الشارع المغاربي: لم يفصح رئيس الجمهورية قيس سعيد حتى اليوم عن « الاطراف» التي سبق ان تعهد على رؤوس الملء بكشف اسمائها وكل «الحقائق» والادلة التي تدينها.. صمت متواصل رغم «هول» الجرائم وخطورتها ومع ذلك يكتفي سعيد بالتلميح والتهديد والوعيد.
مر ما يقارب النصف سنة على اجراءات 25 جويلية ولم يحل رئيس الجمهورية قيس سعيد خلالها اي ملف الى القضاء، حسب ما اكد لـ«الشارع المغاربي» مصدر قضائي رفيع المستوى شدد على ان «كل ما يتداول في الاعلام هو قضايا منشورة تمت احالتها بشكل مؤكد قبل دخول البلاد مرحلة التدابير الاستثنائية». هذا المعطى لا يثير الاستغراب من قيس سعيد الذي لا يكاد يُفوت مناسبة دون توجيه سهام النقد اللاذع للقضاء.
لكن مع موقف الرئيس المعلوم من القضاء والاجراءات التي يلوح باتخاذها في اطار ما يسميه بـ«التطهير» على غرار حل المجلس الاعلى للقضاء، فان ثقل الملفات التي يتحدث عنها والتي شملت التخطيط لاغتياله والتمويل الاجنبي والتعاطي مع جهات اجنبية والارهاب والفساد المالي تضع الرئيس امام حرج باعتبار ان مثل هذه القضايا ليست للاستهلاك الاعلامي او لتسجيل نقاط سياسية وتفترض خطورتها تحركا سريعا هو اكثر من ممكن لرئيس يستحوذ على جل السلطات وله الاجهزة القادرة على القيام بهذه المهمة.
من هم ؟
عمن يتحدث الرئيس وهو يسرد للتونسيين هول جرائم سياسية ومالية وارهابية مُتورطة فيها «اطراف» لم يسمها منذ دخوله القصر حتى يوم امس الاثنين خلال لقائه برئيسة الحكومة نجلاء بودن؟ اكتفى سعيد وهو بصلاحيات محدودة تماما وهو صاحب صلاحيات غير مسبوقة بالاشارات دون الايفاء بعهده بالكشف عن الاسماء وكل الحقائق ولا باحالة الملفات التي بحوزته الى القضاء للبت فيها.
اشارات سعيد موجهة لحركة النهضة رأسا وهي اشارات مرفوقة بالتهديد بالمحاسبة التي اقتصرت خلال قرابة 6 اشهر منذ تفعيل الفصل 80 على احالة قياديين على الاقامة الجبرية (انور معروف ونور الدين البحيري) الاول رُفع عنه هذا الاجراء دون توضيحات لا حول خلفيات اقراره ولا عن اسباب رفعه والثاني لا يزال قيد الاقامة الجبرية وهو في المستشفى.
وشملت قرارات الاحالة القاضي البشير العكرمي المصنف سياسيا بالقريب من النهضة والذي رُفع عنه هذا الاجراء ايضا. ومؤخرا تم الاعلان عن فتح بحثين قضائيين بقرار من وزيرة العدل ليلى جفال الاول على خلفية تصريحات تلفزية ادلى بها محمد الهنتاتي واتهم فيها النهضة بتسميم الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي والثاني في حيثيات وفاة رجل الاعمال جيلاني الدبوسي ونجله كان قد اتهم عبد اللطيف المكي ونور الدين البحيري بالوقوف وراء ما يسميه بعملية تعذيب ممنهجة ادت الى مقتل والده بعد ايقاف تواصل اكثر من 28 شهرا.
الخيط الرابط بين القضيتين التي تم تحركهما من قبل وزيرة العدل هو النهضة، البعض يعتبر ان هذا التحرك فضح السلطات القائمة وكشف انه ليست لديها ملفات مما جعلها تقفز على تصريحات حتى وان كانت بلا مصداقية لتحويلها الى قضايا بشكل يضع جدية سعيد وحكومته على المحك علاوة على ان هذا التمشي يُفند من جهة اخرى سردية احتفاظه بالملفات الثقيلة والحقائق التي بحوزته الى حين «تطهير القضاء» .
فرضية اخرى يتداولها خصوم الرئيس بروايات مختلفة حول علاقة سعيد بالنهضة والمحاسبة . فرضية تقول ان اشكال سعيد مع النهضة سياسي وان معركته معها حول السلطة و«خزان المحافظين» وانه مرتبك ومتردد في محاسبة عدد من قياداتها رغم «القضايا» التي تلاحق عدد منهم وان ما يحدث اليوم هو «ذر رماد على العيون» مثلما ذهبت الى ذلك رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي مقابل تلميح الوزير السابق محمد عبو بأن «تعهدات خارجية» وراء عدم انطلاق سعيد في ملف المحاسبة.
ورغم اختلاف القراءات بخصوص مسار ما بعد 25 جويلية ، فهناك اجماع على ضرورة المحاسبة لاسيما مع» تأصيل» سياسة الافلات من العقاب طيلة العشرية المنقضية بتواطئ من القضاء الذي لعب دورا سلبيا في فترة الانتقال الديمقراطي واجماع ايضا على ان فلسفة سعيد على المحاسبة مبنية على نزعة شخصية على غرار ما حصل مثلا مع الثنائي غازي الشواشي امين عام حزب التيار وشوقي الطبيب اخر رئيس لهيئة مكافحة الفساد وتقوم ايضا على المحاكمات الشعبية المستندة غاليا على معطيات متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي.
غموض
التخفي وراء «الاطراف» ليس بجديد في عالم السياسة التونسي الذي تغلب عليه المزايدات والـ«فقاعات» وتصفيات الحسابات التي خلفت حروبا مغشوشة على الفساد وأضاعت فرص الاصلاح والمحاسبة رغم توفر كل شروطها خاصة من حيث التشريعات وسقطت في الماء بسبب غياب الارادة السياسية.
وخيل الى الحالمين بتونس اخرى ممكنة أن سعيد سيدشن عهدا جديدا وهو الذي دخل قصر قرطاج بشرعية انتخابية واسعة مُكن منها لسبب اساسي هو «نظافة اليد» التي تكاد تكون مفقودة في المشهد السياسي ورفّعت سقف الانتظارات في علاقة بتنقية المناخ العام يقودها رجل بلا قيود تكبله من قبيل تمويلات تلقاها في الانتخابات تفرض عليه خيارات وتعهدات وتسويات.
الغريب ان سعيد رغم كل ذلك بصدد خسارة هذه المعركة نتيجة اخطاء بدائية الجزء الكبير منها يتحمله فريقه الضعيف من حيث الكفاءة مع قلة التجربة والكثير منهم ضحايا عملية تلاعب في وزاراتهم لافتقداهم الادنى المطلوب من معرفة دواليب الدولة. وتؤكد شهادات متعددة تحصل عليها «الشارع المغاربي» ان اقالات بالجملة عرفتها عدد من الوزارات وشملت اطارات عليا لـ«مجرد الشبهة» او في اطار تصفية حسابات او خدمة لطموحات الحالمين بالصعود السريع في السلم المهني عبر تقلد مناصب مرموقة .
وتشهد منشآت ومرافق حيوية عودة للممارسات النوفمبرية وعلى رأسها «الصبة» التي تحولت الى «سلاح» للتقرب من الحاكمين الجدد من بوابة محاربة الفساد مما ادى الى ازمات داخلية وضرب لمصالح الدولة وفضائح سنعود اليها بالتفصيل في اعداد قادمة قد تصنف ضمن المبكيات المضحكات وقد تنتهي بهروب اهم كفاءات بسبب تعفن الاجواء.
من جهة اخرى يُطرح السؤال حول كيفية مغادرة عدد من الشخصيات السياسية والمسؤولين السابقين ونواب وافراد من عائلات عدد من كبار النافذين السياسيين سابقا ارض الوطن رغم تواصل العمل بالاستشارة في المعابر الحدودية ورغم ورود اسماء عدد منهم في قضايا متعددة ثقيلة.
الامر يتعلق بتيارات سياسية متنوعة وهي اساسا لمن عملوا في فترة «حكم الشاهد/ النهضة». في هذا السياق تشير مصادر مطلعة الى ان رئيس حزب تحيا تونس يوسف الشاهد تحصل مؤخرا على تأشيرة لدخول الولايات المتحدة الامريكية والرجل الذي كان سليم العزابي امين عام حزبه السابق اكد انه يواجه 17 قضية ، لم يقدم طلب التأشيرة من تونس وتمسك بالحصول عليها من فرنسا رغم بعض التعطيلات التي واجهها.
وغادر معاذ الخريجي ابن راشد الغنوشي البلاد بعد 25 جويلية والمعلوم انه يقيم في تونس منذ الثورة وهو ملازم لوالده والقائم بأعماله ويُطرح اسمه بقوة في ملف «تمويل الحركة» على المستويين الداخلي والخارجي وهو مذكور في القضية التي احيل بمقتضاها البحيري على الاقامة الجبرية باعتبار ان السيدة السورية التي تم تمكينها من وثائق بشكل غير قانوني، وفق رواية وزير الداخلية، هي زوجته وابنة رجل الاعمال علي غالب همت الذي اعيدت اليه الجنسية التونسية سنة 2013.
والقائمة تضم ايضا رفيق عبد السلام المتواجد وعائلته في الخارج منذ اشهر والمحامي والنائب عن النهضة بشر الشابي المفتوحة في حقه قضية لدى القضاء العسكري وعدد من نواب ائتلاف الكرامة ونواب من قلب تونس وعدد ممن تمت احالتهم على الاقامة الجبرية من مستشاري الشاهد على غرار مفدي المسدي المتواجد في فرنسا وبلحسن بن عمر الذي اكد المحامي عماد بن حليمة انه سافر الى المغرب وممن غادروا البلاد نجد رئيس حزب مشروع تونس محسن مرزوق.
مصادر مطلعة في وزارة الداخلية كشفت لـ«الشارع المغاربي» ان لاقالة مدير عام الحدود والاجانب صلب الوزارة منذ فترة واحالته على التقاعد الوجوبي علاقة بما اسماه بـ«هروب» عدد من السياسيين ممن هم محل تتبع قضائي مبرزا ان «تحقيقا فتح على خلفية تمكين البعض من مغادرة البلاد».
والغريب ان الامر شمل النائب في البرلمان المجمدة اشغاله راشد الخياري الذي اعلن في فيديو نشره منذ ايام على صفحته الخاصة بموقع فايسبوك انه خارج البلاد وانه سيعود قريبا الى تونس. والخياري صادرة في شأنه بطاقة جلب من القضاء العسكري على خلفية قضية مرفوعة عليه بعد ان اتهم قيس سعيد بالحصول على تمويلات ضخمة من المخابرات الامريكية خلال حملته الانتخابية.
والمعلوم ان الاستشارة تشمل كل من تقلد مسؤوليات بعد الثورة وكل الناشطين السياسيين ورجال الاعمال وخلفت مع بداية تطبيقها مباشرة بعد 25 جويلية جدلا واسعا انتهى بتبرئ سعيد من اقرارها وقال مستشاره وليد الحجام في تصريح بتاريخ 11 اوت 2021 ان جل المعنيين بالاجراء تم ذكرهم في تقرير المرحوم عبد الفتاح عمر وان رفعه رهين تسوية وضعياتهم مع القضاء.
في انتظار خروج قيس سعيد من المنطقة الرمادية وبوجه بما يملك من معلومات باعتبار ان غير ذلك يعني اما التستر على جريمة او الايهام بجريمة او ابتزاز سياسي ، فان محاسبة حقيقية وناجعة تمر عبر تطبيق القانون وقضاء مستقل والاستعانة بتقارير صادرة عن اجهزة الدولة على غرار تقرير تفقدية وزارة العدل بالاضافة الى تفعيل اليات قادرة على كشف الفساد المالي على غرار قانون «من اين لك هذا؟» .
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 جانفي 2022