الشارع المغاربي: (1) تمرّ يوم 2 ماي 2023 الذكرى الرّابعة عشرة لرحيل ابن أمّي وأبي ورفيق دربي الطّاهر الهمّامي، الأستاذ الجامعي والشّاعر والباحث والنّاقد الأدبي والنّقابي والمناضل السياسي الذي ساهم في تأسيس حزب العمال وكان، في مرحلة السرّية، أحد أهم رموزه.وقد دافع عن خطه الفكري والسياسي بقوة الجبابرة حتّى آخر يوم في حياته.
كنت زرته عشية وفاته بأحد مستشفيات مدريد حيث نقل بعد وصوله إلى العاصمة الإسبانية بساعات، لزيارة ابنته نادرة، بسبب وعكة صحّية. زرته يوم السبت 30 أفريل 2009 ثم يوم الأحد غرة ماي 2009 وودّعته حوالي الخامسة مساء لأعود إلى تونس في الليل على أمل زيارته من جديد. كان من المفروض أن تُجرى عليه عمليّة جراحية دقيقة يوم الاثنين 2 ماي 2009 لكنّه فارق الحياة قبل تلك العملية وكأني به أراد الرحيل قبل إجرائها. ما طمأنني وقتها وترك عندي انطباعا بأنه لن يرحل بتلك السرعة هو صفاؤه الذهني الرائع وتفكيره في المستقبل. كان، رغم حالته الصحّية الصعبة وهزاله الصارخ، يحدثني عن برامجه المستقبلية وخاصة عن بعض مشاريعه الجديدة في مجال الكتابة. وصلت إلى تونس الأحد غرة ماي 2009 ليلا، وفي ساعة مبكّرة من صباح اليوم الموالي هاتفتني هاجر، زوجة شقيقي الأصغر، الهادي، لتعلمني بخبر الوفاة. اتجهنا، راضية وأنا، مباشرة إلى المطار للسّفر مجدّدا إلى مدريد حيث التقينا بنتي الطاهر، نادرة ومريم المرابطتين هناك منذ دخوله المستشفى. وأمام استحالة العودة بجثمانه قبل أسبوع بسبب الإجراءات عدنا إلى تونس لتحضير الجنازة مع بقية أفراد العائلة والرفيقات والرفاق والصديقات والأصدقاء الكثيرين الذين صدموا برحيل الطاهر المبكّر وهو لم يتجاوز الاثنتين والستين من عمره (25 مارس 1947-2 ماي 2009) وكان في أوج العطاء الأدبي والفكري والسّياسي. نعاه عديد الكتاب والشعراء والمناضلات والمناضلين من داخل البلاد ومن خارجها. وكانت جنازته التي انتظمت يوم 9 ماي 2009، وسط تطويق بوليسي خانق لكافة مداخل مدينة بوعرادة لمعرفة هويّة الوافدين، أعظم جنازة، عرفتها الجهة، إلى جانب جنازة الراحل الصادق الهيشري، أحد رموز الحركة القومية العربية في تونس (حركة البعث). شيّعه إلى مثواه الأخير المئات من الرجال والنساء الذين جاؤوا من مختلف أنحاء البلاد، من المناضلات والمناضلين، من الأكاديميات والأكاديميّين، من المبدعات والمبدعين، من الصديقات والأصدقاء ومن القريبات والأقرباء، ومن أهالي بوعرادة طبعا. أبّنه عن حزب العمال عمّار عمروسية وعن العائلة راضية النصراوي التي كانت تربطها به علاقة صداقة متّنتها سنوات الجمر وعن الجامعة التونسية، الأستاذ شكري مبخوت، عميد كلّية الآداب بمنّوبة وقتها.
(2)
تربّيت شخصيّا، خاصة في المجال الثقافي، على يدي الطاهر. فهو الذي حبّبني في الأدب العربي والعالمي وغرّمني به. وهو الذي حفّظني الشعر القديم وهو لا يتوقّف عن تذكيري بأنّني لن أكون شاعرا إلّا إذا حفظت ألفي بيت شعر. كما أنّه هو الذي أطْلعني عن ثراء اللغة العربيّة الرّهيب، هذا الثّراء الذي عمل على وأده أصحاب العقول الجامدة من خدم حكّام عصور الانحطاط الذين عملوا على وأد كلّ شيء نافع لتقدّم العرب والمسلمين ودخولهم عصر الحداثة فتوقفت المجتمعات عن التطوّر والعقول عن التفكير والإبداع والخلق في مختلف المجالات بعد أن مثّلت الحضارة العربية الإسلامية في العصور الوسطى “الحضارة العالمية الأولى” بمنتجاتها الغزيرة في كافة الميادين. لقد اعتبروا الشّعرَ غِواية والاجتهادَ في الدّين “فِسقا وكفرا” (مصفّقين لـ”الوثيقة القادرية” أو “الاعتقاد القادري”، نسبة إلى الخليفة العبّاسي، القادر باللّه (381ه-422ه) الذي جرّم الاعتزال وحرّية الفكر وحلّل دم كلّ من يمارسهما ويخرج عن الاعتقاد الرّسمي الذي سنّه) والفلسفة “زندقة” و”سفها وانحلالا وضلالا” و”تهافتا” (مصفّقين لمنشور “المنصور” الذي أصدره في الأندلس، قبل وفاة ابن رشد بعامين، حوالي العام 1196م، والذي يقضي بتحريم الفلسفة، ولمؤلّف “تهافت الفلاسفة”، أبي حامد الغزالي الذي كفّر بدوره الفلسفة في بغداد وبلاد المشرق) والعلمَ “كفرا”، فساد التّقليد ومات التّجديد بتجميد التّفكير الذي أدّى إلى تجميد اللّغة لعدّة قرون.
لقد كان الطّاهر، إلى جانب رموز “حركة الطليعية الأدبية”، من روّاد التّجديد في الشّعر في بلادنا في ستّينات القرن الماضي. ولئن بدا الطاهر ثائرا في البداية على “الشّكل” وأبدع هو ورفاق دربه (الحبيب الزنّاد وفضيلة الشابي خاصة) القصيد “غير العمودي والحر” بحثا عن موسيقى وتركيب جديدين للقصيدة العربية تواكب تطورات العصر فسرعان ما وعى العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون مدركا أنّ القصيد الجديد ينبغي ألّا يقتصر على الشّكل بل ينبغي أن يشمل المضمون. وكان تجديد المضمون يعني في نظره، وهو محقّ في ذلك، التصاق الشاعر بواقعه الذي يحمل الجديد باستمرار كما يعني الانخراط في هموم وطنه وشعبه حتى يكون خير ترجمان لها. وبعبارة أخرى فقد حصلت للطاهر القناعة بأنّ التجديد يعني في واقع ميزته الاستبداد والقهر والاستغلال المسلّط على غالبية المجتمع الكادحة والمفقّرة، تجديد تونس على قاعدة الحرّية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بل الاشتراكية. ومن وقتها أصبحت قصائد الطاهر وسجالاته الأدبية والفنية والفكرية والسياسية محورها قضايا الشعب التونسي وقضايا الشعوب العربية والعالم وفي مقدمتها قضية فلسطسن السليبة.
(3)
نشر الطاهر عديد الدواوين الشعرية (الحصار 1973، الشمس طلعت كالخبزة 1973، صائفة الجمر 1984، تأبّط نارا 1984، أرى النخل يمشي 1986، قتلتموني 2001، اسكني يا جراح 2004، مرثية البقرة الضّحوك، 2005،…) والدراسات والأبحاث الأكاديمية (كيف نعتبر الشابي مجدّدا 1976، حركة الطليعة الأدبية في تونس، 1994، الشعر على الشعر عند العرب قديما، بحث في الشعرية العربية من منظور شعر الشعراء على شعرهم إلى القرن 5هـ/11م، 2003…) والمقالات والدراسات متنوّعة المواضيع التي تمكّن من جمع بعضها في كتب (مع الواقعية في الأدب والفنّ مقالات، 1984، دفاعا عن الديمقراطية النقابية، مقالات، 1985، ذاكرة شعب، 1990 مقالات، رجل في رأسه عقل، ابن المقفع، دراسة 1992، الأعمى الذي أبصر بعقله، أبو العلاء المعرّي، دراسة، 1992، تجربتي الشعرية (بيانات وتقييمات، 2004، حفيف الكتابة، فحيح القراءة، جزء 1، 2006، جزء 2، 2007، بعل ولو بغل، نبش في المسكوت عنه من واقع مؤسسة الزواج، دراسة، 2009…). ولا يمكنني أن أنسى أنّ من آخر كتابات الطاهر السّجالية ردوده المفحمة على الذين كانوا أثناء العدوان الصهيوني على لبنان (2006) وعلى غزة (2008) يتردّدون في مساندة المقاومة لا لشيء لأنّ “حزب الله” كان يقودها في لبنان و”حماس” حاضرة فيها بقوة في غزّة. كان الطاهر يرشق المترددين بسهامه مبيّنا أنهم لا علاقة لهم بالاشتراكية الثورية وأنّهم لا يفهمون التناقضات ولا يدركون ما هو رئيسي منها في لحظة من اللحظات لأنّ العوامل الأيديولوجية التي يفهمونها بشكل أخرق، كانت تعميهم عن رؤية الطريق الصحيح فيجدون أنفسهم بهذه الطريقة أو تلك إلى جانب المحتلّ يغضّون الطرف عن جرائمه.
كان الطاهر مثقّفا عضويّا بأتمّ معنى الكلمة. لم يكن يكتب في برجه العاجي وإنّما كان يكتب وهو ينخرط في حركة النّضال بمختلف أبعادها الفكريّة والسياسيّة والنّقابية والاجتماعية والثقافية والأكاديمية. كان غزير الكتابة، قادرا على تحريك قلمه على أكثر من واجهة في نفس الوقت. كان ينظّم الشعر ويبحث ويدرس ويحلل الأحداث والظواهر الجديدة والمتنوعة في تونس كما في الوطن العربي والعالم مستندا إلى ثقافته الواسعة جدّا وقدراته الفائقة على الكتابة التي ساعده عليها تحكّمه الفائق في لغة الضاد. يغوص في الماضي بحثا عمّا يفيد في الحاضر ويجذّر الشعب في هويّته لا بالمفهوم الجامد، الرجعي وإنما بالمفهوم المتحرّك، المتغير الذي يجعله يطمح باستمرار نحو الأفضل. ويسلّط الضوء على مختلف قضايا الحاضر التي يرى فيها خطرا على وعي العمال والكادحين والشباب والنساء في تونس. وبالإضافة إلى الكتابات المنشورة التي أشرنا إليها أعلاه فقد كانت للطّاهر إسهامات أخرى تطرّق فيها إلى قضايا خطيرة مثل قضيّة المثقّفين في تونس والوطن العربي وقضية العَلمانية والهوية والحداثة والهوية والهيمنة الثقافية الاستعماريّة ودورها في تأبيد التبعية الاقتصادية والمالية والسياسية ودور الثقافة في مواجهة الهيمنة الامبريالية والأسس الفكرية للصراعات الاقتصادية والسياسية العالمية الحديثة وإشكالية الديمقراطية في البلدان العربية وعلاقتها بالنضال من أجل التحرر الوطني والاجتماعي. كما تناول بالنقد والتحليل بعض “النظريات” التي شغلت الناس بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينات القرن الماضي ونعني “نظرية” “نهاية التاريخ” للأمريكي فوكوياما، إلى غير ذلك من المسائل التي كانت لها صلة مباشرة بنضال العمّال والكادحين في تونس والوطن العربي والعالم. ويعود الفضل إلى الأستاذ إبراهيم العثماني صديق الفقيد في تجميع نصوص الطاهر الفكرية والسياسية والثقافية التي بقيت متفرقة ونشرها في مؤلف بعنوان: “في شؤون الثقافة والفكر” (2019).
(4)
ولكن لم يكن ذلك كلّ ما كتب الطاهر، فله عشرات الافتتاحيات والمقالات السياسية التي كان ينشرها في جريدة حزب العمال السرّية (صوت الشعب) وهي لم تُجمّع كاملة إلى اليوم. كان أكثرنا مواظبة على الكتابة. كما كان يبذل جهدا خاصا لتصحيح المقالات والكتابات الأخرى. وقد كان حريصا جدّا على سلامة اللغة والتّركيب ووضوح المعنى وجماليّة العبارة، معتبرا أنّ الاستهانة بمثل هذه المسائل الشكليّة خطأ فادح. وكان يكرّر دون عناء أنّ التعبير الجيّد عن فكرة ما لا يحصل إلاّ إذا كانت هذه الفكرة واضحة في ذهن صاحبها أو صاحبتها لذلك كان يدعو إلى بذل الجهد في الدراسة لفهم هذه الظاهرة أو تلك أو هذا الحدث أو ذاك للتمكّن من التعبير الواضح والمبسّط عن الفكرة التي يُراد تبليغها. وكان يستهزئ من أولئك الذين يتصنّعون الغموض في كتاباتهم ظنّا منهم أنّ ذلك علامة على “علمهم” و”جهبذتهم” التي تميّزهم عن “العامّة”. وقد اتّهم الطاهر أكثر من مرة بالمُباشريّة في شعره وكان يردّ على منتقديه بكونه يكتب بلغة سهلة وبطريقة فنية غير معقّدة حتى يفهمه “الناس” الذين يتوجّه إليهم والذين هم في النهاية صانعو التاريخ بنشاطهم ونضالهم. وإنّني أدين للطاهر بالكثير في هذا المجال. وقد كنت ألحّ عليه دائما بأن يطّلع على ما أكتب قبل نشره لأنني كنت على اقتناع أنّ أيّ نص يوضع بين يدي الطاهر سيزيده حبكة ودقة وجمالا ليكون أكثر إقناعا… وقد كانت علاقة الأخوة التي تربطنا حافزا لتكون علاقة الرفاقية التي تجمعنا على درجة كبيرة من الرقي. كان الطاهر، الأخ والرفيق حاضرا في كامل ردهات حياتي إلى أن لفّه ظلام القبر تاركا فينا حسرة لا توصف ولا تطاق…
(5)
في هذا اليوم الذي أُحيي فيه مع العديد من الرفيقات والرفاق والصديقات والأصدقاء الذكرى الرابعة عشرة لرحيل الطاهر أودّ نشر البعض من أشعاره التي كنت أردّدها في شبابي ومازالت إلى اليوم تشدّني بعذوبتها رغم مرور عقود على نَظْمِها:
القصيد الأوّل:
أصدقائي
سيبقى أصدقائي
يَطْرُقُون سمْعَ هذا العالمْ
ويملؤون شوارعَه الكبيرهْ
……
ستُعشِبُ الأرضُ على كلّ حالْ
وتطْلعُ الشّمسُ والأزهارْ
والبيوتُ البيضاء، على أنقاض مَا انْهارْ
……
إنْ جاز أنْ أُنْفى
وينتَهِي غنائي
سيبْقَى أصدقائي
يشوّشونَ هذا العَالَمْ
يكسّرون أبوابَهُ الحديديّهْ
يحطّمون أسوارَهْ
ينَفُذون إلى الداخلْ
يُعْمِلون فيه المعَاوِلْ
سيبقَوْنْ
يَحْمِلُونَ المشاعلْ
…..
آهِ يا مصيريَ المجهولْ
يا شيئا مقْبولا وغيرَ مقبولْ
سيبْقى أصدقائي
ردّا عنيفْ
أعْنَفَ من بقائي
سيَبْقَوْنْ
هؤلاءِ الطّالعونَ مع العُشْبْ
هؤلاء النازلون مع الغيثْ
هؤلاء الفاتحونْ
سيَبْقَوْنْ…
تونس 1969
————
القصيد الثاني: أنَاشيد إلى ذات أنامل صغيرة (مقطع)
2- عذابات إلى الزيتون الدَّافئ
أنا مريضْ
يا ممرّضتي البعيدَهْ
أنا مريضْ
يا الصّديقَةَ الفريدهْ
ويا الأمل العريضْ
أنا مريضْ
يا حبيبة المنفى ويا رفيقةَ الحضيضْ
أنا مريضْ
أنقُلُ عذاباتي
أجرّ خطايَ، وأحمل جراحاتي
أنا مريضْ
ويُخِيفٌني الآتي
أنا مريضْ
قطِّري من دفءِ عَيْنيكِ على هُدْبِي
دفّئي كلمَاتي
وانفُضِي شَجَرَ الزّيتونِ على درْبي
ضَوِّئي عَتَماتي
وتحَسَّسِي… هلْ ينبُضُ شعبي
واشْرَبِي نَبَضَاتِي…
تونس- فيفري 1970
المستشفى العسكري بالعاصمة
——–
القصيد الثالث:
التّعبير بالحركة
صَاحَ الأوّلُ: شَيّاتْ
وَصَاحَ الثّاني: شَيّاتْ
وصَاحَ الثّالثُ: شَيّاتْ
وَصَاحَ الّرابِعُ: شَيّاتْ
وَنَادَى الخَامِسُ: شَيّاتْ
وَزادَ السّادِسُ: شَيّاتْ
حَمَلْتُ صُنْدُوقِي وَرُحْتُ
أُشَيّتُ مَعَ شَعْبِي
تونس 1971
———–
القصيد الرابع: أرى النّخل يمشي (مقاطع)
أرى النّخل يمشي
وسَط الزّحْمَةِ يمْشِي
وسَط العتْمة يمْشِي
وسَط الهجْمة يمْشِي
مشدودَ الهُدْبِ إلى الشّمْسِ
موعودَ الصّابهْ
أيّها الناسي صوابَهْ
أيها المُبْدِلُ بالوهم ثِيَابهْ
——-
النّخل لا يبكي
النّخل يُغنّي
معَ العصافير والأطفالْ
معَ مياه البحْرْ
معَ قمح الجبالْ
معَ البرْقْ
معَ الخَريفِ الهادِرْ
مع الشّتاء
——-
أرى النّخل يمشي في الشوارعْ
بحديدِ المَعاملْ
وحصيدِ المزارعْ
ورغم اللّيالي
ورغم المواجعْ
أرى النّخْلَ عَالي
ولا يتراجَعْ
تونس في 1984