الشارع المغاربي- قسم الرياضة: رغم السواد الساكن فينا ورغم الحزن الذي يطاردنا من كلّ الجهات في ظلّ وضع بائس يائس عكسته اتساع رقعة الأزمات المتراكمة في كلّ الاتجاهات تطّل علينا أحيانا بارقة أمل في زمن النكسات لتحيي فينا بعض الأمل وتصرخ فينا بكلّ لطف بأنّ هذه الأرض الصغيرة الطيّبة مازال فيها نبات صالح رغم الفشل والوهن والرأي “الطالح”.
اليوم لا حديث داخل الشارع الرياضي التونسي سوى عن الانجاز الباهر الذي حقّقه ابن تونس الخضراء والمدرّب القادم على مهل راضي الجعايدي الذي قاد فريق ساوثمبتون لأقلّ من 23 سنة الى تحقيق بطولة الدرجة الثانية الإنقليزية في سابقة فريدة هي الأولى من نوعها للكفاءات التونسية الناشطة خارج الديار نظرا لصعوبة المهمّة خاصة أن الأمر يتعلّق بأحد أعرق وأكبر البطولات العالمية ومهد الكرة الأوروبية ونعني دوري كرة القدم الإنقليزية التي لا تحتفظ ذاكرتها سوى بالأساطير وبكبار القوم حيث لا مكان هناك للصغار وللهواة المبتدئين.
قيمة الانجاز الذي حقّقه ابن قابس وصخرة دفاع الترجي الرياضي والمنتخب التونسي أيّام الزمن الجميل ليس في تحقيق لقب البطولة في حد ذاته فالأمر يتجاوز ذلك بكثير ويصل الى ما هو أبعد وأشمل فانتصار راضي الجعايدي في الملاعب الانقليزية كأول لاعب تونسي يقتحم حصن البريميرليغ ويلعب بقمصان بولتون وبيرمنغهام سيتي وساوثمبتون ثمّ كمدرّب هو نجاح استثنائي ليس في متناول أيّ كان وما حصل ما كان ليتحقّق لولا قيمة الجعايدي الفنيّة وخاصة الانسانية التي جعلته يفتكّ عنوة ثقة الإنقليز ويحظى بفرصة استثنائية ليست متاحة للجميع.
أن تكون مدرّبا للفريق الرديف لساوثمبتون هذا الصرح الكروي الكبير والعريق في إنقلترا فهذا تتويج في حد ذاته… وأن تنجح في تثبيت أقدامك في الملاعب الانقليزية لسنوات وسنوات وانت اللاعب والمدرّب الأسمراني المسلم في بلد العنصرية فذلك انجاز آخر لا يفقه شفرته وعناوينه سوى من استحضر دفاتر الماضر وتاريخ ذلك البلد الموغل في سياسات التفرقة والعنصرية… ثمّ أن تكون اسما عربيا يافعا ساطعا في سماء التدريب وأنت القادم من أرض لم تتخصّص سوى في صنع زعامات كرتونية وبطولات وهمية فهذا يجعل من الانجاز أشبه بالإعجاز الكروي لأنّ التدريب في انقلترا يعادل أو أكثر شهادة ختم الدروس في المعارف والمدارك الرياضية.
نجاح راضي الجعايدي في الفوز بلقب بطولة انقلترا لأقل من 23 عاما في صنفها الثاني Premier League 2 division two لم يأت من فراغ ولم يكن وليد الصدفة كما أنه ليس متربطا فقط بكفاءة الرجل وحرفيته في عالم التدريب وإنما جاء نتاج عوامل عديدة أهمها أن برج المراقبة في الكرة التونسية كما كان يلقّب منذ أن كان لاعبا شابا وافدا جديدا على كرة القدم التونسية لم يكن مثل البقيّة مولعا بأضواء الشهرة وبهوس النجومية… كان لاعبا منضبطا داخل الميدان وخارجه… لم يكن يوما مثيرا للجدل أو مستفزا للخصوم وعلاقاته كانت جيدة ومتميّزة مع الجميع بشهادة من عاشروه في ذلك الجيل… كان لاعبا متواضع الامكانيات في بداياته لكنه صقل موهبته ووظّف كل طاقاته ليسلك أقصر الطرق الى العالمية… كان طموحه أكبر من مجرّد امتلاك سيّارة فاخرة أو مقهى شعبية… كان ينظر الى الكرة من زاوية مغايرة بعيدة جدّا عن ناظري زملائه… كان يحلم بأن يصبح يوما ما ساما لامعا كبيرا ونجما متعدّد الاختصاصات وكانت هواياته شاسعة واسعة بقدر اتساع سقف طموحاته…كان مغرما بالسينما وبالتصوير وبالصحافة وخاصة بالتدريب وكانت ثقته في نفسه أكبر من عزمية لاعب كرة قدم ولعلّ نجاحه الباهر في المرور من الملعب القابسي الى الترجي التونسي ثمّ الى عمالقة الدوري الانقليزي الممتاز رغم سهام النقد التي كانت تلاحقه يكفي مؤونة التعليق…
انجاز راضي الجعايدي في الملاعب الانقليزية هو تتويج لكرة القدم التونسية وتعريف بهذه الكفاءات التونسية التي تعانق النجاح أين ما حلّت…والأكيد أن هذا التتويج الرمزي سيفتح لـ”الفتى الأسمر” أبواب النجاح على مصراعيها لأنّ اسم راضي الجعايدي لم يعد اليوم ماركة تونسية فقط بل صار رقما مهما في دفاتر الانقليز في انتظار صعوده الى سطح الأحداث هناك حيث تسطع سمش الدوري الانقليزي الممتاز فقط على رؤوس الملإ من كبار القوم.