الشارع المغاربي: مساء اليوم الأوّل من افتتاح معرض الكتاب حُجز مؤلَّف “فرنكشتاين تونس” للروائي كمال الرياحي وأُغلق جناح “دار الكتاب” ناشره. وفي معرض ردّ إدارة المعرض على ما حدث ذكرت أن الكتاب دُسّ ضمن معروضات الجناح رغم أنه غير موجود في القائمة الرسميّة. ولأني صاحب تجربة في هذا الميدان إذ كُلّفت بمراقبة الكتاب في المعارض وفي غيرها لسنوات امتدت من 1991 إلى 1999 تبادرت إلى ذهني جملة من الملاحظات على هذه الحادثة الفضيحة وهي التالية:
1) الرقابة وسيلة من الوسائل التي تعتمدها الدولة لحماية نفسها ممّا يمكن أن يلجأ إليه خصومها في إطار معارضتها وذلك بحجز ما تخشى انتشاره بين الناس كأن يكون كتابا أو أغنية أو صورة أو فيلما أو منشورا، وهو ما يفسّر وجود الرقابة حتى في أعتى الديمقراطيات وأقدمها.
2) ما هي حدود عمل الرّقيب؟، عادة لا تكون للرّقيب حدود معيّنة في عمله لأن المسألة تخضع لتقييمه الشخصي ولفهمه للمعطيات المتوفّرة ولحساب الربح والخسارة السياسيّة من المنع أو السماح بالترويج. لذلك يمتلك الرقيب مساحة كبيرة من الحرية في التصرّف تتّسع كلّما كان منغرسا في الحياة الثقافيّة والسياسيّة ومشاركا فيها بحيث يمكنه الحدّ من المنع وأسبابه والنزول بالممنوعات إلى أدنى حدّ. وتضيق مساحة الحرية كلما ضاق أفقه الثقافي وكلّما كان اختياره لهذه المهمة مندرجا ضمن الترقيات الإدارية أو التعيينات التي لا تأخذ بعين الاعتبار طبيعة هذه المهمّة لتتّسع لديه دائرة المحجوزات.
3) بعد الاستقلال عرفت تونس الرقابة إلا أنها لم تكن ملحوظة في البدايات لأن الجميع كان منشغلا ببناء الدولة الجديدة ولكن في أواخر عهد الزعيم أصبحنا نسمع بأن هذا الكتاب حُجز وذاك مُنع دون أن يكون هناك سبب معلن يبرّر ذلك وهو ما حدث مع الصديقين المرحوم محمد الصغير أولاد أحمد وحسن بن عثمان حفظه الله ومع غيرهما. أنا نفسي لم أفهم أسباب ذلك المنع إلا بعد أن كُلّفت بالرقابة في وزارة الداخلية. ففي حديث لي مع أحد القدامى قال لي: “هنا لن تُسأل لماذا حجزت الكتاب بل لماذا سمحت برواجه” وهو ما يعني أن القاعدة هي المنع والاستثناء هو السماح بالترويج حتى لا يتعرّض الرّقيب الموظّف إلى المساءلة.
4) قرار الحجز يصدر عن وزارة الداخلية وهي صاحبة القول الفصل فيه ولكن تشارك في صنعه جهات متعدّدة كوزارة الشؤون الدينيّة والشؤون الثقافيّة وغيرهما والأنكى أن يشارك في ذلك مثقّفون وناشرون وأساتذة جامعيّون من خلال الكتابة في الجرائد وحتى من خلال تقارير سرية تقدّم إلى الجهات المختصّة.
5) الأصل أن قرار المنع يتناول كتابا محدّدا ولا ينتقل إلى غيره من العناوين أو إلى ناشره وحتى في حالة الاحتراز من كاتب بعينه فإن المنع لا يشمل كلّ ما نشر بل هناك استثناءات حسب المضمون. فمعظم كتب سيّد قطب كانت ممنوعة باستثناء كتابين له واحد عن النقد الأدبي والثاني عنوانه “المجتمع المصري جذوره وآفاقه” وهو عبارة عن مقالات نشرت سنة 1941 في مجلة الشؤون الاجتماعية جمعها وقدّم لها آلان روسيون وطبعتها دار سينا للنشر سنة 1994 أيام مواجهة الإرهاب الإخوانجي لدينا وكذا الأمر مع حسن حنفي حيث لم يُمنع له سوى كتابه عن الدين والثورة في مصر الذي حمل في طياته تمجيدا لقتلة السادات وتبريرا لجريمتهم. أما أن ينتقل المنع إلى دار النشر أو جناح عرض الكتاب فذلك تعسّف وتجاوز للصلاحيات لا مبرّر لهما. فدور النشر غير مسؤولة عن المضمون السياسي والفكري للكتاب. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تبرير الإدارة بأنها أغلقت الجناح حتى تتمكن من مراقبة معروضاته مضحك لأن الرّقابة يمكن أن تتمّ حتى بحضور زوّار الجناح وبشكل متخفّ لا يلفت الأنظار وهو ما كنت أقوم به بصورة يوميّة أيام إشرافي على الرّقابة في ظرف كانت مواجهة حركة النهضة قائمة على قدم وساق وكانت وسائل الإعلام الأجنبيّة تتسقط أخبار الرقابة. أما إغلاق الجناح وما تبع ذلك من ردود فعل المشاركين بحضور الضيوف وفي يوم الافتتاح فأعتقد أنه مقصود للمزيد من تشويه صورة البلاد في الخارج وهي مشوّهة وليست في حاجة إلى المزيد .
6) منع كتاب ما يجب أن يستند إلى تقرير قراءة يحدّد أسباب المنع كأن تكون الترويج للتطرف أو تمجيد الإرهاب أو تحريض المواطنين على بعضهم البعض بإحياء النعرات الجهويّة أو الإيديولوجية والنفخ فيها. وعادة ما ينصبّ المنع على الدراسات الفكريّة والسياسيّة أمّا مجالات الإبداع الأخرى كالرواية والشعر وغيرهما فالأصل ألاّ يشملها المنع وحتى إن حملت في ثناياها موقفا سياسيا مناوئا فإنه يضيع في زحمة الأحداث والسرد والتغافل عنه أفضل إلا إذا ورد في صيغة التحريض على مخالفة القانون أو مناوأة السلطة عندها يجب التعامل معه كمنشور سياسي وليس نصّا إبداعيّا.
7)طوال الفترة التي أشرفت خلالها على الرقابة لم يحدث أن مُنع كتاب بسبب غلافه وأذكر أن صورة الزعيم بورقيبة وهو شاب وفي عزّ قوّته كانت ممنوعة بأمر من عبد الوهاب عبد الله الذي اختار له من الصور صورته وهو شيخ في آخر أيامه لتظهر في المناسبات المتعلقة به، ورغم ذلك صدرت مؤلّفات حاملة لصور الزعيم على غير رغبة المذكور. وفي حالتنا هذه يبدو أن سبب منع كتاب كمال الرياحي يعود إلى الكاريكاتور الذي يحمل شبها برئيس الجمهورية علما أن مثل هذه الصور لسيادته دارجة وموجودة ولم نسمع أنه اعترض عليها فضلا عن أن فن الكاريكاتور من بين أهمّ الفنون إذ لا تكاد تخلو منه مطبوعة. وقد ذكرني هذا الذي حدث بأغنية السيدة علية “الزين هذا لواش” التي مُنعت إذاعتها منذ الأيام الأولى للسابع من نوفمبر بتحريض من انتهازييي كلّ العصور الذين يُظهرون ولاء مزيّفا للحاكم بصغائر الخسّة التي يقدمونها في صورة الدفاع عن الرئيس وحكمه وينطبق عليهم المثل العامي البليغ “قالو تعرف العلم قالو نزيد فيه”.
8) في تبرير موقفها ذهبت إدارة معرض الكتاب إلى القول بأن الكتاب لم يدرج في القائمة المصرّح بها من طرف الناشر وهو تبرير فاسد لأن الناشرين يسعون إلى عرض الجديد الذي يخرج من المطابع حتى أثناء المعرض. فمن أسباب نجاح المعرض أن يجد الزائر عناوين يراها لأوّل مرّة، وكان على الإدارة أن تلاحق الجديد حتى من خارج القائمات الرسميّة المودعة قبل أشهر لا أن تنتظر زيارة الرئيس حتى تتفطن إلى الكاريكاتور وتتخذ هذا القرار الذي فضحنا بين ممثلي الأمم الحاضرة في قصر المعارض بالكرم.
9) لم يحدث أن أغلق جناح في الدورات السابقة للمعرض لأن هذه العقوبة مسيئة للدولة وللمعرض وكنا نتحاشاها لأن إغلاق الجناح يستلزم أسبابا مقنعة كأن يثبت في حق الناشر تزوير الكتب والاعتداء على حقوق غيره من الناشرين أو المؤلفين. وأذكر أن دار الاعتصام القاهرية جلبت معها كتبا كثيرة غير مدرجة في القائمة من بينها واحد لعبد الصبور شاهين عنوانه “قصة أبو زيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة” شتم في غلافه زين العابدين بن علي رئيس الدولة أيامها لأنه وسّم نصر حامد أبو زيد رحمهما الله ولم أستجب لرغبة البعض في إغلاق الجناح الذي بقي مفتوحا إلى آخر الدورة بل كلّ ما قمت به هو سحب النسخ التي رأيت أن عرضها غير محبّذ ثم أعدتها إلى صاحبها عند عودته إلى مصر، ومرّت الدورة بسلام دون ضوضاء أو هرج نحن في غنى عنه.
10) بعض التعاليق حبّذت قرار المنع بتعلّة أن كمال الرياحي مطبّع مع إسرائيل وهو كلام في غير محلّه لأننا إزاء موضعين مختلفين. فالتطبيع موقف سياسي يناقش فيه صاحبه وهو مجال قابل للأخذ والردّ. أمّا منع كتاب لمجرّد كاريكاتور ودون أسباب مقنعة فمسألة مُدانة لأنها تحمل ظلما غير مبرّر للمؤلّف وظلما مضاعفا للناشر.
الرّقابة من أدقّ المهام التي يستلزم التوفّق لأدائها ثقافة واسعة وقدرة على الفرز بين ما يستحقّ المنع وما لا يستحقّه لأن الخطأ في هذه الحالة يستفيد منه المحجوز ويضرّ بصورة السلطة. ولدينا أمثلة تندّ عن الحصر أشهرها كتاب “آيات شيطانية” الذي استفاد من فتوى الخميني وغيره من شيوخ بول البعير ليحقّق انتشارا عالميا ما كان ليعرفه سلمان رشدي حتى لو أضاف إلى عمره أعمارا من الكتابة والتأليف.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي “الصادرة بتاريخ الثلاثاء 2 ماي 2023