الشارع المغاربي- العربي الوسلاتي: لم يعد يخفى على أحد أنّ العلاقة بين وزارة الشباب والرياضة والجامعة التونسية لكرة القدم وصلت الى طريق مسدودة. ولم يعد من التذاكي الاقرار بوجود حرب حقيقية علنية بين رئيس الجامعة وديع الجريء والوزير العائد كمال دقيش. كما أنه لم يعد من العسير أبدا استقراء عناوين الغيب وتشريح طبيعة المرحلة القادمة. فتواجد الاسمين على نفس الملعب بات أمرا شبه مستحيل. فإمّا عودة الوزير الى مربّع الهدنة الاضطرارية تحسبا لعقوبات خارجية أو خسوف نهائي لشمس الجريء لاعتبارات تبدو في ظاهرها سياسية.
التصعيد الممنهج والخطير في معركة كسر العظام التي نعاينها في الساعات القليلة الماضية يوحي بتطوّرات أكبر وأخطر لأنّ مدى رقعة الحرب الطاحنة يتسع شيئا فشيئا بدخول أكثر من طرف على خطّ المواجهة. ورائحة التقلبات السياسية التي تعيشها البلاد تُلقي بغيومها على المشهد الرياضي وتسحب الى باطنها السحيقة أسماء إضافية من شأنها تأجيج نار الفتنة الرياضية السياسية المندلعة بطبعها في البلاد منذ تاريخ 25 جويلية.
نقطة التحوّل
أعلن الوزير كمال دقيش رسميا عن نهاية فسحة وديع الجريء وهو التصريح الأخطر منذ الثورة في علاقة بين الهيكلين ورسالة مثيرة تلقفتها الجماهير بين رافض ومؤيّد لها وبين منجّم كذلك لتبعات ولنتائج هذا التغيير. من جانبه لم يتأخّر وديع الجريء كثيرا للردّ على تهم الوزير وذهب بالصراع الى أماكن بعيدة أبعد حتى ممّا رسم الوزير في مخيلته. ولكن السؤال المطروح حاليا هو من المستفيد من هذه الحرب الضروس ومن سيكون الخاسر الوحيد في معركة قرع الرؤوس؟
بالعودة الى أصل الخلاف يعرف الجميع أنّ رئيس الجامعة التونسية لكرة القدم بنى لنفسه منظومة رياضية عالية الأسوار أحاطها بجيش دفاع متين يتكوّن من مسؤولين رياضيين وسياسيين فاعلين دعّمها كذلك بكتيبة نشيطة من الصحفيين والاعلاميين. فكانت بداية تشكّل إمبراطورية رياضية وضعت لنفسها حجر أساس وأعلنت قيام دولة صلبة ومنفصلة داخل دولة أخرى متهالكة. تعاظم نفوذ الجريء جعله يُطيح بكل خصومه ويصبح في نظر كثيرين رجلا خارقا لا يقهر. بل الأكثر من ذلك أنه أصبح مثالا للنجاح والحكمة والحنكة والحوكمة الرشيدة فلم يتحرّج البعض من ترديد نجاحاته في غرف القصر المهجور وتحت قبّة البرلمان المقبور.
الجريء لم يعد يتحكّم في فصول اللعبة الرياضية فقط بل طالت يداه كذلك الخلطة السياسية التي كان يجيد تركيبها أو التخفّي بداخلها. وثقله المادي والمعنوي داخل التحالفات الحزبية والتشكيلات الحكومية لم يعد يخفى على أحد فالرجل كان وراء تعيين وعزل عديد الوزراء كما أنه كان ذات يوم السبب الرئيسي في إعفاء الوزير الحالي من مهامه وهنا مربط الفرس.
ساند وزير الرياضة كمال دقيش خلال حقبته الوزارية الأولى ترشيح طارق بوشماوي لرئاسة الكاف وهي المساندة التي كلفته منصبه بما أن الجريء حرّك غواصاته المندسة داخل أسطول المشيشي المخترق بطبعه ليقرّر عزل دقيش. السبب الظاهر في ذلك الوقت هو ملف هلال الشابة والأسباب الباطنة تحيل بالأساس الى اصطفاف الوزير وراء رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي كان في قطيعة معلنة مع حكومة المشيشي آنذاك.
أداة في يد الرئيس
بعودة دقيش الى الوزارة عاد الصراع الى نقطة البداية ولكن بعناوين مختلفة هذه المرّة. فالجريء لم يعد في موضع قوّة لأنّ الخارطة السياسية القديمة تمزّقت بالكامل وكل منظومات العشرية الماضية دخلت قبو النسيان أوالهذيان. كما أنّ الوزير عاد أقوى من قبل لأنّه كان ولازال تابعا قلبا وقالبا لرئيس الجمهورية الذي يضع يده حاليا على كلّ مؤسسات الدولة ويبحث بكل ثبات عن جرّ بقيّة المؤسسات المارقة على حكمه الى بلاطه.
قد يتساءل البعض لماذا يضع الوزير رأس وديع الجريء على قائمة المطلوبين للعدالة الشعبية التي يمارسها رئيس الدولة. وقد يخوض البعض الآخر في دوافع النزعة الانتقامية التي أظهرها الوزير منذ عودته تجاه الجريء والحال أنّ الرجل يبدو أرفع من ذلك بكثير. التفسير الوحيد هو أنّ كمال دقيش لا ينطق عن هوى ولا يتحرّك وفق أهوائه ولكنه في الحقيقة ينفذّ مشروع رئيس الجمهورية بكل حذافيره. وهذا المشروع قائم على «التنكيل» معنويا بكل الخصوم الذين وقفوا ذات يوم على الضفّة المقابلة حيث كان يقف المشيشي ومن معه…
السؤال الأهم الآن لماذا يضع سعيد اسم وديع الجريء في قائمات الملاحقين ونقول قائمات ليس لهوا بالمفردات وإنما لأنّ الرئيس لم يترك شاردة ولا ورادة منذ وصوله الى الحكم الاّ ودوّنها وأجّلها لساعة حساب كنا نخالها بعيدة وكان يراها قريبة بل أقرب مما تصورنا جميعا.؟ الجواب هو أنّ قيس سعيد لم ينس كيف خالف الجريء النواميس والأعراف وبرمج نهائي كأس تونس في المنستير دون مشورته. وسعيد لم ينس كذلك كيف تعالى الجريء في ردّه عن هذه النقطة التي خلقت إشكالا في ذلك الوقت عندما قال من حقّ الرئيس أن يغضب ومن حقّه كذلك أن يقاطع النهائي وهو كلام صُنّف في ذلك الوقت على أنه تجاهل لسعيد ولمؤسسة رئاسة الجمهورية ككل. وهو نفس الموقف الذي استخلصه قيس سعيد عندما استعان الجريء في حربه الأولى مع كمال دقيش بوصف الأخير بأنه وزير الرئيس.
هذا الوصف نفسه هو الذي أعاد دقيش الى الوزارة اليوم وهو الوقود نفسه الذي يوقد شرارة المعركة الآن بين الجناحين. ولكن أيّة فاتورة ستدفع كرة القدم التونسية في ظلّ التهديدات الخارجية التي تتربّص بها؟
ضوء أخضر
الجميع يعرف أنّ الجريء كثيرا ما كان يتحصّن بالفيفا لكبح جماح الدولة الغاضبة وكثيرا ما كان يُجيد استخدام هذه الورقة لترويع خصومه وتركيعهم خاصة أنّ كرة القدم بالنسبة لكثيرين مسألة حياة أو موت وإن المساس بها أشبه بالاعتداء على مقدساتهم. ورغم أنّ ردّ الجريء كان مهادنا هذه المرّة وعلى غير العادة فإنّ الجميع يعرف أنه سيستنجد بالفيفا لإفشال أيّ مخطط للإطاحة به وهذا السيناريو هو الذي يقع الترويج له حاليا في محيط الجامعة على أمل أن يتراجع الوزير عن مسعاه. ولكن ماذا إن كان الوزير قد تلقى فعلا الضوء الأخضر لدخول هذه الحرب وضرب الحرم الجامعي مهما كانت التكاليف؟ ماذا لو واصلت تونس تمردها على القوانين والنواميس العالمية وتجاهلت القانون الرياضي الدولي بعد أن تجاهلت في وقت سابق مؤسسات الترقيم السيادي التي وصفها رئيس الجمهورية بأمك صنّافة؟ هل يُلقي رئيس الجمهورية الذي يتلذذ بعزلته بالا لكل هذه الاعتبارات ويهتم لأمر الفيفا وهو الذي لا يعترف لا بالخارج ولا بالداخل ؟
الغريب في الأمر أنّ وديع الجريء استنجد برئيس الجمهورية لردّ الضرر الذي طاله من وزير الرياضة ودعاه إلى التدخل لحمايته من الادعاءات والاتهامات الخطيرة والباطلة التي لحقته. نقول من الغريب لأنّنا لا نخال الجريء يجهل ما يدور حوله وما يحاك ضدّه ولأنه أكثر الناس إدراكا بأنّ وزير الرياضة ليس في الحقيقة سوى عصا في يد رئيس الجمهورية يحرّكها فقط لضرب أو تخويف خصومه. فلماذا الاحتماء بدرع مثقوب؟
يدرك وديع الجريء جيّدا أنّ قيس سعيد لا يتحرّك سوى في مربّع القانون وأنه ليس الرئيس الذي يميل الى تلفيق القضايا وبما أنه حصّن نفسه كأحسن ما يكون لهذا اليوم الموعود فهو يعي جيّدا أنّ طرق المساءلة والمحاسبة والملاحقة القانونية لن تطيح به لأن حساباته مضبوطة ومعلومة على الأقل بالنسبة له. أما محاولات الترويع والتهديد والوعيد فذلك أمر لا يخيفه فهو بحكم معرفتنا بالرجل لن يستقيل تحت أيّة ظروف وقد يضطر في الوقت الذي يراه مناسبا للاستنجاد بقوى خارجية (الفيفا) لكفّ الأذى عنه… رسالة الجريء حملت بين سطورها حروفا وجملا مشفّرة فيها محاولة مقصودة لإعادة الكرة الى ملعب «الرئيس» من خلال التأكيد على أنّ الجميع تحت وصايته وتحت حمايته. هذا اعتراف ضمني من الجريء بعلوية «جمهورية سعيّد» ولعلّ هذا ما يبحث عنه الرئيس في الحقيقة أكثر من بحثه عن التطهير وعن العدالة المنشودة لإرضاء كبريائه أمام شخصية رياضية وسياسية وازنة نالت بكلّ اقتدار ودهاء من خصومها الواحد تلو الآخر وهي النقطة الوحيدة ربّما التي قد تعلن وقف الحرب أو لم لا تأجيلها.
سيناريوهات
السيناريوهات المطروحة حاليا الآن هي كالتالي: أن يتكرّر سيناريو رئيس الحكومة «المخلوع» المشيشي مع الجريء فتكون الاستقالة تحت «التهديد» وهذا قد يقي الوزير ومسانديه مشقة الدخول في معارك قضائية وقانونية مع الفيفا رغم أنّ الوزير يميل لهذا الطرح كثيرا وهو الذي لا يفوته في كل تصريحاته وخرجاته الاعلامية أن يتباهى بصولاته وجولاته في الهياكل الرياضية الدولية.
السيناريو الثاني هو أنّ يثبت فعلا «فساد» الجريء وتثبت بالتالي إدانته وحينها لن يكون للفيفا أيّ دور رئيسي في المرحلة القادمة وحتى إن حدث ذلك فسيكون مؤقتا وغير مقلق.
السيناريو الثالث هو أن يفشل المنتخب التونسي في الترشح للمونديال فتعلن وزارة الرياضة عن تجميد المكتب الجامعي تحت شماعة الفشل والغضب الشعبي العارم وهي الخطوة التي كان الوزير ينوي القيام بها في صورة تعثّر المنتخب التونسي أمام زمبيا.
السيناريو الرابع المتوقع لنهاية هذه الحرب الطاحنة وهو في الحقيقة أصعبها هو أنّ تسقط منظومة قيس سعيد بكاملها وبالتالي زوال كل عناوينها وهنا لن يكون هناك أيّ موجب لملاحقة الجريء. هذا السيناريو الذي يلامس سقف المستحيل هو الوحيد تقريبا الذي قد ينقذ كرة القدم التونسية ويقيها من الدخول في غياهب المجهول. أما بالنسبة لأولئك الذين ينتظرون استقالة الجريء أو انحناءه فهم واهمون. كما أنه من ينتظر تراجع سعيّد ووزيره عن ملاحقة الجريء وتعقبّه « تحت الأرض وفوق الأرض وفي السماء» يخادع نفسه لأنّ طبول الحرب قد دقّت فعلا وهذه الحرب لن تضع أوزارها إلاّ بنهاية إمبراطورية وميلاد أخرى.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 23 نوفمبر 2021