الشارع المغاربي – الشاعر نضال الغريبي يغادر تونس بكلّ أريحية: الانتحار الصفعة

الشاعر نضال الغريبي يغادر تونس بكلّ أريحية: الانتحار الصفعة

7 أبريل، 2018

الشارع المغاربي – لطفي النجار: كانت وصيّة نضال الغريبي التي نقرأ حروفها على صفحته الفايسبوكية قبل أن يرحل ويقفز في الفراغ، «أبعد ما يمكن عن الأنانية» لو دقّقنا في التفاصيل كما طلب منّا. «غريب أمر الموت» فعلا و«ما أبخس ثمنه»، «دينار ونصف الدينار ثمن الحبل» الذي لفّ به الشاعر والمدوّن عنقه لينتحر شنقا ويغادرنا ليرينا الحقيقة في «تفاصيل لا نراها»، تاركا لعائلته «المضيّقة» و«الموسّعة»  تدوينة حبّ وعشق وحكمة، وهي أيضا، لو أحسنّا التدقيق وتأويل لفظها نحو مراميه الفعلية مثلما أوصانا ابن القيروان، صفعة على وجه واقع  انحطّ وانسدّت آفاقه

غير غريب أو غير مفاجئ أن تكون القيروان مسرحا وأرضا لرحيل الشاعر والمصوّر الفوتوغرافي نضال الغريبي منتحرا،فالأرقام«الباردة» تشير إلى أنّ هذه الولاية تستحوذ لوحدها على النسبة الأعلى من إجمالي حالات ومحاولات الانتحار، إذ بلغت 120 حالة وقعت سنة 2016 وهو ما يمثّل 30 بالمائة من إجمالي الحالات والمحاولات (908 حالات). ويشير تقرير أعدته منظمة الصحة العالمية لسنة 2016 حول ظاهرة الانتحار الى أنّ معدّلنا الوطني مفزع ومرعب إذ بلغ 2,4 حالة انتحار لكل 100 ألف مواطن. ووفق المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإنّ معتمدية «العلا» من ولاية القيروان هي الأعلى في معدلات محاولات وحالات الانتحار على المستوى الوطني، وسجّلت نسبة عالية منها في صفوف التلاميذ والمنقطعين عن الدراسة، علما أنّ «العلا» تتذيّل الترتيب التنموي وطنيا، أي المرتبة 260 من أصل 264 منطقة موزّعة على كامل التراب التونسي. وحسب المنتدى، تراوحت أسباب تفاقم الظاهرة، بين عوامل اجتماعية ونفسية واقتصادية، كما شملت حالات الانتحار مختلف الفئات العمرية بين 9 سنوات و75 عاما من التلاميذ والموظفين والعاطلين والمزارعين والتجّاروأفاد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أنّ القاسم المشترك بين أغلب الحالات هو الانتماء للمناطق الريفية مثلما هو حاصل بولاية القيروان التي يشكّل فيها سكّان الريف حوالي 68 بالمائة من عدد السكان المقدّر ب600 ألف حسب إحصائيات رسمية.

الأكيد ووفق كلّ التقارير والدراسات أنّ تفشي ظاهرة الانتحار في تونس يرتبط مباشرة بارتفاع مماثل في نسب البطالة والفقر والتهميش، هذا التفسير يحمل مشروعية للمتفحّص في خارطة الظاهرة وفي المؤشرات الدالة، ولكنّ كلّ الأرقام المضمّنة في هذه التقارير والإحصائيات والجداول البيانية، تبقى «باردة» أمام حرارة «التدوينة الصفعة» لنضال الغريبي الذي اتخذ لمبادرته «الجريئة» مكانا قصيّا عن الموت أوّلا، ورفض كلّ بكائية سابقة لفعل الانتحار، وترفّع عن بؤس راهننا، ليختزل بخطوته واقعنا «المحرقة» الذي انطلق ذات شتاء من سنة 2010 بعملية انتحار حرقا، ثمّ تتالى النزيف دون أن يتوقّف

لمّا دقّ نضال «ناقوس الرعب»

كانت حمما كلماته و«عنيفة» معانيها رغم رقّتها الظاهرة اكتوت بها حساسية كلّ قارئ لتدوينة الراحل قبل أن يقفز مثلما كتب من ضفّة إلى ضفّة أخرى في ترفّع وجودي عجيب فوق الحياة والموت معا. في لحظة الاستواء المرعب كتب نضال: «أنا الآن لا شيء، تفصلني خطوة عن اللاشيء، أو فلنقل قفزة، غريب أمر الموت ما أبخس ثمنه، دينار ونصف الدينار ثمن الحبل، وبعض السجائر، غريب أمر الحقيقة ما أبخس ثمنها لكنّنا لا نرى، نملأ أبصارنا وبصائرنا دوما بالأوهام، حتى تصير الحقيقة تفاصيل لا نراها..نحن لانرى غير ما نريد رؤيته، لانرى من الأخضر غير يابسة حتى تختلط علينا الألوان، ومفاهيمها، شأننا شأن أحبّتي، الذين رغم تواضعي يظنّون أنّني عيسى، فإذا صدّقوا ما ادّعوا، اختلط عليهم الأمر، فراحوا لا يفرّقون بين القلب والمعصم، وصارت أوتادهم تنهمل على صدري كسهام الوغى..».

فعلا، نجح نضال في أن يترك «شيئا خالدا يبقى منه» مثلما قال الفيلسوف باروخ سبينوزا، كما نجح بغيابه «الجسدي» في أن يدقّ «ناقوس الرعب» أمامنا جميعا، ويجلي عن حقيقة أصبحت بمثابة اليقين مفادها، أنّ الجميع تقريبا اليوم سواء في الإحباط وفي «استواء الحال». لقد انسدّت الآفاق اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، وما بلغه نضال قبل رحيله من وعي بوطأة الواقع البائس في تونس هو تقريبا المزاج العام المنتشر اليوم في جميع الفئات والطبقات والقطاعات: عمال، معطلون عن العمل، أرباب عمل، رجال التربية والأولياء، محامون وأطباء، موظّفون في القطاعين، مزارعون وتجار وصنايعية وغيرهم سواء كانوا في الدواخل أو في السواحل، في الأرياف أو في المدن وأحزمتهالقد وفّق نضال في أن يعرّي عن سوءات الحكّام ويعلن بـ«دينار ونصف الدينار ثمن الحبل» فحسب، أنّهم فاشلون جميعا دون استثناء.

سوف لن نكون أوفياء لروح الشاعر والمدوّن نضال الغريبي لو قاربنا  فعل انتحاره بالأرقام والخطابات الجافّة، فنسرق منه رفعته الوجودية وحكمته التي صفعتنا بعد أن سرقت كلّ الحكومات مجتمعة آماله وأحلامه. لقد اختزل الشاب الثلاثيني الراحل ما يعتمل اليوم في عقول وقلوب التونسيين بتدوينة سابقة على انتحاره بشهر واحد ولكن لم ينصت له أحد. كتب نضال على صفحته في 23 فيفري: «لا أشعر بشيء، وهذا اللاشيء يقتلني، أتمنى فعلا أن أجد إجابة تشفي غليلي لسؤال كيف حالك، فلا إجابة بخير تصفني، ولا عكسها يفعل..أشعر كأنّني أمتلىء بكلّ شيء حدّ الانفجار، وكأنّني فارغ الى حدّ الخواء، لدرجة أن أحسّ بفراغ فيزيائي كما الفجوة في صدري، أشعر بالرغبة في كلّ شيء، وبالتعفّف عن الأشياء جميعها، فكأنّني أريد الشيء ولا أريده..أشعر بالجبروت والانكسار، أشعر بالنرجسية حدّ المرض وبالتواضع حدّ الوضاعة، أشعر كأنّني لست أهلا لهذا الوجه البائس، أشعر وكأنّ هذا الوجه لا ينتمي لي، أشعر بالعظمة حدّ التغطرس، وبالضعف حدّ البكاء، أشعر بالتحرّر حدّ الطواف وبالانتماء حدّ الاختناق..لا أشعر بشيء..أشعر بكلّ الأشياء، إلّا أنا لا أشعر بي..لم تعد بي رغبة في البكاء ولا في الضحك..لم تعد بي رغبة بالحياة ولا توق للموت..كيف حالي؟»إلهي أيّ لسان هذا الذي يتحدّث؟ لقد قال نضال الغريبي كلّ شيء ثمّ رحلرحمك اللّه.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING