الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: يؤكد العديد من المهتمين بالشأن الاقتصادي والمالي أن عددا من رجال الأعمال ينتظرون بداية العمل بقانون الصلح الجزائي وتفعيله لتسوية وضعياتهم بشكل جذري والقطع مع ما يتعرضون له من ملاحقات لا تنتهي، مما ادى الى نفور قسم كبير منهم من تونس وتغيير وجهة استثماراتهم لدول أخرى.
وتطالب، في نفس السياق، منذ سنوات عدة منظمات تمثل المستثمرين ورجال الاعمال بضرورة القطع مع خطاب التخويف والوعيد وترهيب رأس المال المحلي ضمانا لاستمرار الاستثمار في الاقتصاد المعطل اصلا بسبب مناخ عدم الاستقرار الذي يسود البلاد في ظل غياب الكفاءة والارادة لتطويره.
اخطاء شكلية واجرائية فادحة
صدر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية يوم الجمعة 11 نوفمبر 2022، الأمر الرئاسي عدد 812 لسنة 2022 والمتعلق بتسمية أعضاء اللجنة الوطنية للصلح الجزائي ومقررها لمدة 6 أشهر.
وضبط الامر تركيبة اللجنة التي تتكون من قاض عدلي ورئيس دائرة بالمحكمة الإدارية ووكيل دولة بمحكمة المحاسبات، ومراقبين عامين للمصالح العمومية وللمالية واعضاء اخرين من وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية ورئيس وحدة بلجنة التحاليل المالية، ممثل عن لجنة التحاليل المالية بالبنك المركزي التونسي. وفي هذا الاطار، يتضح ان خطا اجرائيا كبيرا تسرب لنص الأمر اذ ان التسمية القانونية الأصلية للجنة التحاليل المالية هي “اللجنة التونسية للتحاليل المالية”. كما انها لا تعمل صلب البنك المركزي التونسي بل هي مركز وطني مستقل يعمل كوحدة تحريات مالية ذات صبغة ادارية، تم انشاؤها بمقتضى الفصل 118 من قانون 2015 المتعلق بمكافحة الارهاب ومنع غسل الاموال.
ويمكن ان يطرح وجود هذا الخطأ الشكلي عدة اشكالات عند تنفيذ قانون الصلح الجزائي الذي يعاني اصلا من الكثير من اللبس والهنات الجذرية التي تجعل تطبيقه شبه مستحيل.
من جانب اخر، كان من المفروض ان ينص الامر الذي ضبط تركيبة اللجنة بشكل صريح وواضح على ان يكون رئيسها قاضيا عدليا برتبة رئيس دائرة تعقيبية حتى لا يكون اقل رتبة من نوابه في اللجنة علاوة على اخلالات اخرى تضمنها الامر وهي ان ميزانية لجنة الصلح الجزائي تحمل على ميزانية الدولة في حين انه كان من الضروري ان تحمل على رئاسة الجمهورية بما انها احدثت على مستواها وبأمر منها.
غير ان اهم اشكال يطغى على الامر الرئاسي المحدث للجنة الصلح الجزائي يتمثل في أنها لجنة ادارية وليست قضائية، وبذلك فهي لا تصدر احكاما علاوة على ان اعضاءها موظفون يمكن ان يتم اعفاؤهم بقرار من رئيس الجمهورية وهو ما يمثل عائقا امام استقلاليتها ومتطلبات قيامها بمهامهما وكذلك اكساء قراراتها طابع النفاذ القانوني. ويضاف الى هذا عدم تمتعها بالشخصية القانونية والاستقلالية المالية والادارية.
توقعات بفشل الصلح الجزائي
بغض النظر عن عيوبه القانونية الكثيرة، ترجح العديد من الجهات ان يفشل قانون الصلح الجزائي وان يكون غير قابل للتطبيق لعدة أسباب أهمها أن تحريره كان رديئا ومتسرعا إضافة إلى صعوبة تنفيذه على أرض الواقع والتوصل إلى نتائج في ظل وفاة بعض المعنيين بالصلح الجزائي وإفلاس البعض الآخر ومغادرة آخرين تونس و صدور أحكام قضائية في حق معنيين آخرين.
كما أن المتبقين من المشمولين بالصلح الجزائي في صورة الوصول إلى تفعيله، ليسوا بالكثيرين وهم من سيختارون إما مواصلة النظر في ملفاتهم أمام القضاء أو التوجه نحو الصلح الجزائي. وبذلك فإن هذا الصلح ان جرى تفعيله لن يشمل سوى عدد محدود لا يتجاوز عشرات الحالات على أقصى تقدير. ويحتاج تطبيق المرسوم المتعلق بالصلح الجزائي إلى إصدار عدة قرارات تتعلق بإحداث هياكل مختلفة لتنفيذه وتسمية عدد كبير من الأشخاص سواء كان ذلك من قبل رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة وهذا ما لم يتم إلى حد الآن بما يؤكد صعوبة التفعيل او بالأحرى استحالته.
وبحكم تواصل تعطل تفعيل القانون الذي يبدو وكأنه قد نسي تماما مع تذكر بعض اوجه تنفيذه من حين الى اخر، يتضح ايضا من خلال عدة مؤشرات انه سيتم مع مرور الوقت العدول عن قانون الصلح الجزائي ككل وهو ما يفسّر بتوقف إصدار النصوص الترتيبية المكمّلة للقانون منذ 9 اشهر مما يدل بشكل او باخر على إدراك السلطة أنه غير قابل للتطبيق وغير عقلاني.
وتجدر الاشارة الى أن مخطط الصلح الجزائي لم يقم على دراسات علمية ولم يحدد الجدوى الاقتصادية أيضا من مصالحة رجال الأعمال الموصومين بالفساد سيما أن ملاحقة أموال رجال الأعمال الفاسدين والفارين هي شبيهة بملاحقة طواحين الريح، بحكم أن المسارات القضائية لإثبات فسادهم قد تستغرق سنوات.
حجم الأموال المنهوبة: تقديرات مبالغ فيها
كان رئيس الجمهورية قد صرّح يوم 28 جويلية 2021، بأن “قيمة الأموال المنهوبة من البلاد تقدر بـ13.5 مليار دينار”، وبأنه “تجب إعادتها مقابل صلحٍ جزائي مع رجال الأعمال المتورطين في نهبها”. وتشمل أحكام مرسوم الصلح الجزائي كل شخص مادي أو معنوي صدر في شأنه أو في شأن من يمثله حكم أو أحكام جزائية، أو كان محل محاكمة جزائية أو تتبعات قضائية أو إدارية أو قام بأعمال كان من الواجب أن تترتب عنها جرائم اقتصادية ومالية.
كما تشمل أيضا كل شخص مادي ومعنوي لم تُستكمل في شأنه إجراءات مصادرة أمواله واسترجاعها من الخارج، طبق ما اقتضت أحكام مرسوم المصادرة الذي جرى اعتماده في مارس 2011 عقب الثورة وشمل الرئيس الأسبق بن علي وعائلته وعدداً من الوزراء والشخصيات التي كانت متنفذة قبل الثورة.
ويعتبر، في الواقع، المبلغ الذي يتطلّع سعيد إلى تحصيله من الصلح الجزائي مبالغ فيه، بحكم أن حجم السيولة المالية والأصول لدى رجال الأعمال المعنيين بالمصالحة لا يمكن أن يبلغ بـ13 مليار دينار. ويرجّح مراقبون للشأن المالي الوطني في ضوء المعطيات المذكورة انفا، ألا يتجاوز المبلغ المحصّل من الصلح الجزائي 200 مليون دينار في أحسن الحالات وعلى مدة سنوات، خصوص أن الظرف السياسي والاقتصادي المحلي والعالمي لا يخدم هذا البرنامج بسبب صعوبات كبرى تواجهها المؤسسات الاقتصادية ومناخ الأعمال الذي يكابد الصعوبات لتجاوز تداعيات الأزمة الصحية وانعكاسات الحرب في اوكرانيا.
تواجه تونس مزيجاً من الازمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة وواقعا إقليميا ودوليا في غاية الدقة والحساسية يجعل محاولات حل الازمات الراهنة امرا بالغ الصعوبة خصوصا ان ما تسبب فيه الفساد من انهيار شامل لسنوات يكمله اليوم غياب الكفاءة وانعدام الارادة لأي اصلاح، وهكذا ربما لا تفعل الوعود الضخمة والتطمينات اللغوية المزخرفة، سوى قذف كرة الازمة الحقيقية خارج الملعب الذي تقوم فيه المؤسسات الوطنية ويُفترض أن تحكمه المعايير والمنهجيات الصائبة.
ولكن كرة الازمة الملتهبة لن تذهب بعيداً، وستتقاذفها على الأغلب أيادي الدائنين الخارجيين والداخليين وكلفة تسيير الدولة التي تعاني من عجز مالي سيتعدى 8 مليارات دينار حتى نهاية العام، وستزيد من غضب التونسيين وتضعف احلامهم البسيطة في العمل والتنمية في السنوات القليلة الماضية.
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 22 نوفمبر 2022