الشارع المغاربي – الفساد وتهريب الأموال محور الصراع بين قيس سعيد والمشيشي / بقلم أحمد بن مصطفى 

الفساد وتهريب الأموال محور الصراع بين قيس سعيد والمشيشي / بقلم أحمد بن مصطفى 

قسم الأخبار

17 أكتوبر، 2020

الشارع المغاربي: الصراع المتفاقم بين رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيس الحكومة هشام المشيشي لا يقتصر كما يعتقد الكثيرون على بعض التعيينات في مواقع رئيسية بالتشكيلة الحكومية الجديدة ولا على الأسلوب المعتمد من قبل الرئيس في التواصل المباشر مع الوزراء والكشف عن خلافاته مع رئيس الحكومة عبر وسائل الاعلام، بل هي تمتد الى جوهر السياسات والخيارات الكبرى في عديد المجالات الحيوية، ومن ضمنها القضايا الدبلوماسية والاقتصادية فضلا عن معضلة المديونية وتهريب الاموال.  هذا ما يمكن استخلاصه من المبادرات الرئاسية الأخيرة ومن الخطاب الذي القاه الرئيس سعيد في اختتام الندوة السنوية للسفراء، حيث كشف عن توجهات ومقاربات جديدة يسعى لإدخالها على السياسات الخارجية والمالية والاقتصادية للدولة وفي مجال العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. في المقابل يبدو رئيس الحكومة متمسكا بالاستمرار في نفس سياسات حكومة الفخفاخ وسابقاتها وهو ما يستشف من تصريحاته ومن توجهات الأحزاب المشكلة للحزام السياسي الذي يسعى لتأمينه صلب مجلس تواب الشعب.

وقد برزت هذه الخلافات للعيان منذ اعتراض الرئيس عن تعيين وزيرين سابقين من النظام السابق بديوان رئيس الحكومة ثم اعلان رئاسة الجمهورية عن إحداث لجنة لمتابعة قضية الأموال المنهوبة المهربة الى الخارج وكذلك ملف التجاوزات المتعلقة بأملاك المجموعة الوطنية في الداخل والخارج، الذي ترافق مع تصريحات الرئيس المؤكدة على ضرورة وضع حد لهذه الظاهرة السائدة منذ عقود مع توخي الحزم في تطبيق القانون على كل مسؤول يقترف مثل هذه الممارسات مهما كانت مكانته في السلطة. وقد أوضحت الرئاسة ان هذه اللجنة لن تحل محل الهياكل المختصة المتعهدة بالملف بل ستعمل على الدفع باتجاه التعجيل بإجراءات التقاضي الهادفة لاسترجاع الأموال المنهوبة خاصة بعد اعلان الاتحاد الأوروبي عن قرب رفع التجميد عنها في اجل أقصاه 31 جانفي 2021. وإذا حصل ذلك ستفقد تونس ورقة تفاوض هامة وأساسية يمكن توظيفها في إطار السعي لإصلاح العلاقات المختلة مع الاتحاد الأوروبي والبحث عن حلول جذرية لمعضلة مديونية تونس الخارجية المتفاقمة والخارجة عن السيطرة.

ويؤكد رد فعل رئيس الحكومة كما جاء بمناسبة انعقاد اول مجلس للوزراء، حجم الهوة القائمة بين الرئاستين التي قد تتحول الى صدام مكشوف خاصة إذا صح ما يروج بوسائل الاعلام عن وجود مخطط لإقالة بعض الوزراء الرئيسيين المحسوبين على رئاسة الجمهورية.

ومهما يكن من امر يبدو ان الرئيس، بحكم تحمله لمسؤولية اختيار رئيس الحكومة، فانه يعتبر نفسه معنيا بطبيعة السياسات والخيارات الحكومية المستقبلية في المجالات الاقتصادية المتداخلة بطبعها مع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي وما يتصل بها من ملفات تتعلق بالأمن القومي ومنها قضايا الفساد والمديونية والأموال المنهوبة.

الرئاسة تسعى لتدارك الإهمال الحكومي لملف الفساد ولتفاقم تهريب الأموال إلى الخارج

لا شك ان تفاقم نزيف تهريب الأموال هو نتيجة اهمال الحكومات المتعاقبة لهذه المعضلة وانعدام الإرادة السياسية لدى الرئاسات السابقة لمقاومة الفساد والتعاطي معه ومع القضايا الاستراتيجية المماثلة باعتبارها قضايا امن قومي تتصل بالمصالح العليا لتونس سيما في ظل التدهور الخطير وغير المسبوق للتوازنات المالية للدولة التونسية المهددة بالإفلاس إذا لم تتخذ في الابان التدابير التصحيحية اللازمة.

ويبدو ان الرئاسة الحالية تسعى لإقرار مقاربة جديدة لمعالجة ظاهرة تهريب الأموال لا تقتصر على تنشيط المتابعة القضائية للملفات بل تسعى الى تسييسها وربطها بالحرب على الفساد وقضية العلاقات المختلة شمال جنوب فضلا عن ملف التداين الخارجي الذي أدرجه الرئيس ضمن أولويات السياسة الخارجة في كلمته الختامية للندوة السنوية للسفراء. والمرجح ان الرئاسة ستسعى لطلب تمديد الاجل المحدد من الجانب الأوروبي لرفع التجميد سيما وان تعطل استرجاع الأموال المنهوبة يعزى في جانب منه الى عدم تعاون الأطراف الخارجية المعنية مع الحكومة التونسية في حلحلة هذا المعضلة. لكن المسؤولية الأكبر تتحملها بالدرجة الأولى الجهات الإدارية والسياسية التونسية المتعهدة بمتابعة الملف وعلى راسها البنك المركزي ووزارة أملاك الدولة فضلا عن وزارة العدل ووزارة الخارجية. علما ان هذه اللجنة تم حلها منذ سنوات في إشارة واضحة لغياب الإرادة السياسية العليا لدى منظومات الحكم المتعاقبة لاتخاذ التدابير الجدية الكفيلة بإيقاف النزيف مما أدى الى استفحاله وخروجه عن السيطرة. وهذا ما يفسر تفاقم الظاهرة والنتائج الهزيلة المحققة في استرجاع الأموال المنهوبة التي لم تتعد 95 مليون دولار وفقا لتصريحات ادلى بها وزير العدل السابق أواخر 2019.

والملاحظ ان الأطراف الخارجية المعنية عادة ما تتعلل باستقلال المنظومة القضائية لديها وبطء الإجراءات القضائية لتبرر عدم ايفائها بتعهداتها بتمكين تونس من استعادة أموالها المنهوبة خاصة وان الانابات العدلية الدولية تستوجب مؤيدات دقيقة وإجراءات محددة. لكن التجربة أظهرت ان هذه الأطراف قادرة على تجاوز هذه العقبات إذا أدركت ان مصالحها تقتضي ذلك.

ويبدو ان حذف خطة مقاومة الفساد في حكومة المشيشي لم يكن محل ارتياح بالرئاسة سيما في ظل ما يتردد من ان هذا الإلغاء كان من ضمن الشروط التي قبل بها رئيس الحكومة مقابل تمرير حكومته بمجلس نواب الشعب.  في المقابل تتطلع الرئاسة لإرساء مقاربة جديدة للتعاطي مع بعض الملفات المترابطة عضويا ومنها المديونية والتهريب والعلاقات المختلة مع أوروبا باعتبارها قضايا تتصل بالأمن القومي مما يقتضي طرحها في إطار حوار استراتيجي شامل لإصلاح العلاقة شمال جنوب. وهذا السياق الذي جاءت فيه دعوة الرئيس لإقامة علاقات جديدة أكثر توازنا بين ضفتي المتوسط وبين تونس والاتحاد الاوروبي.

الترابط الوثيق بين تهريب الأموال ومعضلة المديونية والعلاقات المختلة بين تونس والاتحاد الاوروبي

للتذكير اتخذ قرار التجميد المشار اليه غداة الثورة وشمل 48 من التونسيين المشكوك في تورطهم في تهريب الأموال للخارج من ضمنهم أقارب للرئيس السابق. علما ان هذا الاجراء جاء في سياق الالتزامات التي اتخذتها على عاتقها مجموعة السبع اثناء قمتها المنعقدة في ماي 2011 حيث تعهدت بمساعدة تونس على إنجاح انتقالها الديمقراطي والاقتصادي من خلال برنامج مساعدات مالية ضخمة وكذلك تمكينها من استرداد أموالها وممتلكاتها المنهوبة المهربة للخارج.

ولإضفاء المصداقية على هذه التعهدات حددت مجموعة السبع الآليات والتدابير التي سيقع تفعيلها لهذا الغرض من قبل البنك الدولي. وفي المقابل التزمت تونس بمواصلة انخراطها في سياسة التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي وبالتوسع فيها من خلال الآليكا وكذلك بمواصلة التعهد بمديونية النظام السابق.  وهو ما اثار ضجة كبرى في حينه بتونس خاصة بعد إقرار البرلمان الأوروبي رسميا بان نسبة هامة من هذه الديون (9 من أصل 25 مليار دينار) مصنفة كديون كريهة يجوز اسقاطها باعتبار انه وقع تحويل وجهتها لفائدة أطراف ذات علاقة بالنظام السابق. غير انه رفض التصويت لفائدة لائحة عرضت عليه سنة 2014 توصي بإلغاء المديونية التونسية علما انها لم تحظ بالأغلبية المطلوبة لاعتمادها.

ومع ذلك تمسكت كافة الحكومات المتعاقبة بإعطاء الأولوية لدفع الديون وذلك رغم عدم التزام مجموعة السبع بتعهداتها المذكورة والتدهور السريع لترقيمنا السيادي ولتوازناتنا المالية مما أدى الى اللجوء منذ 2013 الى القروض المشروطة لصندوق النقد والمؤسسات المالية الدولية.

والملاحظ ان تسارع وتيرة تهريب الأموال وانفجار المديونية بعد الثورة كان مرتبطا بتضخم العجز التجاري والمالي واللجوء الى التداين الخارجي لتسديد الديون القذرة وكذلك لتمويل الواردات والكماليات ونفقات الاستهلاك. وقد ثبت ان التلاعب بالفواتير تصديرا وتوريدا هي من الأساليب المفضلة لتهريب الأموال علما ان الامر لا يقتصر على تبادل السلع بل يشمل أيضا قطاع السياحة والخدمات.  كما تشكل الصفقات العمومية منفذا آخر للتهريب وكذلك الاستيلاء بطرق ملتوية على نسبة من القروض الخارجية.  هذا فضلا عن تحويل الأرباح لفائدة المستثمرين الأجانب وهي البوابة التقليدية للتهريب المقنن لموارد البلاد.

وهذا ما يفسر ارتفاع حجم الأموال المهربة من تونس الى 60 مليار دولار بينما كانت تقدر سنة 2011 ب 38.5 مليار دولار أي ان الدولة لم تعجز فقط عن استردادها بل عجزت أيضا عن منع استفحال الظاهرة.  كما ازداد معدل التهريب السنوي خلال السنوات التسع الماضية ليتجاوز الثلاثة مليار دولار بسبب تخلي الحكومات المتعاقبة عن متابعة هذا الملف وفشلها في مقاومة الفساد بجدية وفاعلية.

وقد بلغ الاهمال الحكومي لهذا الملف حد التواطئ مع المهربين بمساعدة بعضهم على استرداد اموالهم المسروقة مثلما حصل في ظل حكومة الشاهد التي طلبت رسميا من الاتحاد الأوروبي سنة 2018، رفع التجميد عن حسابات مروان المبروك صهر الرئيس السابق وهو ما تم بالفعل. وهكذا يتبين ان منظومة التهريب والفساد هي التي نجحت في اختراق مفاصل الدولة وتوظيفها للحفاظ على مكاسبها والحيلولة دون نجاح ما يسمى بالحرب على الفساد.

غياب التنسيق بين الرئاستين يكرس الانشقاق في اعلى هرم السلطة حول الخيارات الكبرى

كما أسلفنا أعلن رئيس الجمهورية في كلمة الاختتام لندوة السفراء عن التوجهات المستقبلية الكبرى للسياسة الخارجية وتطرق في هذا السياق الى ضرورة إقرار مقاربة جديدة لمعالجة معضلة المديونية في إطار إعادة التوازن للعلاقات شمال جنوب وللعلاقات بين تونس والاتحاد الأوروبي.

واللافت انه لم يسبق ان أدرجت قضية المديونية ضمن أولويات السياسة الخارجية التونسية مع ربطها بقضية العلاقات والتبادل المختل للثروات المادية والبشرية شمال جنوب حيث دعا الرئيس الى إقامة حوار استراتيجي بين ضفتي المتوسط لوضع اطر تنظيمية جديدة للعلاقات وصولا الى شراكة حقيقية تراعي مصالح الجميع وتوفر مقومات الامن والاستقرار لكافة شعوب المنطقة.

في المقابل تمسك رئيس الحكومة بسياسة اسلافه بخصوص العلاقات التونسية الأوروبية حيث دعا في كلمته الافتتاحية لندوة السفراء الى استكمال مسارات التفاوض بخصوص آلأليكا وشراكة التنقل واتفاق السماوات المفتوحة وهي مقاربة مناقضة للرؤية الرئاسية الجديدة بخصوص مستقبل العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. كما أنها تتجاهل الحصيلة المفجعة للتبادل التجاري والمالي المختل مع الاتحاد الأوروبي فضلا عن النتائج الكارثية لشراكة التنقل المرتبطة بنهب ثرواتنا البشرية وتسارع وتيرة هجرة الكفاءات التونسية باتجاه أوروبا.

والى جانب هذا التباين الواضح حول طبيعة العلاقات المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي، هناك احتمال لحصول اختلاف حول الجهة المخولة بإدارة هذا الملف المفصلي الذي ظل يدار الى حد الآن من قبل رئاسة الحكومة والحال انه من صميم المسؤوليات الدبلوماسية المناطة دستوريا الى رئيس الجمهورية بموجب الفصل 77 من الدستور المتعلق أيضا بقضايا الامن القومي. والملاحظ ان الصلاحيات الدستورية لرئيس الحكومة في مجال الاتفاقيات الدولية تنحصر بموجب الفصل 92 من الدستور في الاتفاقيات ذات الصبغة «الفنية» ولا تشمل تباعا الاتفاقيات ذات الصبغة الاستراتيجية على غرار الاتفاقيات مع الاتحاد الاوروبي.

على صعيد متصل لم يؤكد المشيشي تمسكه بقرار إيقاف اللجوء الى التداين الخارجي الذي اتخذته حكومة الفخاخ وهو ما يستشف من تصريحاته المتعلقة باستمرارية سياسة التداين المشروط مع صندوق النقد الدولي وكذلك من توقعاته بارتفاع نفقات خدمة المديونية بعنوان 2021 الى 14.5 مليار دينار. وهذا ما أكده أيضا وزير المالية السابق نزار يعيش حيث شدد على استمرارية إعطاء الأولوية لتسديد القروض التي يجب ان تكون «مضمونة» مهما كانت خطورة الأوضاع المالية. لذلك تم اللجوء الى الاقتراض الخارجي المشروط في حدود 8 مليار دينار للتامين الجزئي لخدمة المديونية بعنوان 2020 البالغة 11.5 مليار دينار. في المقابل يجدر التذكير بتصريحات الفخفاخ حول صعوبة ضمان استمرارية دفع الدولة لمرتبات الموظفين وكذلك عجزها عن تسديد ديونها المستحقة للمؤسسات العمومية التونسية والبالغة 8 مليار دينار علما ان المشيشي ارجا تسديد كافة ديون الدولة الداخلية الى السنة المالية القادمة.

خلاصة القول، يخشى ان تكون تونس مقبلة على مرحلة جديدة من عدم الاستقرار اشد خطورة من سابقاتها نتيجة استفحال الصراع على السلطة والصلاحيات بين الرئاسات الثلاث فضلا عن امتداد هذا النزاع لأول مرة ليشمل الخيارات والتوجهات الاستراتيجية الكبرى في المجال الدبلوماسي وفي المجالات الاقتصادية والمالية والاجتماعية.

صحيح ان رئيس الحكومة لم يقدم بعد برنامجه المتكامل الى الراي العام، الا ان عدة مؤشرات تؤكد انه قد يكون أقرب الى تبني المقاربات الاقتصادية والدبلوماسية التقليدية للائتلاف البرلماني الذي اوصله الى السلطة والمعروف بتحالفه مصلحيا بأوروبا وبالمنظومة القديمة التي ظلت متحكمة الى حد الآن في السياسات الاقتصادية للبلاد وذلك من خلال سيطرتها على السلطة التشريعية وعلى رئاسة الحكومة.

نُشر بعدد أسبوعيّة “الشارع المغاربي” الصادر يوم الثلاثاء 13 أكتوبر 2020


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING