الشارع المغاربي-محمد الجلالي: بعد مرور ما يزيد عن عشر سنوات على لجوء المنصف إلى القضاء في قضية تبدو في الظاهر مجرد قضية شيك دون رصيد، لا يزال الكهل الستيني في انتظار محاسبة كل مكونات اخطبوط متعدد الاذرع وضالع في اتلاف وثائقه بالمحكمة وفي تدليس امضاءات وافتعال اختام وفي التأثير على المسار القضائي وحصر مختلف التجاوزات والجرائم في متهم واحد بعد فراره خارج تونس.
مسيرة المنصف مع القضاء سبقت اندلاع ثورة الحرية والكرامة التي أطاحت بنظام بن علي وفتحت أمام مرفق العدالة كغيره من القطاعات الأخرى أفاقا رحبة للتخلص من إرث ثقيل نخر الفساد جنباته واستشرت فيه المحسوبية والزبونية والكيل بأكثر من مكيال والحكم حسب الموقع الاجتماعي أو السياسي أو النفوذ في أروقته.
سرقة وثائق من المحكمة
مسيرة المنصف قد تكون تلخيصا مكثفا لعشرية من الأخذ والرد والمد والجزر والتطويع والتركيع والاستغلال والتسخير في سلطة يفترض تحررها من كل تبعية.
خلال صراعه اليومي لاسترداد ما يعتبره حقا مهضوما، اكتشف المنصف ان ما يطلق عليه بـ “مرفق العدالة” أرحب بكثير من قاعة الجلسات بإحدى محاكم تونس التي شهدت أطوارا وأطوارا من رحلة محفوفة بالمفاجآت وان مكوناته تتعدى القاضي المشرف على ملفه لتطال حاكم التحقيق ووكيل الجمهورية وكتبة المحكمة وأعوان الأمن والمحامين وكتبة المحامين والتفقدية العامة بوزارة العدل ووزير العدل والمجلس الأعلى للقضاء والأطوار الابتدائية والاستئنافية والتعقيبية والخبراء العدليين وعدول التنفيذ وغيرهم كثير..
هم بحق أعداد لا تحصى من المتدخلين كل حسب اختصاصه ومساهمته في إرساء العدل أو تعطيله.
وما انتبه إليه المنصف ولو متأخرا هو أن هناك متدخلين آخرين في المسار القضائي من أعوان ديوانة وأعوان صحة وممرضين وأطباء وشركات تأمين وسماسرة وسياسيين ورجال أعمال ومتنفذين..
انطلقت مسيرة المنصف مع القضاء، اثر تقدمه بشكاية متهما احد المواطنين بالتحيل عليه واصدار شيكات دون رصيد في 2008، وبعد مرور سنتين اكتشف سرقة وثائق الملف المودعة لدى المحكمة، بينما أسرّ له احد الكتبة بتعمّد خصمه تجميد القضية عبر إرشاء احد الموظفين المتدخلين في الملف.
يقول المنصف في شكاية الى وزير العدل إبان ثورة 2011: “بعد أن لجأت الى المحكمة لانصافي واستعادة حقوقي، اكتشفت اتصال خصمي باحدهم بقصر العدالة فجمّد ملفي لمدة سنتين كاملتين. وبعد جهد جهيد وعناء شديد لم أجد من الملفات الست سوى ملفا واحدا.”
يعتبر اتلاف الوثائق وضياعها من ملفات المتقاضين من بين المواضيع المتداولة في أروقة المحاكم وبمحيطها. ويتحدث البعض عن وجود حلقات مترابطة من الضالعين في هذه الجرائم للتأثير على مجرى الأحكام القضائية وتغيير وجهتها نحو من يدفع أكثر او من يستأثر بنفوذ اكبر.
وسبق لرئيس الجمهورية قيس سعيد ان اثار في 22 جويلية المنقضي هذا الموضوع الحارق بالتأكيد على ضياع ملف قضية حادث السيارة الادارية لوزير تكنولوجيات الاتصال السابق أنور معروف من رفوف المحكمة.
تصريح تسبب في صدور بيانات توضيحية من وحدة الاعلام والاتصال بالمحكمة الابتدائية ووكالة الجمهورية وعديد الاطراف القضائية ونقابة كتبة المحاكم تشدد كلها على عدم صحة المعطيات التي افصح عنها سعيد.
أما في قضية المنصف فقد اعترف احد موظفي وزارة العدل بمحكمة تونس في جانفي 2013 بـ “عدم العثور على نسخ الشيكات المودعة بالمحكمة” وبان ذلك تسبب في تأخر البت فيها، وذلك في رد مكتوب على عريضة كان المنصف قد تقدم بها الى وكيل الجمهورية.
افتعال وتدليس وتزوير
في ماي 2011، وبينما كان العشرات من القضاة ينفذون تحركا احتجاجيا أمام وزارة العدل بشارع باب بنات بتونس العاصمة، رافعين شعار “وحده القضاء المستقل يضمن المحاكمة العادلة والنزيهة”، بلغ الى علم المنصف ان خصمه في قضية الشيك دون رصيد حصل على بطاقة كف تفتيش رغم صدور حكم ضده بالسجن لمدة خمس سنوات مع النفاذ العاجل.
وبالتثبت في تفاصيل هذه الشهادة تبين أن صاحبها لم يعترض على الحكم، وانه تم افتعال هذه الشهادة يوم 15 نوفمبر 2010 أي قبل يوم فقط من عيد الأضحى مع تدليس إمضاءات وتزوير أختام المحكمة.
وأوضحت موظفة بقسم الكتابة بمحكمة تونس 1 بتاريخ 31 جانفي 2013 في رد على عريضة المنصف انها عندما تثبتت في منظومة الاعلامية المخصصة لمناشير كف التفتيش تبين لها عدم اعتراض المتهم على الحكم موضوع منشور التفتيش، متسائلة: “كيف تحصل المتهم على الشهادة المزعومة؟”
يقول المنصف الذي يعاني من إعاقة بصرية: “لقد استغلوا ضعفي ووضعي الصحي محاولين التفصي من العقاب، فدلسوا وثيقة كف تفتيش لمتهم. ولكن كيف تم استخراج هذه الوثيقة المفتعلة؟ ومن أين اتى الجناة بختم المحكمة وكيف دلسوا امضاءات موظفي وزارة العدل؟ هل تكفل خصمي لوحده بكل هذه الجرائم ام هناك من ساعده من داخل المحكمة للافلات من العقاب؟
تفاصيل القضية أشارت ايضا الى استعانة المتهم بشقيقه الذي يعمل رئيس مركز امن ليتكفل بتسليم الشهادة المدلسة إلى الشرطة العدلية عوضا عنه. وقد أقر بذلك في محاضر البحث.
ورغم ذلك اكتفت المحكمة بتوجيه تهمة التدليس الى المتهم الرئيسي وادانته بسنة سجنا دون تفكيك شبكة متكاملة من الضالعين في اتلاف الوثائق في مناسبة اولى ثم في افتعال وثيقة كف تفتيش وتدليس امضاءات وسرقة اختام رسمية ومساعدة مفتش عنه على الهروب نحو بلد افريقي وعدم اعلام النيابة العمومية بوجود وثيقة مدلسة.
المعركة متواصلة..
وبعد مرور سنوات طوال، يواصل المنصف خوض معركته من اجل محاسبة كل من ساهم في سرقة وثائق من رفوف المحكمة والتدليس والتزوير وافتعال وثيقة رسمية، متحديا اعاقته البصرية ومتسلحا بعزيمة فولاذية في مقارعة الصعوبات. ولم ييأس من التشكي الى وزارة العدل والتفقدية العامة لوزارتي العدل والداخلية والى الوكيل العام لمحكمة الاستئناف.
بينما ينتظر المنصف استعادة أمواله التي سلبت منه بالحيلة، لمواصلة معركته من اجل رفع قضية أخرى لملاحقة الضالعين في عدم محاسبة عصابات سرقة الملفات القضائية وافتعال الوثائق وتدليسها وتزوير اختام رسمية، لا زال المشوار طويلا امام مرفق العدالة للتخلص مما شابه من تعفن وعلق به من شوائب قبل فتح عديد القضايا الكبرى للبت في ملفات شهداء الثورة وجرحاها بما فيهم ملفي شكري بلعيد ومحمد البراهمي وفي العمليات الارهابية العديدة وفي تسفير الشباب الى بؤر التوتر وملف الجهاز السري لحركة النهضة وفي ملفات الفساد المالي كتهريب للأموال والاستيلاء على الاموال العمومية والاملاك المصادرة وملف البنك الفرنسي التونسي حتى لا يتسبب الافلات من العقاب في عودة القتلة والفاسدين الى الواجهة بوجوه جديدة أكثر تعنتا.
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 14 سبتمبر 2021