الشارع المغاربي – أي دور لرئيس الجمهورية في تصويب العلاقات المختلّة بين تونس والاتحاد الأوروبي؟ / بقلم: أحمد بن مصطفى

أي دور لرئيس الجمهورية في تصويب العلاقات المختلّة بين تونس والاتحاد الأوروبي؟ / بقلم: أحمد بن مصطفى

قسم الأخبار

17 أغسطس، 2020

الشارع المغاربي: في غمرة الازمة السياسية والدستورية المتزامنة مع أخطر ظرفية اقتصادية ومالية تمر بها تونس منذ الاستقلال، جاءت التصريحات التي ادلى بها مؤخرا الى مجلة “الاكونوميست ماغريبا” باتريس برغاميني سفير الاتحاد الأوروبي بمناسبة انتهاء مهامه بتونس. وتحمل هذه التصريحات في طياتها رسائل متعددة موجهة الى الحكومة والرئاسات والمجتمع المدني من الجانب الأوروبي وكذلك من فرنسا بحكم دورها المركزي على الساحة السياسية وفي الحياة الاقتصادية وفي إدارة ملف العلاقات التونسية الأوروبية الفرنسية.
ولعل من اهم هذه الرسائل دعوة الجانب الأوروبي تونس إلى تنظيم حوار وطني حول العلاقات مع الاتحاد الأوروبي وتقديم اقتراحاتها ورؤيتها الاستراتيجية لمستقبل التعاون والشراكة التونسية الأوروبية.
هل هناك تطور في الموقف الأوروبي إزاء تونس؟
بالنسبة للقضايا الخلافية ومنها خاصة اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق، اعتبر السفير ان ما يثيره من جدل ومعارضة بتونس يعزى الى سوء فهم من الجانب التونسي لمضمونه وطبيعته وأهدافه الحقيقية مضيفا انه ليس مجرد اتفاق تجاري وأنه أعمق من ذلك. وأوضح ان غايته القصوى تحقيق اندماج تونس بالفضاء الاقتصادي الأوروبي وتبنيها المواصفات الأوروبية عبر جعل المواصفات التونسية متطابقة ومصطفة مع نظيرتها الأوروبية.
واللافت ان السفير برغاميني يتحدث عن الاتفاق وكأنه ما يزال مشروعا ويركز فقط على أحد جوانبه الأكثر اثارة للجدل بتونس باعتبار ان هذا الاصطفاف يضرب في الصميم السيادة التشريعية التونسية ويخلق حواجز وموانع امام السلع الصناعية والفلاحية وكذلك القطاعات الخدماتية التونسية داخل الحدود التونسية. كما يجعلها غير قادرة على تسويق بضائعها محليا وخارجيا الا إذا كانت مطابقة للمواصفات الأوروبية. وبالتتابع قد يؤدي ذلك الى احتكار أوروبا السوق الاستهلاكية التونسية واقفالها امام المنافسة الخارجية وحتى المحلية فضلا عن منع تطوير صناعات او أدوات إنتاجية تعتمد على التكنولوجيا والمواصفات التونسية او غير الاوروبية.
وهذا ما جعل الخبراء والجهات المهنية بتونس ينتفضون على مجموعة من القوانين المعتمدة منذ 2011 في إطار الادماج الناعم لـ”آليكا” في التشريعات التونسية الذي افضى الى التراجع عن بعض مكاسب الاستقلال والى المساس بسيادة تونس المالية والنقدية والتشريعية. ولعل من اخطرها قانون المواصفات الصحية والصحة النباتية الذي يكبل الفلاحة التونسية بالمواصفات الأوروبية، وقانون ما يسمى باستقلالية البنك المركزي الذي يمنعه من التدخل للحفاظ على قيمة الدينار التونسي مثلما يمنعه من اقراض الدولة التونسية بلا فوائد مما ساهم في انفلات المديونية الخارجية وانهيار التوازنات المالية للدولة.
هذا الى جانب قانون الاستثمار وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص وكلها قوانين تم اعتمادها بضغط من صندوق النقد الدولي وهي تمنح امتيازات وتمويلات استثنائية للمستثمرين الأجانب قدرها البنك الدولي بمليار دولار سنويا. كما تمكنهم من السيطرة كليا او جزئيا على الثروات الوطنية في بعض القطاعات الأكثر ربحية كالطاقات الجديدة والمتجددة التي شرع منذ 2014 في التفويت فيها لصالح الأجانب وتحديدا لامانيا وفرنسا.
وهكذا يتجاهل السفير الأوروبي ان “آليكا” تكاد تكون قد تحولت الى امر واقع وقائم ولم يعد هناك مجال يذكر قابل للتفاوض حوله الا إذا قررت الرئاسة التونسية والحكومة القادمة إقرار مقاربة جديدة للتعاطي مع هذا الملف ترتكز على احقية تونس في مراجعة كافة الاتفاقيات والقوانين المشار اليها بما يتماشى مع الدستور والمصلحة الوطنية التونسية.
والجدير بالذكر ان المفاوضات حول “آليكا” كانت قد انطلقت رسميا في أكتوبر 2015 ولكنه سرعان ما تبين ان هذه الحوارات شكلية وبلا جدوى طالما ان الجانب الحكومي الرسمي التونسي كان يتبنى مسبقا الموقف الأوروبي ولم يكن مستعدا لمراعاة مواقف المجتمع المدني النقدية إزاء الاتفاق ولا مخاوف ممثلي القطاعات الإنتاجية والخدمية التونسية المهددة بالاندثار جراء التوسع في التجارة والانفتاح الاستثماري غير المتكافئ مع الاتحاد الأوروبي. وهكذا لم تكتس تلك الحوارات والمفاوضات المزعومة صبغة جدية ولم تكن سوى غطاء لتمرير اهم بنود “اَليكا” في القوانين التونسية مع إدخالها حيز التنفيذ دون التثبت من مدى دستوريتها والحال انها تتناقض نصا وروحا مع البنود السيادية والتوجهات الاستراتيجية للدستور التونسي.
وبالتالي فان تصريحات السفير الأوروبي لا تعكس تطورا جوهريا في الموقف الأوروبي باتجاه الإقرار فعلا بأحقية تونس في مراجعة الأطر الاستراتيجية المنظمة لعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي بقدر ما تعكس القلق من ان يفضي الصراع على السلطة وعدم الاستقرار المزمن الى المساس بما حققت أوروبا من مكاسب في علاقاتها بتونس خلال العقد الماضي. كما تخشى من ان تطرح قضية اصلاح العلاقات المختلة مع أوروبا ومراجعة منوال التعاون معها باعتباره ضرورة حتمية وشرطا من شروط التوصل الى المنوال الجديد للتنمية المنشود الذي يقر الجميع بانه اضحى من الأولويات القصوى.
وفي تقديري اضحى تدخل رئاسة الجمهورية لتصويب هذه الاختلالات في العلاقات التونسية الأوروبية امرا حتميا وضروريا سيما ان هذا الملف هو من صميم المسؤوليات الدستورية الموكولة لرئيس الجمهورية لاتصاله بالسياسة الخارجية وقضايا الامن القومي التونسي. غير انه ظل يدار على نحو غير دستوري من قبل رئاسة الحكومة في ظل الرئاسات السابقة في خرق واضح للفصل 77 من الدستور.

الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية تؤهله لتصويب الاختلالات في العلاقات التونسية الأوروبية
ظل ملف العلاقات التونسية الأوروبية والقضايا الاستراتيجية ذات الصلة يدار على نحو غير دستوري من قبل رئاسة الحكومة في ظل الرئاسات السابقة في خرق واضح للفصول الدستورية المتعلقة بصلاحيات رئيس الجمهورية. فبموجب الفصل 77 من الدستور، “يتولى رئيس الجمهورية تمثيل الدولة، ويختص بضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والامن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة”. والملاحظ ان العلاقات والمبادلات المختلة مع الاتحاد الأوروبي والمديونية المفرطة هي بامتياز قضايا امن قومي سيما انه لا يمكن فصلها عن الدور الأوروبي في تفشي عدم الاستقرار والإرهاب في المحيط الأمني لتونس وتحديدا في ليبيا. كما لا يمكن فصلها عن سياسة اغراق تونس في المديونية العدمية تكريسا لتبعيتها وسعيا لإرغامها على القبول بالاتفاقيات المضرة بمصالحها العليا.
وبالنسبة لصلاحيات رئيس الحكومة في المجال الدبلوماسي، فإنها تقتصر بموجب الفصل 92 من الدستور على ابرام “الاتفاقيات الدولية ذات الصبغة الفنية” في حين ان ملف “آليكا” يكتسي صبغة سياسية واستراتيجية واضحة.
لن نخوض في الأسباب التي جعلت الرئاسات المتتالية بعد 2011 تتخلى على هذا النحو عن مسؤولياتها في وقت  كانت تتذمر من تهميش دورها الدستوري وتطالب بتعديل الدستور الى نظام رئاسي او حتى رئاسوي. غير ان التدخلات الخارجية في شؤوننا الداخلية وتحديدا من قبل مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي ومن ورائهما فرنسا، لعبت دون شك دورا أساسيا في دفع الحكومات المتعاقبة لتبني الاستراتيجيات والسياسات التي تخدم مصالحها الحصرية دون غيرها.
وفي هذا الصدد نذكر بالدور المحوري لفرنسا في تحديد التوجهات الاستراتيجية لمؤتمر دوفيل لمجموعة السبع المنعقد بفرنسا في ماي 2011 الذي قدم اغراءات مالية لتونس لتحفيزها على الاستمرار في سياسة التبادل الحر والتوسع فيها من خلال “آليكا” .كما تدخلت فرنسا وحلفائها الغربيين في مرحلة اعداد الدستور لإتاحة المجال لمزدوجي الجنسية من التونسيين للترشح لرئاسة الجمهورية. وقد لوحظ ان كافة الحكومات المشكلة بعد 2011 ضمت عددا هاما من حاملي الجنسية المزدوجة وتحديدا الفرنسية الذين تقلدوا مناصب أساسية صلبها في المجالات الاقتصادية وفي اعلى مستوى القرار.
واللافت ان رئاسة الحكومة أضحت منذ 2014 تسند شبه حصريا الى مزدوجي الجنسية الفرنسيين وتحول هذا التقليد الى شبه قاعدة انطلاقا من حكومة المهدي جمعة وصولا الى حكومة الفخفاخ. ولعل هذا ما يفسر ان هذه الحكومات تجاهلت البنود الاقتصادية والاجتماعية والسيادية لدستور 2014 وعملت دون هوادة على تغليب المصلحة الفرنسية الغربية على حساب مصلحة الشعب التونسي.
وللتذكير كانت الأحزاب الفائزة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي المكونة للترويكا قد نسجت على نفس المنوال والتوجهات الاقتصادية الليبيرالية. وكانت من أولى خطواتها المجسدة لهذه السياسة، الامضاء على برنامج عمل مع الاتحاد الأوروبي في نوفمبر 2012 التزمت بموجبه بأنهاء التفاوض وامضاء “آليكا” بحلول 2016. كما امضت على اول برنامج للإصلاح الهيكلي مع صندوق النقد الدولي سنة 2013 مما ساهم في اغراق تونس في المديونية العدمية.
ونفس التمشي انتهجته حكومة المهدي جمعة التي تتحمل مسؤولية مضاعفة بحكم تنكرها للبنود السيادية وللأهداف الاستراتيجية لدستور 2014 بفتحها المجال لتدخل فرنسا المباشر والعلني في اعداد ما سمي باستراتيجية إعادة بناء تونس 2016 – 2020 إضافة للتوقيع على برنامج العمل مع الاتحاد الأوروبي 2013 -2017 الذي فتج المجال للمفاوضات حول “آليكا”. كما وقعت على “شراكة التنقل” التي تسمح بالهجرة الجماعية والانتقائية للكفاءات والطلبة والنخب، مع إلزام تونس باستعادة مواطنيها من المهاجرين غير الشرعيين وإقامة معسكرات بالنسبة للأجانب غير النظاميين المرحلين من أوروبا.
اما حكومتي الصيد والشاهد، فقد كرستا هذه التوجهات من خلال إعطاء الأولوية للمفاوضات حول “آليكا” وادماج اهم بنودها في القوانين التونسية تزامنا مع تنقيذ البرنامج الثاني الرباعي للإصلاح الهيكلي الموقع مع صندوق النقد الدولي في ماي 2016. علما انه يتضمن التزامات خطيرة ومنها خوصصة المنشآت العمومية في إطار ما سمي بـ”إصلاح الدولة التونسية وإعادة النظر في وظائفها” ومزيد الضغط لتجريدها من أي دور اقتصادي واجتماعي وهو ما يتناقض كليا مع دور الدولة التعديلي مثلما حدده الدستور.
ضرورة التنسيق بين رئاستي الجمهورية والحكومة لتفادي تكرار هذه الاختلالات
بعد تشكيل الحكومة القادمة قد يكون من المناسب ان يقع التنسيق بين رئاستي الجمهورية والحكومة لتنظيم حوار وطني يفضي الى الاتفاق على موقف وطني جامع ورؤية استراتيجية لمستقبل العلاقات التونسية الأوروبية الفرنسية. وعلى أساس هذه النظرة الموحدة يمكن الدخول في مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي وكذلك مع مجموعة السبع دول الصناعية الكبرى باعتبارها المتحكم الحقيقي في سياسات وتوجهات صندوق النقد الدولي. كما يمكن فتح مفاوضات ثنائية استراتيجية مع اهم الشركاء وخاصة منهم فرنسا والمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة وبريطانيا واليابان لبحث كبرى القضايا المكبلة لتونس والمهددة لاستقرارها. وفي طليعة هذه الملفات، معالجة المديونية المفرطة والعجز المالي والتجاري وإيقاف نزيف تهريب الأموال واسترداد الأموال المنهوبة وغبرها من القضايا ذات الأولوية. هذا الى جانب احياء دور الدولة في مجال التخطيط الاستراتيجي والشراكة المالية والاقتصادية مع الشباب والقطاع الخاص في بعث المشاريع الكبرى وتنمية المناطق المحرومة على أساس التمييز الإيجابي.
يلاحظ ان الجانب الأوروبي الغربي يسعى من خلال صندوق النقد الدولي للتحكم في دور الدولة التونسية وذلك تحت عنوان “اصلاح الدولة واعادة النظر في وظائفها” من منظور منظومة اقتصاد السوق المعولم. وهذا هو الإطار الذي يندرج فيه التزام تونس بخوصصة المؤسسات العمومية ومزيد اضعاف المهام الاقتصادية والاجتماعية للدولة. لكن جائحة كورونا أظهرت أهمية التمسك بدور الدولة ووظائفها الاستراتيجية والسيادية والاقتصادية الاجتماعية كما حددها الدستور التونسي.
الخلاصة والاستنتاجات
لعلها الفرصة الأخيرة المتاحة لتشكيل حكومة جامعة وقادرة على التعاطي بجدية مع مشاكل التونسيين والاستجابة لتطلعاتهم، ولتحقيق هذا الغرض لا بد من تغيير مقاربة الحكم الخاطئة المتبعة الى حد الآن. هذه المقاربة تقوم على استرضاء الأطراف الخارجية وتغليب مصالحها طمعا في دعمها السياسي والمالي لضمان الاستمرار في السلطة باي ثمن. وهذا ما أدى الى تهميش التونسيين في بلادهم وحرمانهم من خيراتها ومن الامتيازات المسندة حصريا للمستثمرين الأجانب بحجة توفيرهم مواطن الشغل. وهو ما أدى الى المأزق الحالي والى وضع اقتصادي ومالي كارثي ينذر بإفلاس الدولة ويهدد كيانها واستمراريتها إذا لم تتخذ التدابير التصحيحية اللازمة قبل فوات الأوان. وفي هذا الصدد، لا بد من التأكيد على انه لا يمكن فصل تغيير منوال التنمية عن تغيير منوال العلاقات التونسية الأوروبية الغربية والأطر المنظمة لها. ويتطلب ذلك مراجعة سريعة لعدة اتفاقيات وقوانين مضرة بالسيادة الوطنية وبالتوازنات المالية للدولة لعدم دستوريتها ومنها اتفاقية 1995 مع اوروبا والقانون الأساسي للبنك المركزي، وقانون الاستثمار والقوانين المكبلة للفلاحة ولصناعة الادوية التونسية والقطاعات الإنتاجية بالمواصفات الأوروبية.
ولتحقيق هذه الأهداف لا بد من القطع مع المحاصصات الحزبية في تركيبة الحكومة والتركيز على حكومة كفاءات خالية من الحاملين للجنسية المزدوجة ومسنودة بخطة استراتيجية مستوحاة من البنود السيادية والاقتصادية والاجتماعية للدستور وكذلك من التجربة التنموية التونسية الناجحة في المرحلة التأسيسية الأولى للدولة الوطنية الموالية للاستقلال.
أحمد بن مصطفى – باحث في القضايا الاستراتيجية والدبلوماسية

اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING