الشارع المغاربي:
شيء من الماضي
في عام 1991، ما أن رتّب بن علي أموره على مدى الأربع سنوات التي تلت انقلاب 7 نوفمبر 1987 التي استغلّها لإعادة تنظيم أجهزة الدولة وإخضاعها بالكامل، حتّى شنّ هجوما قمعيا عاما وشاملا على قوى المعارضة السياسية والمدنية. وقد ركّز هجومه في البداية على حركة النهضة وأنصارها بهدف اجتثاثها مستعملا أبشع وسائل القمع والتعذيب الذي أودى بحياة العشرات من المعتقلين. وللتاريخ فإن حركة النهضة كانت دعت في انتخابات 1989 إلى التصويت “للرئيس بن علي” كما أن الغنوشي كان من أبرز مؤيدي انقلاب 7 نوفمبر 1987، الذي أنقذ نظام “الكمبردور” (البورجوازية الكبيرة العميلة) من الانهيار بل من انتفاضة محتومة، ناهيك أنه صرح يوم مغادرته السجن عشية ذكرى 20 مارس 1988 قائلا “إن ثقتنا في الله وزين العابدين كبيرة….”. ولكن بن علي اللاهث وراء تركيز سلطة مطلقة، دكتاتورية، أطلق حربه على الأحزاب والمنظمات والإعلام وكل الفعاليات الثقافية والنسائية والشبابية الخارجة عن رقابته ليدمرها أو على الأقل يخضعها ويحوّلها إلى مجرد ديكور. وقد كان تركيزه في البداية على حركة النهضة راجعا إلى وزنها السياسي وتغلغلها في أجهزة الدولة. ولم يكن هذا السلوك جديدا على النظام القائم، فنظام بورقيبة الدكتاتوري، الذي جاء بن علي من رحمه، كان يتبع نفس السلوك بشكل ممنهج فكلما استشعر خطرا، ولو محدودا، من قوى سياسية (المعارضة اليسارية القومية في نهاية ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي…) أو من قوى نقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل في جانفي 1978…) إلاّ ولجأ إلى القمع بما في ذلك القمع الدموي كما حصل 26 جانفي 1978 مع اتحاد الشغل و3 جانفي 1984 مع انتفاضة الخبز، لأنه، وهو الذي أعلن نفسه رئيسا مدى الحياة، لم يكن قابلا أية معارضة جدّية.
في ذلك الوقت، أي في مطلع تسعينات القرن الماضي، علا صوت حزب العمال، الذي تصدّى منذ اليوم الأوّل لانقلاب 7 نوفمبر1987 وحذّر من عواقبه السّلبيّة على الشعب ورفض التوقيع على “الميثاق الوطني” (1988)، ليقول: “لا للدكتاتورية… لا للعسف…لا للقتل تحت التعذيب…لا لمحاكمات تصفية الحسابات…” ولينبّه الناس إلى أنّ بلادنا بصدد الانتقال إلى مرحلة جديدة مُظلمة، إلى أنّ قوس “الانفتاح” المزعوم الذي تركت فيه الرجعية، مضطرة، مساحات من حرية التعبير والتحرّك، قد انغلق ليحلّ محلّ “الفجوة” الاضطراريّة القمع الشامل والأعمى. وفي هذا السياق بيّن الحزب أنّ بن علي لا يقمع حركة النهضة لأنّها حركة يمينيّة، رجعية، ظلامية، ولا يهدف إلى إنجاز مشروع ديمقراطي تقدّمي يحترم الحريات وحقوق الإنسان ويسمح للشعب بانتخاب ممثليه بحريّة، ويحقق العدالة الاجتماعية ويحّرر البلاد من التبعية لقوى الاستعمار الجديد، وإنما هو يقمعهابهدف تصفية خصم سياسي يمثل تهديدا لحكمه الدكتاتوري الذي يريد تثبيته دفاعا عن مصالح التّحالف الكمبرادوري/الاستعماري الجديد، وإلى أنّ عصا القمع لن تتوقّف عند حركة النّهضة وإنما ستطال تدريجيّا كل المعارضات السياسية والمدنية والنقابية. وقد ذكّر حزب العمّال بأن من يريد مقاومة الحركات الظلامية مقاومة جدّية ذات أبعاد تقدّميّة، لا يقاومها بمثل هذه الطرق البشعة وإنما بأسلحة فكرية وسياسية، عبر تحقيق مطالب الطبقات والفئات الكادحة والشعبية في الحرّية وفي العيش الكريم وعبر تطوير ثقافة المجتمع وتربيته (تغيير البرامج المدرسية والثقافيّة وتطويرها…) للرّفع من الوعي العام لتلك الطبقات والفئات. كان وقتها حزب العمال أبرز خصم لحركة النهضة، لا يتوقّف عن مقاومتها بالفكر (كتب ومقالات…) وبالموقف السياسي والعمل الميداني ولكنّه كان في الآن ذاته متفطّنا إلى مخطّط بن علي ولطبيعة النظام الدكتاتوري الذي يريد إرساءه كامتداد طبيعي لنظام بورقيبة أو كتجديد له.
ومن هذا المنطلق صاغ حزب العمال، الذي كان ينادي مرحليّا بثورة وطنيّة، ديمقراطيّة، شعبيّة واجتماعيّة، توجّهاته التكتيكيّة بوضوح في عام 1994 مراعيا مجمل التناقضات التي تشق مجتمعنا وحالة موازين القوى في اللحظة المحدّدة والمهمّات ذات الأولويّة، وهي الأسس الموضوعيّة التي ينبني عليها كل تكتيك ثوري سليم:
ويمكن حوصلة هذه التوجّهات في النقاط التالية:
أوّلا: إن من يريد سدّ الباب أمام وصول “حركة النهضة” إلى السلطة عليه أن يتصدّر النضال ضدّ الدكتاتورية الجاثمة على صدر الشعب والمجتمع، من أجل إسقاطها وإقامة نظام ديمقراطي، وطني، شعبي، لا أنْ يتذيّل للدكتاتورية والفاشية أو يصطفّ وراءها متوهّما أنها ستصفّي له حساباته مع حركة النهضة التي تمثّل إحدى قوى اليمين في المجتمع وهي فوق ذلك عرضة لحملة تصفية عامة غيّبتها تقريبا عن الساحة السياسية، وتُخلي له المجال لكي “يتمتع” بالحرية والديمقراطية.
ثانيا: إن القمع الذي تمارسه الأنظمة الدكتاتورية على الحركات السياسية المتغلفة بالدين، وهو ما أثبتته التجارب التاريخيّة، يقوّي هذه الحركات ولا يضعفها لأنه يتيح لها فرصة الظهور بمظهر الضحية التي تدفع ثمن “الدفاع عن الإسلام الصحيح” في وجه نظام استبدادي فاشل يقمع المتدينين وينزع الحجاب من على رؤوس النساء ويشنّع بهنّ الخ… إن النضال الحقيقي ضد الحركات السياسية الدينية يُنجز عبر العمل الدؤوب صلب الجماهير الكادحة والمفقّرة لتنظيمها وتسليحها بالوعي الذي يجعلها قادرة على إدراك الأوهام التي تنشرها صلبها تلك الحركات مستغلّة مشاعرها الدينية وعلى تحقيق آمالها وطموحاتها بنفسها.
ثالثا: إنّ وضعا فيه الحريّات حتّى لو استفادت منه حركات رجعية هو بالنسبة إلى أي شعب من الشعوب أفضل من وضع استبدادي يلجّم جميع الأفواه وفي مقدمتها أفواه أبناء الشعب وبناته والقوى الثورية والتقدمية والديمقراطية تحت غطاء “مقاومة التطرّف الدّيني” وفي حال بلادنا “مقاومة الإخوانجيّة”. ونقول “أفضل” لأنّ وضع الحرياّت يسمح للعمّال والكادحين وللثوريّين والتقدّميّين بحرية التعبير والتنظيم وترويج مواقفهم وكسب الناس إليها في مواجهة مع مختلف قوى اليمين الليبرالي والديني، وهو ما لا تسمح به الدكتاتورية وما لا يسمح به تكميم الأفواه.
رابعا:إنّ الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعية لن يتحقّقا لا بواسطة نظام بن علي الدكتاتوري ولا بالتعاون معه ولكن بالنضال ضده وعلى أنقاضه. وهو ما يطرح قضية الثورة على رأس جدول أعمال الحزب والقوى الثورية والتقدّميّة بوصفها المهمة الرئيسية التي ينبغي إنجازها للنهوض بالوطن وإحداث تغيير جذري في الأوضاع المادية والمعنوية للعمال والكادحين والأجراء والفقراء، نساء ورجالا، في المدينة والريف، وتحريرهم من هيمنة التحالف الرجعي الاستعماري الجديد.
في ذلك الوقت قامت قيامة بعض الأطراف بما فيه أطراف كانت قبل مدة وجيزة تجلس مع حركة النّهضة وتتحالف معها. لقد “كفّرونا” بمعنى ما، ووصفونا بأنّنا “حلفاء حركة النهضة” وأنّنا “لا نريد خيرا بالبلاد” وكان بعضهم يقولها بوضوح: “خلّي بن علي يُوقِّفْهم وإلّا حتّى يُقْتِلْهِم ويرَتِّحْنا مِنْهِم…”، “خلي يبقى بن علي على الأقل قادرين عليه…”، “استبداد مدني يحترم الحريات الشخصيّة أفضل ألف مرّة من استبداد بغلاف ديني…”. إنّ هذه النّزعة الانتهازية والانتقاميّة الخطيرة شقّت حتّى المنظّمات الحقوقيّة التي انتابت بعض عناصرها القياديّة روح استئصاليّة فاشستيّة. إن عددا من أشباه اليساريين والدّيمقراطيين الاستئصاليين الذين تركوا مواقع النضال وارتموا في أحضان بن علي في ذلك الوقت لم يتورّعوا عن الانخراط في حزب “التجمّع” وفي أجهزة الدكتاتورية ومؤسساتها حتى البوليسية منها ليتحولوا إلى ألد أعدا القوى الثورية والديمقراطية التقدميّة وأحيانا إلى مجرّد وشاة في خدمة سيّدهم الجديد. وفي هذا السياق التاريخي انتشرت في المجتمع، وتحديدا في الوسط البورجوازي الصغير المثقف، بما فيه بعض الوسط “اليساري” روح مسمومة وعفنة قائمة على الشّماتة والتشفّي لا علاقة لها بقواعد الصراع الفكري والسياسي والعملي القائم على المبادئ وعلى الوضوح المرتبط بأهداف ثورية، ديمقراطية وتقدّميّة مستقلّة، عن الصراع بين مختلف أقطاب اليمين الرجعي. وقد كانت هذه الروح تعكس عجز ذلك الوسط البورجوازي الصغير عن مواجهة حركة النهضة بنفسه وتحقيق الانتصار عليها فكان أن اختار الاحتماء بنظام دكتاتوري، رجعيّ فاسد.
ولكنّ الحياة تكفّلت بتبيان صحّة موقف حزب العمال من انقلاب 7 نوفمبر 1987 وسلامة توقّعاته بخصوص التّطوّرات اللاحقة وبالخصوص منعرج 1991-1992. فمن سوء حظ أولئك الذين صفّقوا لبن علي أنّه لم تمرّ سوى فترة وجيزة صفّى فيها حسابه مع “الإخوان” وركّز دكتاتوريته الفاشستية حتى كشّر عن أنيابه وانقلب عليهم ووجدوا أنفسهم الواحد تلو الآخر في السّجن وفي الغالب بتهم مفبركة أو معزولين من شغلهم وخاضعين للمراقبة ومعرّضين لشتى الضغوط لأنّ بن علي يريدهم أن يكونوا مجرّد ديكور ذليل يصفّقون له وينفّذون أوامره وليس من حقّهم حتّى أن يصمتوا لأنّ صمتهم كان يثير حولهم الشكّ.
لقد صفّى بن علي كلّ المعارضات التي عوّضها بمعارضة ديكوريّة، وأخضع الاتحاد العام التونسي للشغل ودجّن الإعلام و الحركة الحقوقيّة والنّسائية والثقافية والطلابية واتخذت الدولة طابعا بوليسيا غير مسبوق وأصبح التّعذيب والتنكيل بالمواطنات والمواطنين لأبسط الأسباب والاعتداء على أرزاقهم بل الاستيلاء عليها أحيانا، أسلوب حكم. ولا نغالي في شيء إذا قلنا إن الدولة، في خضمّ هذا القمع الكاسح للحرّيات والحقوق والكرامة البشرية، حصل لها ما حصل في عدة بلدان تحكمها أنظمة دكتاتورية، إذْ تمّت “خوصصتها” بمختلف أجهزتها الإدارية والقضائية والمالية والأمنية لصالح بن علي وعائلته وحاشيته فاقدة في عديد الحالات حتّى طابعها العمومي الشكلي كما هو الحال في الدول البورجوازية وهو ما جعل الأوامر والتعليمات تحلّ محلّ القوانين التي كانت توضع للديكور فقط..
وبالطبع يعلم الجميع ما آلت إليه الأوضاع من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية ومن فساد مستشرٍ في كل المجالات ومن ظلم وجور وقمع غير مسبوق في ذلك الوقت. وكان بن علي يجد الدعم كالعادة من عواصم البلدان الاستعمارية وعلى رأسها واشنطن وباريس وروما وبرلين وبروكسيل وغيرها. في هذه الفترات الصعبة لم يتخلّ حزب العمّال، بمعية أصدقائه من القوى الديمقراطية والتقدمية عن النضال. لقد اتبع تكتيك المقاومة مستغلّا كل مظاهر الاضطهاد والقمع والاستغلال والفساد والعمالة للتشهير بالدكتاتورية ومنخرطا في كافّة أشكال المقاومة مهما كانت صغيرة وجزئية ومحدودة لتطويرها وتقويتها. ولم يتردّد حزب العمال في كافة المجالات السياسية والنقابية والحقوقية والشبابية والنسائية والثقافية في عقد أبسط الاتفاقات التي من شأنها المساهمة في كسر شوكة الدكتاتورية تدريجيا والرفع من الروح المعنوية للجماهير. وكان بعث “هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات” (2005) التي ساهمت فيها أهم التيّارات الفكرية والسياسية الناشطة والمؤثّرة في الساحة السياسية حينها، بما فيها “حركة النهضة” (المقموعة والموجودة في المعارضة وقتها وهو وضع، كم سنبيّن لاحقا غير الوضع الذي ستصبح عليه بعد الثورة حين تحوّلت إلى حزب حاكم) حول ثالوث “العفو التشريعي العام وحرية التعبير والإعلام والتنظيم” الذي كان الجميع في حاجة إليه وغير قادر على فرضه وحده، من أهمّ النجاحات المحقّقة التي ستربك نظام بن علي وتشدّد عزلته وتُبقيه وحيدا مع معارضته الدّيكوريّة التي لا وزن لها. ولم يتوقف نشاط حزب العمال عند الداخل وإنّما ربط خيوطه مع القوى الديمقراطية والتقدمية في الخارج (أحزابا، منظمات حقوقية….) للمساهمة في تكوين شبكة مساندة عالمية للضغط على الحكومات الاستعمارية التي تدعم الدكتاتورية في تونس بالمال والوسائل القمعية لإدامة عمرها في الحكم خدمة لمصالحها.
وكما هو معلوم فقد نهضت الحركة الجماهيرية تدريجيّا بعد سنوات من الخوف والركود. وأدركت معظم القوى السياسية حقيقة ما يجري وتمّ الفرز صلبها كما تمّ الفرز داخل الحركة النقابيّة والنسائيّة والثقافيّة والإعلاميّة وداخل القضاة والمحامين بل داخل كل القطاعات واتّسعت دائرة المقاومة وما كان شعارا أو موقفا ضدّ الدكتاتوريّة محصورا في دائرة ضيّقة، أصبح شعارا وموقفا تردّده الجماهير الواسعة. لقد كانت انتفاضة الحوض المنجمي (2008) التي دامت 6 أشهر كاملة من أهم المؤشرات لانقلاب الوضع في تونس وبداية نهاية الدكتاتورية. ثم تلتها أحداث بن قردان فالصخيرة…وفي نهاية المطاف اندلعت الثورة يوم 17 ديسمبر 2010 في سيدي بوزيد لتؤدّي إلى سقوط الدكتاتوريّة وهروب بن علي يوم 14 جانفي 2011 وبداية مرحلة جديدة في تاريخ تونس. وقد كان حزب العمّال سبّاقا في فهم الوضع الثوري الناشىء وهو ما جعله يجرؤ على رفع شعار إسقاط نظام بن علي في الوقت المناسب ويقدّم برنامجا انتقاليا لوضع تونس على سكّة التغيير الثوري الحقيقي منذ يوم 11 جانفي 2011 حين كان العديد يشكّك فيما يجري ويساند النّظام ولا يشارك في تضال الجماهير التي واجهت بطش الدكتاتورية ورصاصها بصدور عارية. وقد انخرط مناضلات الحزب ومناضلوه في كلّ التحرّكات الجماهيرية التي هزّت البلاد وهو ما أدّى إلى اعتقال العديد منهم والتنكيل بهم.
وخلاصة القول إنّ الخط التكتيكي العام الذي رسمه حزب العمال في مواجهة الدكتاتورية زمن بن علي كان خطّا ثوريا سليما. إن حزب العمال لم يخطئ لا في تحاليله ولا في اختياراته ولم يهادن في أي لحظة من اللحظات الدكتاتورية ولم يسقط في سلوكات يسراوية، طفولية، وإنما كان دائما جاهزا لتحديد التكتيك والشعار الصحيحين ووضعهما دون تردد قيد الممارسة رغم صعوبة الظروف التي مرّ بها. فقد كان حزب العمال ينشط في السرية المطلقة وكان مناضلاته ومناضلوه عرضة للملاحقات والاعتقالات والتعذيب والمحاكمات الجائرة والسجون والطرد من الدراسة والشغل. وكان الظرف غير موات بالمرّة للحركة الشيوعية واليسارية بشكل عام إثر سقوط الاتحاد السوفييتي الذي استغلّته البورجوازية العالمية لشن هجوم سافر لا على الحركات الشيوعية اليسارية فحسب بل كذلك على الحركات الوطنية المعادية للاستعمار والحركات التقدمية. ولكنه صمد ولم يَحِدْ عن طريق النضال والثورة.
شيء من الحاضر
بعد اثنتي عشرة سنوات بعد إسقاط الدكتاتورية النوفمبرية نجد أنفسنا في أوضاع تشبه في بعض ملامحها التكتيكية أوضاع 1991. إنّ الأمور لم تتّخذ، بعد الثورة، المنحى الذي أراده حزب العمال والقوى الثورية والتقدّميّة وحَلُمَ به الشعب التونسي. لقد أسقط الشّعب التونسي الدكتاتورية وافتكّ حرّيته ولكنّه لم يذهب بثورته حتّى النّهاية ليزيح مضطهديه المتسبّبين في آلامه وأتعابه من الحكم ويمسك بدواليب السلطة، وهي المسألة المركزية في كل ثورة، بيده ويصبح المتحكّم الفعلي في إدارة المجتمع، فيعيد تنظيم الدولة والاقتصاد على أسس جديدة تمكّنه من تحقيق أهدافه التي ناضل من أجلها والتي لخّصها شعار “شغل، حريّة، كرامة وطنية”.
إنّ كلّ ما حقّقته الثورة التونسية هو إسقاط الدكتاتورية وكسب الحرية السياسية وما صاحب ذلك من تغيير في شكل الحكم من نظام حكم الفرد المطلق إلى نظام ديمقراطي، ليبرالي. لقد بقيت أجهزة الدولة على حالها رغم ما سادها من اهتزاز واضطراب. كما بقي المجتمع تحت هيمنة التحالف الطبقي الرجعي المحلّي/الاستعماري الجديد، الأجنبي: محلّيّا الأقليات الثرية العميلة التي كانت تتمعّش من نظام بن علي والتي سارعت بالتكيّف مع الأوضاع الجديدة عبر دعم قوى اليمين المضادة للثورة الصاعدة وفي مقدّمتها حركة النهضة “الإخوانية” و”نداء تونس” وتفريعاته اللاحقة وعلى رأسها حزب “تحيا تونس” بقيادة المنشقّ يوسف الشاهد. وخارجيّا مراكز القرار الرأسمالي الامبريالي المؤثرة في تونس وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والاتحاد الأوروبي عامة إضافة إلى عملاء هذه القوى الخليجيين والشرق أوسطيين (قطر، تركيا، السعودية، الإمارات…). لقد تدخّل كل هؤلاء بسرعة للالتفاف على الثورة وإعادة ترتيب الأمور لصالحهم.
لقد ثار الشعب من أجل الشغل فتفاقمت البطالة والفقر والفساد. وثار الشعب من أجل الحرية فالتفّت عليها لوبيات المال التي أمسكت بأهم وسائل الإعلام وتحكّمت في كل الانتخابات التي جرت (2011-2014-2019) والتي أفرزت مؤسسات في خدمتها، وثار الشعب من أجل الكرامة الوطنية فتعمّقت التبعية للخارج. لقد أدى كل ذلك إلى تعميق الأزمة في المجتمع . لقد أحسّت قطاعات واسعة من الطبقات والفئات الكادحة والشعبية بأنها خُدعت واستعملت حطبا في صراع قوى اليمين المضاد للثورة التي أفسدت الحياة العامة وعفّنتها وبيّنت حدود الديمقراطية التمثيلية البورجوازية بمختلف مؤسّساتها وهو ما خلق مناخا مواتيا لصعود الشعبويّة التي استغلّت غياب حركة شعبية ثوريّة ومستقلة لتعلن الحرب على “النخب” وتدّعي أنها “الممثّل الحقيقي” للشعب، “القادر” على “تحقيق مطالبه وطموحاته” وفي مقدمتها “إرجاع السلطة إليه”. لقد كانت الشعبوية تعبيرا، في هذا المناخ، عن الأزمة العميقة للديمقراطية البورجوازية وأشكالها التقليدية، الليبرالية للتمثيل. وهي تطرح حلا لهذه الأزمة، مثلها مثل فاشية ثلاثينات القرن العشرين، عبر تصفية هذه الديمقراطية وأشكالها التمثيلية لا لتعويضها بديمقراطية، حقيقية، فعلية، وإنما لتعويضها بنظام حكم الفرد، الزعيم الملهم، صاحب الرسالة، المتألّه…
لقد وصل قيس سعيّد الشّعبوي إلى دفّة الرئاسة في انتخابات 2019 وهو يردّد أن ليس له برنامج ووعود وأن الشعب هو الذي يعرف ما يريد… ولكنه كان يحمل في جرابه برنامجا واضحا وهو تصفية المكاسب الديمقراطية للثورة وإقامة نظامه الاستبدادي، المحافظ. ومن المعلوم أنه ما كان ليصل إلى الرئاسة لولا دعم حركة النهضة وائتلاف الكرامة اللذين سينقلب عليهما بعد عام ونصف من الحكم وهي فترة شهدت صراعا ضاريا بينهما حول “المواقع والصلاحيات”. لقد انقضّ قيس سعيد يوم 25 جويلية على الحكم بدعم من أجهزة الدولة، ليمضي في اتجاه تصفية المكاسب الديمقراطية للثورة. وهو اليوم على قاب قوسين أو أدنى من تركيز حكم دكتاتوري، فاشستي. فبعد فرض حالة الاستثناء التي مكّنته في النهاية من سنّ دستور كتبه بنفسه ولنفسه، يمنحه سلطات فرعونيّة ويجعل منه الآمر والنهائي في كافة المجالات دون مراقبة أو مساءلة أو محاسبة، ومن تنصيب برلمان دمى، منزوع الصلاحيات، وإخضاع القضاء بالكامل بعد أن أطرد من صفوفه العشرات من القضاة تعسّفا، وتفكيك كل الهيئات الرقابيّة ها هو يمرّ إلى مرحلة جديدة عنوانها إلغاء مكسب الحريات وتصفية الخصوم السياسيين والمنتقدين من الإعلاميين والمدونين والمثقفين والمحتجين بتهم مفبركة ووضع اليد على وسائل الإعلام العموميّة والاستنجاد ببعض رموز الدعاية النوفمبريّة لإدارتها وإبعاد الإعلاميات والإعلاميين المستقلين منها. وفي نفس الوقت تشنّ أذرعة الشعبوية الدعائية حملة شيطنة ضد الاتحاد العام التونسي للشغل في الوقت الذي تضيّق فيه الحكومة الخناق على حرية العمل النقابي في انتظار أن تشمل التصفية منظمات أخرى من المجتمع المدني. وأخيرا وليس آخرا، فها إن قيس سعيّد يطلّ علينا بعد “غياب” ليطلقَ، من المنستير بمناسبة حضوره يوم 6 أفريل الحالي الذكرى الثالثة والعشرين لوفاة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة الذي شرّع الرئاسة مدى الحياة إلى حين انقلب عليه وزيره الأول بن علي في نوفمبر 1987، جملة كافية وزيادة ليفهم منها أغبى الأغبياء أن الرجل ربّما بدأت تراوده، مع انتخابات 2024 الرئاسية، حسب دستور 2014، فكرة الرئاسة مدى الحياة. قال سعيّد: “لست مستعدّا لأن أسلّم وطني لمن لا وطنيّة له…”, وبما أنّ كل معارضي الرجل أو منتقديه “خونة” وبما أنه هو “الوطني الوحيد” وبما أن تونس “وطنه وحده” (لن أسلّم وطني…) فمن باب أولى وأحرى أن لا يعوضه أحد على رأس الدولة… ومثل هذا الكلام لا غرابة فيه إذ منذ متى سلّم منقلب أو”صاحب رسالة” و”شرعيّة ومشروعيّة” السلطة من تلقاء نفسه ولم يسعَ إلى احتكارها بكل الطرق؟
إن هذا التوجّه السياسي الاستبدادي، يقترن بمواصلة تكريس نفس الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية للذين انقلب عليهم وهي سياسات رأسمالية، نيوليربالية، متوحّشة، مع تعميقها وتنفيذ ما لم يجرأ على تنفيذه الذين سبقوه من إملاءات المؤسّسات المالية الدولية (رفع الدعم، تجميد الأجور، تجميد الانتدابات في القطاع العام، خوصصة المنشآت العمومية…) لفرض سياسة تقشّفية تعمّق التبعيّة في كافة المجالات بما يفقد البلاد استقلالية القرار، كما تعمّق التداين الذي بلغ أرقاما غير مسبوقة والتضخّم المالي وتُفاقم تدمير حياة العمّال والأجراء والمهمّشين بفعل ازدياد البطالة والفقر والبؤس والارتفاع الجنوني للأسعار وندرة عدّة مواد ضروريّة أو افتقادها والتردّي غير المسبوق للخدمات العامة ونقص الماء الصالح للشراب وهو ما أدّى إلى اعتماد توزيعه حسب نظام الحصص، يضاف إلى كلّ ذلك ارتفاع عدد الفارّين من “جنّة سعيّد الشعبويّة” ناهيك أنّ عدد “الحارقين” منذ 2021، قد تضاعف بنسبة عشر مرّات، وتفاقم الجريمة والعنف، خاصة العنف ضد النساء وظاهرة الانتحار. ويحاول قيس سعيّد تغطية سياسته اللاشعبية واللاوطنيّة بترويج الأوهام سواء من قبله أو من قبل أنصاره حول “الثروات الموعودة…” وعائدات “الصلح الجزائي” التي لا تأتي (….) وترديد الشعارات الديماغوجية حول “الدفاع عن السيادة الوطنيّة” ومقاومة الفساد والاحتكار والقيام بزيارات استعراضيّة لا تحمل حلولا لمشاكل الطبقات والفئات الكادحة والشعبيّة المتفاقمة وتحميل مسؤولية كل المصائب لـ”المتآمرين والخونة” في الداخل والخارج دون التحرّج من إطلاق خطاب عنصري غير مسبوق لأشقّائنا من مهاجري بلدان جنوب الصّحراء.
إن هذا التوجّه بِوَجْهيْه الاستبدادي سياسيّا والنيوليبرالي المتوحّش اقتصاديّا واجتماعيّا ما انفكّت تنكشف طبيعته الطبقية. فهو لا يخدم في شيء مصالح الطبقة العاملة وعموم الشعب الذي تتدهور أوضاعه أكثر فأكثر وإنما هو يخدم مصالح الأقلية من الأثرياء ومن كبار بيروقراطيي الدولة والمؤسسات والدول الأجنبية وجميعهم لا مصلحة لهم في الحرية والديمقراطية اليوم بل إن مصلحتهم تكمن في الاستبداد لفرض الحلول المؤلمة على الشعب لمواجهة الأزمة الخانقة. وهو ما جعلنا نؤكد في أكثر من مناسبة أن الشعبوية ليست حلّا لمشاكل الشعب وإنما هي حل لمشاكل ألدّ أعدائه الذين ضاقوا ذرْعا بالقليل من الحريات الهشة التي كسبها الشعب بتضحياته ويريدون اليوم تصفيتها وفرض سياسة العصى الغليظة لمزيد تفقير الشعب وتجويعه دون أن تكون له حرية الاحتجاج والدفاع عن لقمة عيشه. ولكن هذا الحلّ إنّما هو حلّ مؤقّت ولن يعمّر طويلا لأنّه عمّق المشاكل وزاد التناقضات حدّة حتى مقارنة بفترة ما قبل الانقلاب بما في ذلك داخل قوى اليمين. إن رغبة قيس سعيد الجامحة في احتكار كل السلطات واستبعاد الأحزاب والمنظمات النقابية والمدنيّة واستعداء الإعلام والمثقفين والحقوقيين وإبعاد حتى العديد من المقرّبين الذين عملوا معه في القصر أو في بعض الوزارات والتشهير بهم والزجّ ببعضهم في قضايا “تآمر” يجعله في مواجهة عامة مع معظم القوى السياسية والنقابية والمدنية بما ذلك مع قوى أو شخصيات كانت في البداية تسانده وتقدّم إليه الخدمات. كما أنّ ديماغوجية معاداة الفساد والاحتكار والدفاع عن قوت الشعب ما انفكت تنكشف يوما بعد إذ اتضح في الواقع أن أثرى الأثرياء لم يقع المساس بمصالحهم بل هم هانئون، مطمئنّون على تلك المصالح، في حين أنّ العمال والأجراء وعموم الشعب ازدادت حالتهم تدهورا مقارنة بما كانت عليه حتى قبل الانقلاب وهو ما سيجرّهم أكثر فأكثر إلى النضال والاحتجاج.
وهكذا فإن الشعبوية اليمينية المتطرّفة القائمة اليوم في بلادنا تمثّل ذروة الثورة المضادة كما تمثّل انقلابا على القليل من الحرّيات والمكاسب الديمقراطيّة التي افتكّها الشعب بثورته وهو ما يجعل منها بداية مرحلة جديدة حُبلى بالمخاطر على شعبنا ووطننا. لقد انتقلنا من شكل من أشكال الحكم البورجوازي إلى شكل أو نظام سياسي آخر، من ديمقراطية بورجوازية تمثيلية هشّة، غير مكتملة الشروط، سرعان ما تعفّنت وفسدت، إلى نظام حكم استبدادي، ينزع نحو الفاشية وهو ما يتضح من كل الخطوات التي اتخذتها سلطة الانقلاب ومن بينها خاصة دستور 25 جويلية 2022 الذي داس حتى على أبسط مقتضيات الحكم الديمقراطي من إقٌرار بمدنيّة الدولة واعتراف بالسّلط وبالفصل بينها لإحداث نوع من التوازن والمراقبة المتبادلة ومن إقرار بخضوع الحاكم للمراقبة والمساءلة والمحاسبة. ومن البديهي والحالة تلك أن نقرأ حسابا لهذا التغيير. إن الشعبوية اليمينية المتطرفة هي اليوم، من بين قوى اليمين، التي تمسك بزمام السلطة وتمثّل رأس حربة الرّجعيّة التي تفتح النار على “الجميع” وهو ما يجعل منها منطقياّ بلْ موضوعيّا، الهدف المباشر لنضال العمال والكادحين والشعب عموما وللقوى الثورية والديمقراطية والتقدمية كما يجعل من إسقاطها الوسيلة التي تفتح الطريق نحو تحقيق أهداف الثورة وعدم السقوط مجدّدا تحت أجنحة هذه القوة أو تلك من قوى اليمين. ومن البديهي أن الشعبوية لن تسقط من تلقاء نفسها مهما تعدّدت مظاهر ضعفها بل إنها لن تسقط إلا بالنضال العمالي والشعبي المنظم والعنيد.
طريق الإنقاذ المستقل ضمانة الانتصار الحقيقي
إن تركيزحزب العمال اليوم على مشروع قيس سعيد الشعبوي الاستبدادي، وجعله محور مقاومته لا يعني إذن مهادنة بقية قوى اليمين وفي مقدمتها حركة النهضة أو الدستوري الحر وإنما الأمر يتعلق بترتيب الأولويات التكتيكية ليأخذ كل طرف من أطراف اليمين حجمه من المقاومة والتصدّي. إن حصر المواجهة في حركة النهضة، لتبرير التواطؤ مع قيس سعيد ومشروعه الفاشستي هو انتهازية صرفة كتلك الانتهازية التي عرفناها في عهد بن علي في بداية تسعينات القرن الماضي: ركّز على حركة النهضة لإخفاء جبنك أمام بن علي. وهو نفس ما نعيشه اليوم: ركّز على محاسبة حركة النهضة وغضّ الطرف عما يفعله قيس سعيد بسبب الطمع أو الخوف. إن حزب العمال، وهذا نكرّره للمرّة الألف، إذ يواجه مشروع قيس سعيد فهو لا يغض الطرف عن مسؤولية حركة النهضة وحلفائها (نداء تونس، يوسف الشاهد…) فيما وصلت إليه البلاد من تأْزيم وتعْفين مهّد الطريق إلى الشعبوية اليمينية المتطرّفة كي تفعل بالبلاد ما تفعله بها الآن. كما أنه لا يعني غض الطرف عن الجرائم المرتكبة على حساب الشعب والتخلي عن المساءلة والمحاسبة، بل إن تكتيك حزب العمال هو الذي يمهّد الطريق لرفع العراقيل التي تحول دون ذلك. وبالمقابل فإن الاصطفاف وراء قيس سعيد بدعوى أنه “الوحيد القادر على تحقيق ما لم يحققه غيره أي إسقاط حركة النهضة”، كما الاصطفاف وراء حركة النهضة بدعوى “ضرورة غض الطرف عن الماضي للتصدي للخطر الشعبوي الجاثم”، يؤدي إلى التخلّي عن مكاسب الثورة والتفريط في المساءلة والمحاسبة. ومن النافل ونحن نتحدّث هنا عن حركة النهضة أنّ وضع هذه الحركة قبل الثورة وتحديدا عام 2005 ساعة تكوين “هيئة 18 أكتوبر” يختلف عن وضعها بعد الثورة أي اليوم. فمثلما سبق أن أشرنا إلى ذلك سابقا فقد كانت حركة النهضة قبل الثورة في المعارضة، وتعرّضت للقمع وكسبت تعاطف قطاعات اجتماعية لا يستهان بها، أما بعد الثورة فقد صعدت إلى السلطة التي بقيت مؤثرة فيها في كل الفترات وأدارت ظهرها إلى الثورة وإلى مطالب الشعب الذي أنجزها بل مارست عليه القمع والاستغلال وعمّقت تبعية البلاد وخلقت الظروف المناسبة لانتشار الإرهاب ولارتكاب أبشع جرائم الاغتيال التي استهدفت سياسيين وأمنيين وعسكريين ومدنيين وعلى رأسهم شهيدا الوطن شكري بلعيد ومحمد ابراهمي، وهو ما يجعل من التعامل اليوم تكتيكيا مع حركة النهضة غير التعامل الذي تمّ معها سنوات قبل الثورة في مواجهة الدكتاتورية النوفمبرية، فلكل مقام مقال ولكل وضع خصائصه التي تحدّد أسلوب التّعامل معه. وهو ما لا يفعمه أنصار الجمود العقائدي المفتونين بالجمل الفارغة وبالإسقاطات السخيفة.
هذا ما يفسّر أن حزب العمال يتوجّه اليوم إلى الشعب التونسي ببرنامج إنقاذ مستقل، سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وبيئي الخ… وهو ما يفسّر أيضا وجود حزب العمال في تنسيقية للقوى الديمقراطية والتقدمية حتى لا يختلط الحابل بالنابل في أذهان الناس. ولذلك فإن حزب العمال وإن كان يعرف كيف يرتّب التناقضات وفق تحليل ملموس للواقع الملموس، فهو ليس من أنصار “عدو عدوي صديقي” ولا هو من أنصار “هات نتجمعو ضد سعيد وبعد توة نشوفو” لنجد أنفسنا من جديد في مواجهة دكتاتور أو دكتاتورية أخرى بثوب آخر. إن حزب العمال يدرك جيدا أن رأس حربة اليمين الرجعي هو من بيده السلطة. وهو ما يجعل منه العدو المباشر للشعب. ولكن وحتى لا يقع الشعب في شراك قوة يمينية أخرى فإن المطلوب هو تعبئته حول مشروع وبرنامج يستجيبان حقا لتطلّعاته حتى لا نقع في أخطاء ثورة 2010/2011 حين وجد الشعب نفسه ضحية قوى سرقت منه ثورته، قوى من الطبيعة الطّبقيّة للنّظام الذي ثار ضدّه الشعب.
ومن هذا المنطلق يمكن الوقوف عند بعض الخلاصات والدروس الأساسية والضرورية التي من شأنها إنارة الطريق أمامنا ومساعدتنا على تحديد السلوك السليم لتحقيق أهداف الثورة:
-إن ما تمّت الإطاحة به يوم 25 جويلية 2021 ليس “حركة النهضة” وكامل المنظومة السابقة الفاشلة والفاسدة كما يدعي قيس سعيد ومؤيدوه من الانتهازيين والطامعين والآكلين على كل الموائد والمغلّطين بسبب تدني الوعي وإنما المكتسبات للثورة التونسية والتي تهمّ خاصّة المجال الديمقراطي وهي المكتسبات التي تم فرض العديد منها في دستور 2014 على هناته ونقائصه بدم الشهداء وتضحيات بنات الشعب وأبنائه عندما كان قيس سعيد يعمل في ركاب الدكتاتورية ويتمتّع بامتيازاتها. إن الشعب التونسي لم يَنْجُ يوم انقلاب 25 جويلية 2021 من حكم حركة النهضة وحلفائها في البرلمان والحكومة إلا ليقع تحت استبداد فرد كان في الأصل بلا سلطة أو على الأصحّ كان لا يملك إلّا القليل من السلطة وهو أي الشعب لم ينج من الاستغلال الفاحش لنفس الحلف إلا ليقع مع قيس سعيد وحكومته تحت استغلال لا يقل وحشية عن سابقه….
-إن من يريد حقا عدم العودة إلى ما قبل 25 جويلية 2021 وتخليص المجتمع من حركة النهضة واليمين الديني الرجعي عامة، عليه أن يتصدّر اليوم النضال ضد نظام قيس سعيد الشعبوي الاستبدادي مستندا إلى برنامج وطني، ديمقراطي، شعبي، تقدّمي يلفّ الشعب حوله، لا أن يتذيّل لهذا النظام ويتحول إلى خادم ذليل له، يدعم كل إجراءاته وممارساته المعادية للحريات والديمقراطية والمدمرة لمعيشة أوسع الطبقات والفئات الكادحة والشعبية والمعمّقة للتبعية، مع العلم أن قيس سعيد ذاته لا يختلف كثيرا عن حركة النهضة واليمين الديني عامة من الناحية الأيديولوجية فهو محافظ إن لم يكن أكثر محافظة من “الإخوان” ومعاد للمساواة ويحاول احتكار السلطة الرّوحيّة والدينية من خلال احتكار الدولة للدين. إن هذا الطريق، أي طريق التذيل لسعيد، لن يقود صاحبه إلا إلى الهاوية فضلا عن كونه لن يقضي على اليمين الديني الرجعي وإنما سيعيده إلى الواجهة كما نرى اليوم وكما رأينا بالأمس في تونس وفي بلدان أخرى. إنّ قمع حركة النهضة في تونس وحركة الإخوان في مصر وفي ليبيا لم يمنعهما من تصدر المشهد السياسي بعد سقوط بن علي وحسني مبارك واغتيال الراحل معمر القذافي واحتلال ليبيا من قوى الناتو. كما أن 20 سنة من الحرب الإبادية التي مارسها الحلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة في أفغانستان لم يمنع حركة طالبان من العودة منتصرة إلى الحكم في حين خرج جنود الحلف الأطلسي مهزومين وهو ما يؤكد أن المقاومة الحقيقية للفكر الظلامي ولتوظيف الدين في السياسة تتم عبر تغيير العقول والارتقاء بوعي الشعوب وبتوفير أسباب العيش الكريم لها حتى لا تكون طعما لتلك الحركات.
-إن منطق الاصطفاف الطاغي اليوم، مثلما طغي في مطلع تسعينات القرن الماضي والمتمثل في ثنائية إن لم تكن مع قيس سعيد فأنت مع “الإخوان” والعكس بالعكس هو منطق رجعي، انتهازي، يضرب في العمق استقلالية القوى الثورية والديمقراطية والتقدمية ولا يراها إلّا مجرّد ذيل لهذا المعسكر الرجعي أو ذاك، كما أنه ينسف في العمق إمكانية استقلالية الحركة الاجتماعية والشعبية والتفافها حول برنامج وطني، ديمقراطي، شعبي، يلبي مطالبها ويحوّلها إلى حطب في الصراع بين مختلف قوى اليمين، وعلى رأسها الشعبوية الماسكة بالسلطة اليوم.
– إن منطق الاصطفاف هذا هو من صفات العنصر البورجوازي الصغير المتذبذب والمرتبك والجبان والعاجز عن الاستقلالية عن القوى الرجعية فهو دائما يبحث عن قوة يحتمي بها متوهّما أن ذلك سيحقق “طموحاته”. إن حالة بعض الأطراف التي كانت تدّعي اليسارية أو الثورية والتقدمية قبل الارتماء في أحضان الانقلاب، تثير اليوم الازدراء. إن قيس سعيد يلحق بها الإهانة تلو الأخرى فهو لا يستشيرها في شيء ولا يأخذ برأيها في شيء وإذا ادعت عكس ذلك كذّبها علنا باحتقار وازدراء مرددا أنه يقرر وحده مبقيا أمامها سلوكا واحدا وهو التذيّل الذليل والتصفيق دون شروط. ومن المعلوم أن هذه الأطراف التي ساهمت في انتخابات برلمان الدّمى بعضها وجد نفسها يدا فارغة وأخرى لا شيء فيها وبعضها الآخر اتضح أنه لا يمثل في هذا البرلمان سوى أقليّة تافهة بعد أن ظلّ يردّد أنّه يمثّل قوّة أساسيّة فيها. لقد حاز على المرتبة الأولى في هذه المهزلة أبناء المنظومة السّابقة وخاصّة بقايا “التجمع” ونداء تونس.
-إنّ إنجاز المحاسبة ومقاومة الفساد وكشف حقيقة الاغتيالات وهي الذّرائع الذي يبرّر بها هؤلاء الانتهازيّون تذيّلهم لسعيّد، لا تحقّقها دكتاتوريّة جائرة وفاسدة وقائمة على الخوف والرّعب وتوظيف القضاء وإنّما دولة قانون حقّة بما تعنيه من احترام للحقوق والحريات وفصل بين السّلطات واستقلاليّة قضاء فعليّة وناجزة ووجود هيئات مراقبة. إنّ مثل هذه الشّروط هي التي تضمن المحاكمة العادلة وتعطي لأحكامها وزنا فعليّا وتؤسّس لمجتمع جديد يسود فيه العدل واحترام حقوق الإنسان. أما الدّكتاتوريّة فهي لا تؤسّس إلّا للخوف والجور ولا تحلّ أيّ مشكلة من مشكلات المجتمع بل تعمّقها وحتّى إذا طالت يدها بعض الفاسدين أو المجرمين في إطار تصفية حسابات فإنّها تخلق المناخ الملائم لخلق فاسدين ومجرمين جدد وهو ما نراه اليوم بأمّ أعيننا. فنحن أمام رهط من المسؤولين لم يَرَهُم التونسيّون في السّابق.
-إنّ النّظام الشّعبوي اليميني، المتطرّف، الاستبدادي، القمعي، لن يسقط كما ذكرنا أعلاه من تلقاء نفسه وإنّما يسقط بالنّضال العنيد. وإنّ أهداف الثّورة لن تتحقّق لا بواسطة هذا النّظام ولا بالتّعاون معه أو التذيّل له وإنّما بالنّضال ضدّه وعلى أنقاضه كما كان الحال في عهد الدكتاتوريّة النوفمبريّة. إنّ عملا جبّارا مطروح القيام به من القوى الثوريّة والديمقراطية التقدّمية سواء كانت في أحزاب أو في نقابات أو في منظّمات حقوقيّة أو في فعّاليّات نسائيّة وشبابيّة وثقافيّة، لفضح ذلك النّظام وتفكيك خطابه الديماغوجي المعادي فعليا للحريات والمساواة بين النّساء والرّجال والتّمثيل الدّيمقراطي والإبداع الثّقافي والمعادي أيضا لمصالح الكادحين والفقراء وفي مقدّمتها حقّهم في حياة كريمة بما تعنيه من حقّ في الشّغل وفي الصحّة والتعليم وفي أجور تضمن فعليّا العيش الكريم وفي المسكن اللائق والبيئة السليمة كحقّهم في الثقافة والترفيه والراحة. إن على هذه القوى متابعة كل الإجراءات التي يتخذها أو يعلنها قيس سعيّد في كافة المجالات وتبيان زيفها لأوسع جماهير الشعب الواقعة تحت تأثير خطابه الدّيماغوجي. ومن المهمّ استعمال الحجج المبسّطة، والواضحة ليسهل استيعابها وفهمها . إن فئات واسعة من الجماهير، في غياب بديل ثوري، ديمقراطي، تقدّمي، قادر على فرض نفسه (وهو ما يحيلنا على تقييم تجربة الجبهة الشعببّة وحدودها ونقائصها وأخطائها التي تناولها حزبنا في عدد من الوثائق) ارتمت في أحضان الشعبوية اليمينية المتطرّفة ظنّا منها أنها ستحقّق لها آمالها. وعلى الرغم من بداية افتضاح الطبيعة الطبقيّة لهذه الشعبوية وتعارضها مع مصالح الكادحين والفقراء، فإن الخوف من عودة حركة النهضة ومنظومة ما قبل 25 جويلية 2021 يدفع بقطاعات واسعة منهم إلى محاولة إيجاد تبريرات واهية لما يتخذه قيس سعيد من قرارات وإجراءات فاشستية والمطالبة بإعطائه مزيد الوقت للحكم عليه. وهو ما يفرض على القوى الثورية والديمقراطية التقدّمية مضاعفة الجهد للعمل في صلب الجماهير وتوعيتها وخاصة إقناعها بأنها قادرة على شقّ طريق مستقل يُخلّصها من الشعبوية من ناحية ويَقِيها من عودة منظومة ما قبل 25 جويلية 2021 وما قبل 14 جانفي 2011 من جهة ثانية. وفي الأخير فما من شكّ في أنّ تحقيق هذه الغاية يتطلّب بصورة مُلحّة من القوى الثوريّة والديمقراطية التقدّميّة تجميع صفوفها حول برنامج مشترك وبالصيغ التنظيميّة المناسبة. إنّ الفرز قد تمّ تقريبا والمطلوب منّا جميعا العمل ولا شيء غير العمل لإنقاذ شعبننا ووطننا من الانهيار في وضع إقليمي ودولي مضطرب جدّا وخطير جدّا.
تونس في 6 أفريل 2023