الشارع المغاربي-الحبيب القيزاني: لماذا لجأ بوتين الى السلاح في التعامل مع “الحالة الأوكرانية” ؟ ولماذا اصطف الغرب وراء النظام الذي زرعه سنة 2014 بثاني أهم دول منظومة الاتحاد السوفياتي سابقا بعد روسيا ؟ ما علاقة الدفاع عن أوكرانيا بمنع عودة الإمبراطورية الروسية ؟ وهل للصراع على السيطرة على منطقة اوراسيا علاقة بقرار بوتين اللجوء الى الحسم العسكري والتحذير من مغبة تدخل أي طرف اجنبي في النزاع ؟
تقوم ثوابت الجغرافيات السياسية الأنغلوساكسونية على نظرية الجغرافي البريطاني ألفريد ماكيندر الذي يرى في كتابه “المُثل الديمقراطية والواقع” أن “من يسيطر على أوروبا الشرقية يسيطر على مركز العالم ومن يسيطر على مركز العالم يسيطر على جزيرة العالم ومن يسيطر على جزيرة العالم يحكم العالم”.
يقول ماكيندر أيضا : “على البريطانيين اذا كانوا يرغبون في السيطرة على العالم أولا تقسيم “جزيرة العالم”.
و”جزيرة العالم” حسب تعريفه هي منطقة أوراسيا مضافة اليها القارة الافريقية.
من هنا تمثل أوكرانيا التي تتموقع جغرافيا في قلب أوراسيا هدفا استراتيجيا رئيسيا بالنسبة لصناع القرارات العالمية في كل من لندن وواشنطن لتوسيع رقعة نظام عالمي ذي قطب واحد ولو كان ذلك على حساب قوتين عظميين هما روسيا والصين.
محاولة “ابتلاع” أوكرانيا ضمن منظومة الحلف الأطلسي تخفي هدفا استراتيجيا آخر نظّر له زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس كارتر وصاحب نظرية احتواء الاتحاد السوفياتي بقوله : “دون أوكرانيا لا يمكن لروسيا أن تكون امبراطورية”.
يشعر الامريكان اليوم ومن ورائهم دول المعسكر الغربي بما في ذلك ذراعه العسكرية “الناتو” بندم على عدم استعجال ضمّ أوكرانيا الى الحلف في السنوات الأولى التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي.
في حوار أجرته معه قناة TF1 الفرنسية مؤخرا عبّر رئيس الدبلوماسية الأوروبية جوزيب بوريل عن ذلك قائلا : “اعترف بأننا ارتكبنا عددا من الأخطاء وبأننا فقدنا إمكانية تحقيق تقارب بين روسيا والغرب” قبل أن يضيف : “هناك أشياء اقترحناها ولم نقدر على تحقيقها مثل وعدنا بانخراط أوكرانيا وجورجيا في الحلف الأطلسي”.
والحقيقة أن الإدارة الامريكية غفلت بعد امساك المحافظين الجدد بدواليب سياستها الخارجية عن التعاطي مع الجانب الوقائي الذي ألمح اليه بريجنسكي ألا وهو العمل على منع روسيا من تحولها مجددا الى امبراطورية تنافس بلاده على قدم المساواة وكأنه استشعر قيام بوتين بإعادة بناء الدولة الروسية عسكريا واقتصاديا في ظرف وجيز بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لذلك لم تكن أوكرانيا خلال العقود الثلاثة الماضية على رأس سلم أولويات السياسة الجغراستراتيجية الأمريكية اذ سبق للرئيس جورج بوش الأب أن قال أمام نواب البرلمان الأوكراني خلال زيارة أداها لهذا البلد 3 أشهر قبل سقوط الاتحاد السوفياتي : “لن يساند الامريكان أولئك الذين يبحثون عن تعويض نظام استبدادي قديم العهد (في إشارة الى ما تسميه واشنطن “امبراطورية الشرّ” أي الاتحاد السوفياتي) بنظام استبدادي محلي ولن يدعموا من يدعون الى نشر روح وطنية انتحارية قائمة على الكره العرقي”.
كلام بوش لم يأت من فراغ اذ كان يعلم بفضل تقارير مخابرات بلاده بتنامي نزعة شوفينية في أوكرانيا يكن اصحابها حقدا دفينا للروس الذين يشكلون جانبا من سكان البلاد ويتكلمون لغتهم ويتواجدون أساسا بشرقها (منطقتا دونيسك ولوغانسك). هؤلاء كانوا يعتبرون انفسهم من عرق دانماركي أعلى من عرق الروس السلافي وأثبتت الوقائع تسجيل اعتداءات على هذه الجالية خاصة منذ عام 2014 تسببت حسب تقارير محلية في مقتل ما بين 12 و14 ألف مدني.
في 2014 حاولت الولايات المتحدة تدارك خطئها الاستراتيجي ونجحت في تدبير انقلاب بأوكرانيا ازاح نظاما مواليا لموسكو وزرع نظاما مواليا للغرب. غير أن بوتين رد علي ذلك باحتلال شبه جزيرة القرم وتسليح الانفصاليين في دونيسك ولوغانسك وظل التوتر قائما بسبب مماطلة واشنطن في التوقيع على ضمانات مكتوبة بعدم توسع الناتو الى أوكرانيا ورفض كييف تطبيق بنود اتفاقية مينسك.
لكن القطرة التي أفاضت الكأس في الكرملين هو قول رئيس أوكرانيا الحالي فولوديمير زيلنسكي يوم 19 فيفري المنقضي لدى استضافته في الاجتماع السنوي لنخبة “الناتو” بميونيخ ان بلاده تطمح لامتلاك السلاح النووي تماما مثلما تملك روسيا ذلك. ويوم 20 كان أعضاء البرلمان الروسي (الدوما) في حالة غليان ووقعوا على لائحة طالبت بوتين بالإعلان عن استقلال جمهورتي الدونباس الانفصاليتين الشيء الذي استجاب له بوتين في الغد قبل أن ينطلق يوم 24 فيفري هجوم جوي شامل على الأراضي الأوكرانية تبعه هجوم برّي.
مثل كلام زيلنسكي بالنسبة للقيادة الروسية خرقا لا يغتفر للخطوط الحمراء الخاصة بالأمن القومي الروسي باعتبار أن حكام كييف لا ينوون الانضمام الى “الناتو” فحسب وانما يسعون ليحوّلوا دولتهم الى قوة نووية لن تكون ترسانتها بفعل توجهات النظام السياسية والأيديولوجية الا موجهة ضد دولة نووية أخرى هي روسيا.
لقد استخف زيلنسكي بردّ فعل موسكو مزهوّا ببيانات الدعم التي كان المعسكر الغربي يصدرها بين يوم وآخر.
من هنا لم يكن الهجوم الروسي صدفة أو نتيجة خطإ في الحسابات أو انفلات في القرارات وانما ضربة استباقية لتحقيق هدف استراتيجي يضمن لروسيا مكانتها كأمبراطورية بكل جدارة عبر إما فسخ الدولة الأوكرانية من الخريطة وضمها للاتحاد الفيديرالي الروسي أو فصل جمهورتي لوغنسك ودونسك عنها الى الابد أو حتى تقسيمها الى شطرين في سيناريو شبيه بواقع الكوريتين الجنوبية والشمالية.
يدرك بوتين القيمة الجغراستراتيجية لأوكرانيا ليس بالنسبة لبلاده فحسب وإنما أيضا في علاقة بالصراع القائم مع المعسكر الغربي للسيطرة على منطقة أوراسيا. ولم يكن نعت الرئيس الأمريكي جو بايدن نظيره الروسي بـ”مجرم حرب” وبـ “جزّار” سوى ردّ فعل يائس على صرامة تعامل بوتين مع ما يعتبره نزعة “الناتو” بزعامة أمريكا للهيمنة على “أوروبا الكبرى” الممتدة من المحيط الأطلسي الى المحيط الهادىء شرق روسيا مع ما يعني ذلك من تضييق الخناق على بلاده. ولذلك قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف “إن الغرب يوظف أوكرانيا للحفاظ على هيمنته على العالم”.
السؤال اليوم بعدما تكلّم السلاح هو هل يستجيب بوتين لدعوات وقف اطلاق النار؟ واذا قبل بذلك فبأية شروط؟ وإذا رفض الغرب شروطه هل يكمل المهمة حتى استسلام آخر جندي أوكراني؟ وأي مستقبل لأوكرانيا اذا دخلت تحت الاحتلال الروسي وهل سيكتفي بوتين بضمان عدم انضمامها الى الحلف الأطلسي والى الاتحاد الأوروبي أم سيشترط عليها عددا معينا من الجنود والسلاح أم تراه سينصّب نظاما مواليا لبلاده مثل الذي كان قائما قبل انقلاب 2014؟
في كل الأحوال لن نخال الكرملين يرضى إلاّ بأوكرانيا شبه منزوعة السلاح بعدما بات على يقين بأنه لا حدود لشهية الهيمنة لدى الدول الغربية ولعلّ رفض الصين ادانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا دليل على وقوف البلدين في خندق واحد دفاعا عن أوراسيا.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 29 مارس 2022