الشارع المغاربي: منذ تفشّي وباء فيروس كورونا يعيش العالم على وقع تغيرات كبرى عميقة ومصيرية. في سنة 1973، صدر كتاب بعنوان «عندما تستيقظ الصين سيهتزّ العالم»، للسياسي والدبلوماسي الفرنسي، «ألان بيريفيت»، وهو يُعتبر « تقريرا استقصائيا عن وضع الصين في خضم الثورة الثقافية». وقد اصبح هذا الكتاب مرجعاً أساسيا لفهم ما يجري في الصين حيث مكن من تفكيك لغز نوابض الثورة الصينية، واستشراف مستقبل الصين المعاصرة. وتتلخّص فكرة الكتاب في أن الصين، بفضل ثورتها الثقافية وقوة إرادة شعبها، ستتمكن من فرض إرادتها وقوتها الاقتصادية والعلمية في العالم. وهو ما نشهده اليوم يتحقق على أرض الواقع.
بالمقابل يشهد العالم منذ عدة عقود أزمة داخلية بدأت تنخر الامبراطورية الأمريكية التي تربعت على عرش العالم بالمطلق منذ الحرب العالمية الثانية وخاصة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. هذا الأزمة كثيرا ما اتخذت صيغة أخلاقية مارقة حيث تخطت كل الخطوط الحمراء أمام العالم. فهي أول بلد في العالم تجرأ على استعمال القنبلة الذرية في اليابان ضد المدنيين كما استعمل قنابل النابالم الحارقة ضد المدنيين في فيتنام. وهي من احتلت العراق كذلك تحت ادعاءات واهية وكاذبة وقتلت وشنعت في السجون. وهي أيضا من تقرر اليوم «ضم ما لا تملك لمن لا يملك» لتمنح القدس الفلسطينية والجولان السورية للكيان الصهيوني في خرق صارخ للقرارات والمواثيق الدولية.
غير أن هذا السيل من الخروقات تضاعف وبطريقة طغت عليها البلطجة والاستكبار منذ وصول صقور المحافظين الجدد المتأثرين باللبرالية الجديدة وبالفكر العقائدي الديني الداعي إلى التدخل بقوة السلاح لفرض الهيمنة والسطو على ثروات البلدان.
هذه الهيمنة فرضت ليبرالية جديدة منذ الثمانينات تعتمد فتح الأسواق للبضائع المستوردة وخاصة فتح رؤوس الأموال بدعوى تشجيع الاستثمار الخارجي في الواجهة ولكن في باطنها هي وسيلة للسطو على ثروات البلدان النامية والفقيرة خاصة في الدول الإفريقية والعربية الغنية بالمواد الأولية. كما اعتمدت اتفاقيات شراكة غير متكافئة فرضتها عبر المنظمة العالمية للتجارة التي وضعت قوانينها طبقا لمصالحها وعبر المؤسسات المالية التي تسيطر عليها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي حيث تمتلك أمريكا أكبر حصة بنسبة ٪17,4 من حصص الصندوق مع حق الفيتو لكل قرار لا توافق عليه.
غير أن تصريحات دونالد ترامب قبل وبعد انتخابه بينت أن كل هذه المؤسسات التي استفادت منها الولايات المتحدة الكثير، لا تصمد أمام مصالحها إذا ما استلزم الأمر التنكر لها. وقد تبين ذلك من خلال تصريحاته في حملته الانتخابية بأن مصلحة «أمريكا تبقى الأولى» «America first». كما يُلوّح إلى اليوم أنه يسعى للسطو على نفط العراق ونفط سوريا بكل بلطجة مدعيا في بث مباشر أنه «لا توجد دولة عراقية وأنه سوف يُطوّق منابع البترول بجيشه لكي يضخ منه ما شاء. كما قام بطريقة أحادية فرض معاليم ديوانية على المنتجات الموردة من الصين وعلى البلدان الصديقة له من الاتحاد الأوروبي وصرح حرفيا «لا احترم قوانين المنظمة العالمية للتجارة بل واتركها لكم لأني لم أعد اعترف بها» هكذا بكل صلف.
وباء كورونا كشف القناع بين الدول التي تتعامل بحكمة وبأخلاق إنسانية وبين من دمّر القيم الإنسانية
انتشار وباء كورونا وكيفية التعامل معه من طرف البلدان في العالم أظهر وجها مُشرفا صادرا عن دول كبرى صاعدة وواعدة في مقدمتها الصين وكذلك إيران جعلت من حياة البشر وصيانتها العنصر الأساسي في تحرك الدولة الوطنية بمعناها الرائد والعالي ودورها المحوري في صون الشعوب والأوطان. وقد تجلى هذا الدور الراقي من خلال دقة التنظيم وسرعة التدخل والتنفيذ وقمة المردودية والنجاعة للسيطرة على الوضع وتطويق انتشار هذا الوباء الذي يتميز بسرعة العدوى. كل ذلك في إطار الشفافية والوضوح في نشر المعلومات الدقيقة والمُحيّنة بكل مصداقية سعيا للمحافظة على الأرواح البشرية بوصفها ثروة لا تُعوض ترتقي فوق كل الحسابات المادية والمالية رغم أهميتها القصوى.
أما في الجهة الأخرى فقد كشف هذا الوباء الخطير الوجه الانتهازي والمستهتر بالنظر لتصريحات ترامب دائما الذي اعتبر في البداية أن بلاده غير معنية بهذا الوباء لأنها مُحصّنة وانه يمثل فرصة للولايات المتحدة للتفوق على الصين مما ينم عن تشفي وفقدان تام لأي شعور إنساني. كما انه وجد في انتشار وباء كورونا في إيران فرصة لمزيد استنزاف هذا البلد الذي رفض الانصياع للهيمنة الامريكية والغربية رغم الحصار الظالم الذي يتعرض له منذ أربعين سنة. كما رفضت إيران، وهي مسألة محورية، الدخول في المنظومة الليبرالية الجديدة وهنا مربط الفرس، التي دمرت اقتصاد جيرانه في كامل الدول العربية تقريبا. في الأثناء قامت إيران بتنمية قدراتها الذاتية وتمكنت بفضل منظومة تعليمية رائدة في العالم من استيعاب العلوم والتكنولوجيا الحديثة جدا ووفرت لذلك ما لا يقل عن 20 ألف عالم وباحث من اعلى مستوى في العالم وهي مستمرة في تكوين ألفين عالم وباحث سنويا في الوقت الحاضر.
غير أنه رغم هذه البلطجة المستمرة فقد بين الواقع اليوم أن هذا التصرف المتهور وغير الاخلاقي الذي لم يكن مبنيا على حكمة وحسن تدبير أن الصين وكذلك إيران نجحتا في تطويق خطورة هذا الوباء الذي بدأ بالتراجع. بينما بؤرة العدوى انتقلت إلى البلدان الأوروبية وهي تنتشر أيضا في الولايات المتحدة بصفة خطيرة وانقلب السحر على الساحر.
آن الأوان لمراجعات كبرى في تونس لحماية الوطن والشعب
المهم في هذا التقديم للوضع حسب اعتقادنا هو أنه يعتبر مدخلا لما يجب علينا اليوم أن نستخلصه في تونس وهي تستعد مثل بلدان العالم لمجابهة هذا الوباء الخطير في ظروف سياسية واقتصادية ومالية واجتماعية منهارة. وفي وضع تقهقرت المرافق العمومية الصحية والتعليمية خاصة من جراء سياسة تفكيك الدولة الوطنية واستنزاف مواردها على مدى ثلاثة عقود تقريبا.
لقد تعرضنا في عديد المقالات التحليلية الاقتصادية بالدرجة الأولى إلى خطورة الوضع الاقتصادي والمالي في البلاد وبينا بوضوح أن المنوال التنموي الذي تم اعتماده بوصفة وإملاءات من صندوق النقد الدولي منذ سنة 1986 قد أوصل البلاد إلى أزمة عميقة تبينت من خلال انتفاضة الحوض المنجمي ثم أدت إلى ثورة انتهت بسقوط النظام تحت راية «شغل حرية وكرامة وطنية». غير ان ما جرى في ماي 2011 اثر قمة «دوفيل» للبلدان الكبرى السبعة بيّن قدرة المنظومة الليبرالية الغربية وحلفائها في الداخل في تطويق هذه الهزات الاجتماعية واستعمال «استراتيجية الصدمة» عبر بث الخوف والترهيب للإجهاز على تطلعات الشعوب في الحرية والكرامة. وقد نجحت هذه السياسة في تثبيت نفس المنوال الذي أدى إلى مزيد انهيار الوضع الاقتصادي والاجتماعي.
هو ما يفسر الخضوع لنفس المنوال الذي يتواصل إلى اليوم بعد تدخلين اثنين من طرف صندوق النقد الدولي بين سنة 2012 2015 – وبين سنة 2016 -2020 ويبدو أن التدخل الثالث في الطريق حسب تصريح رئيس الحكومة الحالي.
الوضع الناتج مباشرة عن تدخل صندوق النقد الدولي في سنة 1986 يتبين تفصيلا من خلال هذا الجدول
هذه المؤشرات السلبية الموثقة هي نتيجة حتمية لسياسة تفكيك الدولة وإفلاس الخزينة العمومية والخوصصة المفرطة وغير الناجعة وتدمير القطاع العمومي.كما جاءت نتيجة اتفاق شراكة وُقّع سنة 1995 مع الاتحاد الاوروبي غير متكافئ أدى إلى تصحر صناعي عميق أفلس أكثر من 55 بالمائة من المؤسسات الصناعية المحلية ودمر أكثر من 400 ألف موطن شغل مستديم بين سنة 1996 وسنة 2010 فقط بشهادة البنك الدولي والمعهد الوطني للإحصاء. هذا الوضع أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة وخاصة منها أصحاب الشهائد العليا. حيث شهدت البلاد تعطيل شبه كامل لخلق مواطن الشغل في القطاع العمومي والقطاع الخاص. مما ادى إلى هجرة أدمغة استنزفت الثروة البشرية للبلاد لتنتفع بها الدول الكبرى الاوروبية التي استنزفت المؤسسات والثروات الوطنية وعطلت المسيرة التنموية ومازالت تدفع إلى المزيد.
كيف يمكن الخروج من هذا الوضع؟
هذا الدمار الشامل الذي طالما تعرضنا له بالنقد الموضوعي والبناء الذي لم يكن بدافع إيديولوجي او سياسي منحاز ولكن بدافع وطني خاصة لأنه طرح مفاهيم هامة وخطيرة تبينت بالكاشف من خلال انتشار وباء كورونا. نذكر في طليعتها ضرورة تعزيز دور الدولة الوطنية لحماية الوطن والشعب عبر توفير الاكتفاء الذاتي الغذائي والصحي بمنظومة إنتاجية محلية ذات قيمة مضافة عالية احتسابا لأي طارئ وتجنبا لأي ابتزاز خارجي. كما تتجلي عبر توفير وتعزيز المرافق العمومية الأساسية خاصة في قطاع الصحة العمومية والتعليم والنقل. اليوم تجابه تونس وباء كورونا ب 270 سرير إنعاش في المرافق الصحية الوطنية بمعدل 2 سرير لكل 100 ألف ساكن. في إيطاليا يوجد 5100 سرير بمعدل 8,4 سرير إنعاش لكل 100 ألف شخص وهي رغم ذلكم تعاني من ارتفاع عدد المصابين وتستنجد في الخارج؟ فماذا يمكن أن يجري في تونس لو لا سمح الله انتشر الوباء بنفس الدرجة التي وصلت إليه إيطاليا؟
نقولها بصوت عال وبكل قوة آن الأوان للقطع النهائي مع التداين المستمر والسالب للحرية وللسيادة الوطنية وللتنمية. آن الأوان لمصارحة الشعب التونسي حول الوضع الحقيقي للبلاد والابتعاد عن المغالطات الكبرى. من ذلك ما نسمعه عن كتلة الأجور في القطاع العمومي التي يعتبرونها باطلا سببا في عجز ميزانية الدولة والحال أنها في سنة 2010 كانت تمثل ٪ 37 من الميزانية ب 6,8 مليار دينار مقابل ميزانية ب 18,3 مليار دينار. وتمثل اليوم ٪40 فقط من ميزانية الدولة لسنة 2020 ب 19,03 مليار دينار مقابل ميزانية ب 47,3 مليار دينار. وهو فارق ضئيل جدا خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار نسبة التضخم وانهيار قيمة الدينار. مغالطة كبرى أيضا في احتساب قيمة العجز التجاري الذي تعرضنا له عديد المرات. ناهيك عن تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج الذي نشرنا تفاصيله في الاسبوع الماضي بوثائقه الثابتة حيث تبين أن 60 مليار دولار امريكي مهربة ومودعة في خارج البلاد وهو مبلغ يساوي ضعف المديونية الحالية.
ما تبين من هشاشة وضعف أمام هذه الكارثة يدعو حتما للقطع مع هذه السياسة الليبرالية المشوهة التي أدت إلى تدمير الاقتصاد الوطني وإلى تعطيل المسيرة التنموية. يجب التذكير أيضا أن العالم بأسره قادم على مراجعات كبيرة وعميقة للخروج من العولمة «La démondialisation « التي تبين محدوديتها أمام هذه الكارثة وسوف تكون لها تداعيات كبيرة أيضا على اقتصادنا الذي راهن جزافا على المناولة حيث عديد الشركات الكبرى العالمية سوف تتراجع إلى بلدانها لضمان تزويد مؤسساتها الكبرى داخليا تفاديا لما يمكن أن يحصل من للتزويد من الخارج تبين هشاشته. لذلك من الضروري والحتمي ألا يكون المنوال التنموي ما بعد وباء كورونا كما كان الأمر ما قبله والبدائل متوفرة بدون شك إذا توفرت الإرادة السياسية الضرورية.