الشارع المغاربي-تحقيق- محمد الجلالي: كانت الشركة الوطنية للنقل بين المدن خلال مستهل السنة الحالية على موعد مرة أخرى مع تجاوزات مالية وإدارية بلغت حد تدليس وثائق واختام وافتعال إمضاءات واختلاس أموال عمومية.
ولئن قررت مؤخرا الإدارة العامة إيقاف عون استخلاص وتتبعه قضائيا فإنها تواجه بدورها قضية تتعلّق بنفس الملف بدعوى تسترها عن ضلوع وفاق اجرامي داخل المؤسسة في السطو على مقدراتها عبر التحيّل والتدليس وافتعال الامضاءات..
ولكن كيف تم الاستيلاء على أموال الشركة؟ وهل بمقدور عون واحد ان يدلّس الوثائق ويفتعل الامضاءات ويستولي على وصولات خلاص وينتحل صفة زملائه ويختلس أموال عمومية دون مساعدة او تواطؤ من زملائه او ادارته؟ ألا يعتبر صمت الإدارة العامة على تسلم الشركة مستحقات بآلاف الدنانير نقدا مخالفا للقانون؟
سلسلة مترابطة
يوم 7 ديسمبر 2021 تسلم عون استخلاص بالشركة الوطنية للنقل بين المدن (SNTRI) 1300 دينارا نقدا من حريف للشركة نظير تأجير محل تجاري بمحطة ماطر من ولاية بنزرت. وبعد أسبوع فقط تلقى مدير الصيانة بالشركة مراسلة من رئيس وحدة متابعة وثائق الحافلات لإعلامه بأنه اكتشف عدم خلاص معاليم جولان ثلاث حافلات.
أما التقرير المنجز من قبل المدير المالي للشركة فأكد ان العون تعود على استلام أموال الكراءات نقدا وانه تسلم في 13 جانفي 2022 مبلغا في حدود 6500 دينار من حريف بمحطة باب عليوة بالعاصمة.
بعد مرور أكثر من شهر على عملية ماطر أي يوم 21 جانفي 2022 تفطنت إدارة الموارد البشرية الى انه تم اقتطاع 13 وصل خلاص من كنش الوصولات والى انها لا تعرف مآلها، وفق تأكيد نفس التقرير.
انكشف أمر التجاوزات بعد ان لاحظ عون وافد على مصلحة المحاسبة ان خزينة الشركة لم تسترجع مبلغا بقيمة 200 دينار صرف كعنوان تسبقة استثنائية باسم زميلة له رغم وجود وصل خلاص في ذلك.
يقول عصام البناني الموظف المعزول من SNTRI بعد تبليغه عن الفساد ان التجاوزات مست في ظرف وجيز إدارات المالية والمحاسبة والموارد البشرية والخزينة وصيانة الحافلات.
كيف نُهبت أموال الشركة؟
تؤكد تقارير رقابة حصلت أسبوعية “الشارع المغاربي” على نسخ منها ان عون محاسبة بشركة النقل هو من انتبه الى عدم إعادة تسبقة استثنائية مسجّلة باسم زميلة له الى خزينة المؤسسة.
في هذا السياق يلفت البناني الى أنه تم الحاق عون المحاسبة بالشركة منذ فترة وجيزة والى ان الالحاق ساهم بصورة كبيرة في كشف أركان جريمة منظمة ومدبّرة من أطراف مختلفة.
وجاء في استجواب وجهته إدارة المالية بالمؤسسة لموظفة حاصلة على تسبقة على الاجر ان عون استخلاص حصل على تسبقات استثنائية باسمها ودون علمها مشددة على انه اعترف في وقت سابق بما اقدم عليه متعهدا بارجاع ما حصل عليه.
اما عون الاستخلاص المشتبه في تلاعبه باموال عمومية فقد اعترف بتزوير امضاء زميلته على مطلب السلفة وعلى وثيقة تسلمها وبتدليس امضاء قابض الخزينة واستعمال ختم إدارة المالية في غير محله للإيهام بإيداع الأموال بالخزينة حتى تفادي خصما من مرتب زميلته.
ويؤكد البناني ان ما أقدم عليه عون الاستخلاص لا يعد عملا فرديا وانه يفترض ان تنتبه إدارات المالية والخزينة والموارد البشرية التي ينتمي اليها عديد الموظفين الى عميات التدليس وافتعال الامضاءات والتلاعب بالوثائق الإدارية حالما يحصل التلاعب.
المتحدث بيّن ان تحرك إدارة المالية وإدارة الموارد البشرية ومكتب الاذن بالدفع كان محاولة يائسة ومتأخرة بعد ان كشف عون المحاسبة عن أول خيوط عمليات تحيل مالي واداري، متسائلا: “هل يعقل الا تنتبه إدارة الموارد البشرية الى فقدان 13 وصلا غير مستعمل ولا تراجع إدارة المالية حسابات الحرفاء الا بعد سقوط واحد من المحتالين؟”.
في هذا الإطار لفت البناني الى وجود ما أسماه “تستر ومشاركة ومساعدة في عمليات اختلاس وتدليس وتزوير اختام” من طرف بعض أعوان الشركة.
اختفاء معاليم كراء
ملف آخر في علاقة وثيقة بسلسلة التجاوزات، اماطت عنه إدارة المالية اللثام هو ملف اختفاء معاليم كراءات اذ تشير مذكرة وجهها المدير المالي الى الرئيس المدير العام في 27 جانفي المنقضي الى أن عون الاستخلاص المتهم بالانتفاع دون وجه حق بأموال التسبقات استولى على وصولات خلاص ثم استغلها في عمليات تجميع أموال كراءات الشركة من الحرفاء دون ايداعها بالخزينة العمومية.
وجاء في المذكرة انه “بعد التثبت من الكشوفات اليومية لخزائن المقر الاجتماعي ومحطة النقل البري بباب عليوة ومحطة باب سعدون ومحطة بنزرت تبين انه لم يتم إيداع مبالغ الكراءات”.
وكشفت المذكرة ان العون تسلم نقدا من حرفاء الشركة مبالغ بآلاف الدنانير مقابل تمكينهم من وصولات مختومة.
اللافت ان إدارة المالية ذكرت المعلومة دون أية إشارة الى عدم قانونية طريقة تجميع الأموال نقدا رغم تنصيص القانون على الا تتجاوز المعاملات المالية 500 دينار نقدا في مختلف المجالات.
وفي سياق آخر حصلت صحيفة “الشارع المغاربي” على مراسلة موجهة الى مدير الصيانة في 16 ديسمبر 2021 ابرز فيها رئيس وحدة متابعة وثائق الحافلات انه تفطن الى عدم خلاص معاليم جولان ثلاث حافلات.
ويؤكد مصدر بالشركة ان التسيب والفوضى الإدارية تسببا في عدم خلاص معاليم جولان حافلات مستغلة طيلة اكثر من سنة او في عدم إيقاف معاليم جولان حافلات خارج الخدمة.
اكتفت الإدارة العامة بإيقاف عون الاستخلاص وتكليف إدارة التفقد والتدقيق بالتحقيق في الموضوع وتحديد القيمة الجملية للاختلاسات واعلام النيابة العمومية.
إجراءات اعتبرها عصام البناني منقوصة وغير جدية مشددا على ان ما ذهبت اليه الإدارة لا يعدو ان يكون سعيا لغلق ملف الاختلاسات بأخف الاضرار وعلى ان حصر كل التجاوزات في عون واحد يفتح المجال امام احتمالين قائلا: “إما اننا إزاء عون خارق وقادر على النفاذ الى كل الإدارات دون ان ينتبه اليه أحد أو ان هناك تسترا إداريا على شبكة مترابطة من الضالعين في نهب مقدرات المؤسسة”.
من جانبه أشار موظف فضل عدم كشف هويته الى ان الأسابيع الأخيرة شهدت مساعي اطراف داخل الشركة وخارجها في محاولة لإعادة الأموال المنهوبة مقابل إعادة العون المعزول واغلاق ملف الاستيلاءات لافتا الى ان دخول النيابة العمومية على الخط احبط المخطط.
وكان البناني قد وجه بين شهري جانفي وفيفري الماضيين ثلاث مراسلات الى كل من ربيع المجيدي وزير النقل وهشام العساس رئيس مدير عام الشركة الوطنية للنقل بين المدن لمطالبتهما باتخاذ تدابير إدارية وقانونية عاجلة في شأن تجاوزات مالية وإدارية صلب المؤسسة العمومية.
كما رفع البناني شكاية بالإدارة العامة للشركة الوطنية للنقل بين المدن وكل من سيكشف عنه البحث من أجل اختلاس أموال عمومية وخيانة مؤتمن ومسك واستعمال مدلس وافتعال اختام وانتحال صفة.
أسبوعية “الشارع المغاربي” راسلت منذ 1 أفريل إدارة الشركة لاستفسارها عن الإجراءات المتبعة لتجميع معاليم الكراءات وعن قيمة المبالغ المختلسة من حساباتها في مجالي الاستخلاص والتسبقات على الاجر. كما استفسرنا الإدارة عن سبب عدم خلاص معاليم جولان بعض الحافلات وعن الإجراءات الإدارية والقانونية المتخذة للتصدي لعمليات النهب الممنهج لكننا لم نتلق أية إجابة الى حدود نشر هذا المقال.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 12 أفريل 2022