الشارع المغاربي-معزّ زيّود: الفشوش في المعاجم العربيّة هو “ما لا طائل منه”، و”الفشّاش” هو المحتال الذي يفتح الأغلاق بغير مفاتيحها. هذه حال حوار قصر الضيافة الذي بدا أشبه بمسرحيّة لا تُعرف مداخلها ولا مخارجها، في غياب الممثّلين والجمهور، باستثناء مخرجها…
انطلقت اللجنة الاقتصاديّة والاجتماعيّة التابعة لـ”الهيئة الوطنيّة الاستشاريّة من أجل جمهوريّة جديدة” في لقاءاتها، يوم السبت 4 جوان الجاري. وقد انتهى الاجتماع الأوّل بالاتّفاق على العمل على تحقيق ما يرقى إلى “معجزة” هي الأولى من نوعها على الصعيد العالمي. وتتمثّل في أن يُقدّم كلّ مشارك في اجتماعات اللجنة تصوّراته لتونس في أفق أربعين عاما في غضون 72 ساعة، على أن يختزل هذا التصوّر المصيري في صفحتين، يرسلهما إلى إدارة الهيئة عبر البريد الإلكتروني ربحًا للوقت الثمين جدّا في مثل هذه الظروف العصيبة.
حوار بلا حوار
مثال اجتماعات اللجنة الاقتصاديّة والاجتماعيّة ينطبق أيضا على أعمال “اللجنة القانونيّة”. ووفق الفصل 20 من “المرسوم عدد 30 لسنة المتعلّق بإحداث الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهوريّة جديدة”، فإنّ “لجنة الحوار” تتولّى أعمالها “على ضوء نتائج أعمال اللجنتين الاستشاريّتين المذكورتين أعلاه، وتقوم بـ”التأليف بين الاقتراحات التي تتقدم بها كل لجنة”. وإذا توقفنا عند تحديد مهام “لجنة الحوار” نتبيّن أنّها عبارة عن مقرّر يكتفي بنقل ما وصل إليه. وهو ما يعني منذ البدء انتفاء فعل الحوار أصلا، إذ أنّ الحوار يُفترض أن يعني اصطلاحا النقاش العام والأخذ والردّ والتداول والتفاوض من أجل الوصول إلى مخرجات بعينها. ومن المفارقات أنّ ما يُسمّى بـ”الحوار” الذي يُفترض أن يُثمر إرهاصات “جمهوريّة جديدة” لم يُتَحْ له من الزمن سوى أسبوع واحد. وهو “الأسبوع” الذي يسبق الموعد الأقصى لتقديم التقرير النهائي لهيئة العميد الصادق بلعيد إلى رئيس الجمهوريّة والمحدّد بيوم 20 جوان 2022، وفق الفصل 22 من المرسوم عدد 30. فأيّ “حوار وطني” يمكن أن يجري في ظرف أسبوع يتيم؟!. وهذا بصرف النظر عن هويّة المشاركين في هذا “الحوار” الذين لا يمكنهم بأيّ حال من الأحوال أن يمثلوا كامل الطيف السياسي والاقتصادي والحقوقي والفكري في البلاد.
والأكثر من ذلك أنّ كافّة أعمال “الهيئة الوطنيّة الاستشاريّة” ملزمة بغطاء محدّد سلفا، وهو أن تحترم مضامين “الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 المتعلّق بالتدابير الاستثنائية” و”الاستشارة الوطنيّة” الإلكترونيّة. والحال أنّ تلك الاستشارة لم تُعبّر في أفضل التقديرات إلّا عن أقل من نصف عُشر التونسيّين.
كما لا ننسى أنّه ومن باب الضحك على الذقون لا يمكن لمن اختارهم رئيس الدولة لعضويّة الهيئة الوطنيّة الاستشاريّة وعلى التونسيّين عموما “القيام بدراسات” في هذا الظرف الوجيز جدّا. كما أنّ هذه الهيئة مكلّفة -وفق الفصل الثاني من المرسوم عدد 30- بـ”تقديم اقتراح يتعلق بإعداد مشروع دستور لجمهورية جديدة”. فالأمر يتعلّق إذن بمجرّد تقديم اقتراح إلى رئيس الجمهوريّة، لاسيما أنّها “هيئة استشاريّة”. فهذه الهيئة ليس لها أيّة صلاحيّات إلزاميّة، والمقصود بذلك أنّ الرئيس قيس سعيّد له كلّ الحريّة في قبول ما يريد من اقتراحات ورفض ما يريد. ومن ثمّة، لا يتعلّق الأمر بإعداد مسودّة دستور جديد لأنّ الدساتير لا تُكتب في غضون أيّام معدودة.
ومن هنا يتراءى لنا كمّ المغالطة المروّجة بشأن هذا الحوار المزعوم. فهو لا يعدو أن يكون سوى لقاءات عابرة من طينة جلسات “الاتحاد النسائي” زمن بن علي، حين كان يُذرّ خلالها بعض البخور لإبعاد مساوئ النفس والسحر، مثلما عاينتُ بأمّ عينيّ ذات يوم طفوليّ… إنّه للأسف الشديد مشهد مهزلة تُسيء للدولة التونسيّة. فمنتهى الأمر أنّه حوار صوريّ مفرغ من أيّ مضمون، لا يُنتظر أن يأخذ رئيس الجمهوريّة بأدنى سطوره المعدودة، باعتبار أنّ كلّ النصوص والقرارات والإجراءات جاهزة سلفا. ولذلك يمكن لأيّ متابع نزيه أن يتفهّم موقف الاتّحاد العام التونسي للشغل الذي قرّر مقاطعة مهزلة حوار فشوش.
هذا التوصيف سبق إليه في الحقيقة الفيلسوف والمفكّر التونسي المعروف يوسف الصديق، حين وصف حرفيا أولى جلسات الحوار بـ”الفاشوش”، قائلا أيضا “حضوري لن يفيد في شيء باعتبار أنّ ما سيحدث سيحدُث بوجودي أو من غيره”. واعتبر، في حوار مع إذاعة “شمس آف.آم”، أنّ “الفقر السياسي الموجود الآن في قرطاج هو الكارثة الأولى، خاصّة في ظلّ غياب استشارة أهـل الاختصاص والكفاءات التونسيّة سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي”.
وفي المحصّلة نفهم ردّ الرئيس المنسّق للهيئة الاستشاريّة الصادق بالعيد على سؤال بشأن مدى قدرة لجنة الحوار على إعداد الدستور قبل يوم 20 جوان، بقوله: “كان ربّي ينجم يقلّك وسيدي بلحسن.. ربّي يسهّل”.
تداعيات المهزلة
فرض سياسة الأمر الواقع هذه والاستخفاف بالوعي الجمعي ستكون له انعكاسات سياسيّة سلبيّة داخليّا وخارجيّا، من المؤكّد أن تكون لها كلفة اقتصاديّة واجتماعيّة باهظة. فعلى الصعيد الداخلي، سيزداد فقدان ثقة التونسيّين في النخب السياسيّة وستصبح السياسة مرادفة للكذب والاستغباء. وهو ما من شأنه أن يُطيل عمر الأزمة السياسيّة العميقة أصلا في البلاد، ويُؤثّر سلبا في قدرتها على استعادة أنفاسها الديمقراطيّة واستئناف المسار الانتقالي المجهض.
أمّا على الصعيد الدولي، فمن المنتظر أن تتهاوى سمعة الدولة التونسيّة بشكل أكبر على مستويات عدّة. فلن يتوقّف تراجع صورة تونس عند بعض التصريحات لمسؤولي الدول الكبرى الشريكة وفي مقدّمتها الولايات المتحدة الأمريكيّة ودول الاتّحاد الأوروبي، وإنّما سيمتدّ إلى عموم المنظمات الدوليّة التي يُعدّ وضوح الرؤية السياسيّة بُعدا محدّدا في تقاريرها الدوريّة. كما أنّ هذا الانحدار سينسحب كذلك على وكالات التصنيف المختلفة وسيبرز جليّا أيضا في شتّى المؤشّرات في مجالات متعدّدة. وهذا ما لوحظ أصلا خلال الأشهر الأخيرة في تقارير القياس للعديد من المؤسّست الدوليّة.
ومن الطبيعي أن يكون لهذا الانحراف بالسلطة السياسيّة كلفته الماليّة والاقتصاديّة، ولاسيّما في ظلّ الغموض المنهجي والمخاتلة السائدة، وعدم مصارحة الشعب سواء بحقيقة الأوضاع المقبلة عليها البلاد أو بالمشروع السياسي الذي يُراد فرضه على التونسيّين بمقتضى هذا الحوار الفشوش والأقرب إلى المهزلة السياسيّة.
ولذلك مثلا طالب صندوق النقد الدولي السلطات التونسيّة بمصارحة الشعب التونسي لا فقط بالصعوبات الاقتصاديّة والماليّة التي تمرّ بها البلاد، وإنّما بالخصوص ببرنامج “الإصلاحات الموجعة” التي يشترطها الصندوق الدولي حتى يقبل بتقديم التمويلات المطلوبة، وفي مقدّمتها رفع الدعم وتجميد الجور والتقليص من تضخّم عدد المشتغلين بالقطاع العام من وظيفة عموميّة ومؤسّسات عموميّة باتت مختلّة التوازن وأسيرة العجز المالي منذ سنوات طويلة.
بيت القصيد إذن أنّ الحوار “المغشوش” السائد في قصر الضيافة يبدو خارج السياق تمامًا، لا فقط جرّاء غياب شخصيّات سياسيّة واقتصاديّة وفكريّة وعلميّة لها وزنها، وإنّما خصوصا لأنّ وجودها بدا أكثر من صوري. فمن ناحية لا يمكن لهذه “اللقاءات” المعدودة أن تُنتج مخرجات ذات قيمة تُرتجى في ظرف أيّام قليلة، ومن ناحية أخرى فإنّه لا معنى لحوار يُرجّح ألّا يُؤخذ بمضامينه، باعتبار أنّ غياب الوقت الكافي يؤكّد أنّ الخيارات التي ستُعتمد تبدو جاهزة في قصر رئاسة الجمهوريّة منذ فترة… والأدهى من ذلك يكمن في الخطورة التي قد تكون عليها تلك الخيارات، فما بالك بالأمر لو تمسّك الرئيس قيس سعيّد بفرض مشروعه السياسي المروّج له، وأسقطه إسقاطا على التونسيّين لتغيير شكل النظام رأسًا على عقب؟!.
مسرحيّة “الحوار الوطني” توحي بأنّ التونسيّين مُقْدمين على أخطر انحراف ممكن للسلطة. ويتمثّل لا فقط في جعل الرئيس قيس سعيّد الغموض نهجا سياسيّا، وإنّما خصوصا في احتمال إقدامه على إقرار عمليّة تحيّل كبرى وواسعة النطاق، في حال طرح على التونسيّين مشروع دستور يتبنّى ما يُسمّى بنظام “البناء القاعدي” واستخدم آليّات الدولة لفرضه وتمريره عبر استفتاء 25 جويلية المقبل. فأن تُجرّب تونس نوعا من أنظمة “الديمقراطيّة المباشرة” التي لم تنجح منذ زمن الإغريق يعني أنّ البلاد قد تسقط في دهاليز سنوات من الظلمات. وعندها سنقول على تونس السلام، إلى حين انقضاء الأمر بمغادرة قيس سعيّد قصر الرئاسة، بما من شأنه أن يُعجّل بإسقاط دستوره مجدّدا. وهو ما يعني الاضطرار ربّما لإضاعة سنوات أخرى من الوقت الثمين على الدولة التونسيّة. وهذا تحديدا ما لا ينبغي القبول به لأنّ محاسبة رئيس الجمهوريّة بعد مغادرته الحكم لن تُعوّض الدمار الذي قد يُخلّفه. وبصرف النظر عن الوثيقة التي أعادت هيئة الانتخابات ترويجها خلال الأيّام الأخيرة للتحذير من مغبّة الإشهار لمواقف تخصّ مضمون الاستفاء في فترة انطلاقه التي بدأت منذ أكثر من شهر، فإنّ وثيقة الدستور ستدفع إلى تحديد الموقف من هذه العمليّة برمّتها، وتحرّك النخب التونسيّة على أساس ذلك. فالقانون يُسنّ أحيانا من أجل اختراقه، وفق تلك المقولة الشهيرة، ولاسيما أنّ مصلحة الدولة التونسيّة أكبر بكثير من مصالح الأشخاص أيًّا كانوا.
ولا ريب في أنّ التونسيّين لا يتطلّعون، مهما كان الثمن، إلى دستور جديد لمجرّد أنّه سيحمل توقيع الرئيس قيس سعيّد، حتّى وإن كان حصيلة عمليّة مغالطة واستبلاه عام تحت شعار “حوار من لم يُحاور إلّا نفسه” باسم “الشعب يريد”.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 14 جوان 2022