحناء للعاصفة وخاصّة الرغبة في التموْقع والركوب على “زلزال” 25 جويلية لإنهاء هيمنة “الأب المؤسّس” وبطانته، وإحلال قيادة جديدة ستكون أكثر راديكالية ممّا كانت في نظرنا.
يجب أن لا ننسى أنّ حركة النهضة هي التي منحت الرئيس قيس سعيّد الفرصة على طبق من ذهب كي يتخذ هذه القرارات التي تحظى بتأييد شعبي غير مسبوق شريطة إكمالها إلى نهاية المُرْتجى، وذلك جرّاء سلوكها “المشين” الذي سلكته مع الكلّ دون استثناء حتى مع من يقترب منها، فكان أن وجدت نفسها وحيدة في مواجهة آلة “الدولة” و”الشعب” باستثناء البعض.
وهذا “البعض” بالذات هو الذي نراه يُوَلْوِل أكثر من النهضويين أنفسهم المُلْتفِتين الآن إلى تجسيم “حراك التموْقع” لديهم، بعد أن يئسوا تماما من إمكانية استنساخ “ميدان رابعة” وسيناريو الإخوان المسلمين في صيف 2013 على أعتاب سور البرلمان، وبعد أن تيقّنوا أنّ دعوات “الاسْتئْساد” بالأجنبي إنّما ارتدّت عليهم وانفضّ من حولهم البعض ممّن كان يتفهّم موقفهم.
ومن الواضح أنّ الإستراتيجية النهضوية، شأنها في ذلك شأن استراتيجية الإخوان، تقوم على أنّهم ما داموا في الحكم أيّا كان حكمهم وطريقة تسييرهم، فإنّ الديموقراطية هم حرّاسها والحرّيات هم المؤتمنون عليها، والدولة هم المُؤبّدون فيها، لا يهمّ حتى ولو كانت على وشك الانهيار أو الفوضى الشاملة ما داموا هم المفوّضين عليها.
أمّا إن كانوا خارج الحكم بأيّة طريقة كانت خارج صناديق الاقتراع التي جُعلت كي يدخلوا منها ولا يخرجون، فإنّ كلّ الألفاظ مباحة لِأبْلَسة من أخرجوهم وتسْويدهم، حتى ولو كان هؤلاء الشعب المنتفض ضدّهم، على غرار “الانقلاب”على الديموقراطية و”ضدّ الشرعية” وضدّ “حكم صندوق الانتخاب” و”حكم العسكر”…مع إتقان جيّد لدور الضحيّة البريئة، خاصّة على مستوى اللوبي الإخواني العالمي الذي تمكّن من أن يتغلغل في بعض مراكز القرار الغربية.
في الأثناء، سيكمل هذا “البعض” بعض مراحل هذه الإستراتيجية دعما للدعاية النهضوية / الإخوانية ويمكن تصنيفه كالآتي:
– بعضٌ لم يفهم المتغيّرات على الأرض تماما، مثل حركة النهضة، وليست لديه القدرة على استيعاب الظرفية، فبقي حبيس شعارات جامدة حفظها عن ظهر قلب كالتلميذ المجتهد ولا يفقهها أحيانا على غرار الشرعية والديموقراطية والتداول السلمي للحكم عبر الصندوق.
– بعضٌ كان مستترا أيّام الرئيس السابق بن علي لا تراه أبدا ولا حول له ولا قوّة، فاكتشف مدى جُبْنه بعد 2011 فآلى على نفسه أن يكون فارسا مِغْوارا في أيّة مناسبة قادمة علّه يكفّر قليلا من تأنيب النفس الأمّارة بالضُعف والهَوان.
– بعضٌ متشبّث بالنصّ كما هو ولا يقبل البتّة أن ينظر إليه كنصّ متحرّك على وقع ظرفية كتابته وخاصّة الظرفية التي نعايشها، ويتجنّد للتصدّي لكلّ مروق عنه في نظره، خاصّة إذا كان المارق محتقر لديه، ولا يهمّ إن كان هذا النصّ سيؤدّي حتما إلى الكارثة ولا يهمّ حتى إن كان هذا النصّ أو الدستور وُضِع على المقاس وأُقفلت منافذه وسُدّت أبوابه حتى يبقى واضعوه جاثمين إلى أن يتمكّنوا، وقتها سينظرون في تحويره على مقاسهم أيضا.
ويُشَار إلى هذا البعض بالبَنَان لدى النهضويين ومن تبعهم بإحسان، لأنّ هذا البعض بصدد إسداء خدمة جليلة إليهم يستعملونها في دعايتهم كي يبرهنوا أنّهم هم الضحيّة والدليل “فتوى” هذا البعض لفائدتهم.
ولا يدري هذا البعض أنّه بهذا “الصنيع” لا فرق بينه وبين السلفية التكفيرية التي تتشبث بالنصّ مثله، وتقرأه خارج الواقع والظرفية فتخرجه من التاريخ بل يصبح نصّا مِيتَا-تاريخيًا أوْقف حركة الزمن المستمرّة في أذهان هؤلاء أو أولئك، فهل يجوز هنا تسمية هذا البعض بـ:”السلفية النصّية”؟ خاصّة وأنّهم يتحمّلون مع غيرهم مسؤولية كبرى في ما آلت إليه الأمور في تونس ما بعد 2011 التي استبيحت للتمكين الإخواني، وهو أمر غير مستغرب لو عدنا قليلا إلى صفحات من تاريخنا.
وما يثير الاستغراب أنّ كلّ هذا البعض لم تتعال أصواتهم يوما ما عالية تندّد بهذا التمكين والسيطرة على دواليب الدولة ومفاصل الإدارة، بل تراهم أحيانا جَذِلِين بهذا “الاستثناء” التونسي في هذا الخراب الاقليمي، ويبرّرون أحيانا التجاوزات بأنّها بديهية في ظلّ مسار انتقالي ديموقراطي..الخ.
لكن، ما لا يدركه كلّ هؤلاء “البعض” أنّهم بهذا الصنيع الواعي واللاواعي على حدّ السواء إنّما يحقّ عليهم تسمية “الطابور الخامس” لحركة النهضة في تونس حتى وإن كانوا يعتبرون أنفسهم في تَضَادّ تامّ معهم، لكن التقاءهم الموضوعي معهم الآن يحتّم علينا نعْتهم كذلك إلى أن يدركوا، لكن بعد فوات الأوان، وتحت وقع المتغيّرات المتلاحقة بأنّهم سلكوا الطريق الخطأ وتكلّموا في التوقيت الخطأ ولن يبقى لهم إلاّ أن يصمتوا كما كانوا من قبل وربّما هذا أفضل لهم.
في الأثناء، وممّا تقدّم، هل يعني أنّنا نساند كلّيا أو نسبيا الرئيس قيس سعيّد في توجّهاته؟ بالتأكيد لا! لأنّنا لسنا مطالبين بأن نعلن التأييد من عدمه، فنحن نراقب الوضع دون أن نعطي صكّا على بياض كما فعل البعض مع حركة النهضة، ونحاول أن نوفّق بين إكراهات الواقع التي دفعت عموم التونسيين إلى هكذا تعبير عن موقف كان بالإمكان أن يتطوّر إلى ما لا يُحمد عقباه، وبين ضرورة المحافظة فعلا وليس قولا والانْبراء للدفاع عن الحقوق الكونية للإنسان دون الوقوع في “الشَرَكِ” الإخواني المنصوب للبعض، وهي مهمّة ليست بيسيرة خاصّة في هذا الوقت بالذات.
افتتاحية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 3 اوت 2021