الشارع المغاربي-الحبيب القيزاني: «إذا رأيت حريقا ففتش عن النفط»… مقولة نستحضرها من رماد ودخان النزاع العسكري القديم – الجديد الذي اندلع مؤخرا بين اذربيجان وأرمينيا والذي يخفي تنافسا جغراستراتيجيا بين القوى العظمى على السيطرة على منطقة آسيا الوسطى التي يرى الأمريكي ماكنيدر، صاحب نظرية «المحور الجغرافي للتاريخ» أن من يسيطر عليها يسيطر على العالم.
في ما يلي لمحة عن خفايا ورهانات الصراع بين الولايات المتحدة ودول حلف الناتو من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى على ثروات هذه المنطقة المرشحة لتكون مسرحا لنزاعات متتابعة بالنظر الى أهميتها الاستراتيجية والى ثروات اراضيها وبحارها النفطية تلعب فيها دويلاتها دورا بالوكالة
ان أهمية آسيا الوسطى أو ما يسمى بمنطقة أوراسيا ليست حديثة العهد ولا ترتبط فقط بالأطماع التي أصبحت تثيرها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك منظومة المعسكر الشرقي. فمنذ القرن الثالث قبل الميلاد اكتسبت هذه المنطقة أهمية استراتيجية عبر ما كان يعرف بطريق الحرير الممتد من الصين الى البحر الابيض المتوسط الذي تحول اليوم الى ممرّ هام لخطوط أنابيب نقل النفط والغاز.
وآسيا الوسطى هي قلب آسيا وهي متاخمة لمجموعة من الكتل الجغرافية والتكتلات السياسية-الاقتصادية. فعلى المستوى الآسيوي تقع المنطقة على تماس مباشر مع روسيا والصين وايران وتركيا وتطل على شبه القارة الهندية وهي الى ذلك تشكل منطقة عازلة تحد من الاحتكاك المباشر بين هذه القوى الآسيوية الاقليمية. ثم ان معظم منطقة آسيا الوسطى يطل على بحر قزوين الغني بالنفط والغاز اذ تتعدى احتياطاته النفطية 150 برميل فيما تقدر احتياطاته الغازية بأكثر من 75 مليار متر مكعب. وهي الى جانب ذلك تمتد على مساحة ضخمة تناهز 4 ملايين كلم مربع اي تفوق مساحة أوروبا وتسكنها شعوب ذات لغات وأعراق متنوعة.
حديقة خلفية لروسيا
بعد أحداث سبتمبر 2011، شعرت روسيا ان أمنها القومي يتعرض لتهديدات جدية بسبب عدم الاستقرار السياسي وتنامي الحركات الانفصالية والاسلامية في وسط آسيا. وقد دفع ذلك موسكو للاحتفاظ بقواعد عسكرية في طاجاكستان وكازاخستان وغيرغيزستان وتركمانستان في اطار التنافس الدولي على عسكرة آسيا الوسطى وزادت من تعاونها الاقتصادي في مجالات الطاقة والنقل والمياه مع دول المنطقة خاصة في اطار شراكات التكامل والتعامل الاقليميين في منطقة شنغهاي للتعاون الاقتصادي.
الاستراتيجية الامريكية
اعتمدت الولايات المتحدة الامريكية عاما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال دول المنطقة على زرع السياسة الليبيرالية وتطبيق اقتصاد السوق ونشر مبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان مع عزل الدول المناوئة لهذا التوجه ومحاصرتها اقتصاديا وسياسيا وحتى عسكريا، ثم دفعت أحداث سبتمبر 2001 واشنطن الى تبني سياسة الهجوم الوقائي المبنية على مبدإ ملء الفراغ الاستراتيجي الذي ترى أن انهيار الاتحاد السوفياتي خلفه في المنطقة.
وهذا المبدأ نظّر له زبغنيو بريجنسكي منذ كان مستشارا للأمن القومي في عهد الرئيس كارتر اذ يرى أن المنطقة تشكل معبرا حيويا للمناطق الآسيوية المهمة وأن على بلاده أن تحوّل ذلك الى حاجز أمام اللاعبين الاستراتيجيين لتحقيق مصالحها الاستراتيجية الضخمة باحتواء الصعود الصيني المتنامي اقتصاديا وعسكريا وثقافيا الذي تعتبره واشنطن اليوم مصدر تهديد لزعامتها العالمية، ومنع التنين الصيني من التمدّد في المنطقة عبر “طريق الحرير” والاستفادة من موارد الطاقة النفطية والغازية التي يحتاجها.
كما تسعى أمريكا الى عزل روسيا التي تشكل مصدر قلق استراتيجي آخر لها. وتقوم الاستراتيجية الأمريكية على منع روسيا من العودة الى مناطق نفوذها السابق في اوروبا الشرقية والقوقاز وآسيا الوسطى.
ويشهد العالم منذ سنوات عودة “الحرب الباردة” بين الطرفين خصوصا في ظل اقتراب الكماشة الامريكية من خاصرة روسيا الجنوبية عبر اوكرانيا الى جانب استقطاب حلف الناتو العديد من الدول المنشقة عن الاتحاد السوفياتي. وقد ساعدت الخلافات الحدودية وعودة القومية ونزعات الاستقلال والانفصال القومي والديني واشنطن على التسلل الى دول كانت تعتبر محرمة عليها في عهد الاتحاد السوفياتي وزادت الثروات النفطية والغازية التي تملكها هذه الدول في اصرار وشنطن على التشبث بها لمنع روسيا من التحكم في ورقة الطاقة وخطوط نقل النفط عبر الممرات السوفياتية السابقة.
الصين واستراتيجية “طريق الحرير”
ترى الصين انها معنية بصورة مباشرة بالصراع الدائر على حدودها الغربية خاصة انها متاخمة لكازاخستان وغيرغيزتان وطاجاكستان وروسيا. وقد بانت نوايا الاهتمام الصيني بالمنطقة منذ عام 1996 مع صدور اعلان عن منظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي يقضي بالتعاون مع هذه الدول مما شكّل بوابة لتدخل الصين في المنطقة وعكس مخاوفها المشتركة مع روسيا على الصعيد الامني والاقتصادي والتي كانت بدورها تبحث عن حليف قوي في آسيا الوسطى لايقاف الزحف الامريكي-الاوروبي على مناطق نفوذها التقليدية. كما يمثل امن امدادات الطاقة بالمنطقة احد الرهانات السياسية للصين نظرا لاعتماد اقتصادها على كميات هامة منها.
الحلف الأطلسي: سلاح وديمقراطية وأشياء أخرى
بعد التدخل الامريكي-الغربي في افغانستان اثر احداث سبتمبر 2001 برز دور الحلف الاطلسي كأحد اللاعبين الاساسيين في آسيا الوسطى بعد تسلله اليها اواسط التسعينات عبر تشريك عدة دول في ما يسمى “استراتيجية الزحف الهادئ” لاحتواء روسيا في مرحلة اولى قبل تعزيز صلاحياته وتركيز منظومة درع صاروخية أثارت أزمة مع موسكو وتسببت في اندلاع سباق جديد نحو التسلح. كما شهدت علاقات الحلف مع بعض دول المنطقة توترا بسبب حرص الدول الغربية على اجراء اصلاحات اقتصادية وسياسية وتكريس الديمقراطية وحقوق الانسان وفتح الباب أمام تكوين منظمات مجتمع مدني الشيء الذي نظرت اليه حكومات هذه الدول بعين من الريبة حول النوايا الحقيقية لـ “الناتو”.
والجدير بالذكر ان أصابع المعسكر الروسي-الصيني والدول التابعة له من جهة والولايات المتحدة ودول الناتو واضحة في ايقاظ نار أحقاد دفينة دينية كانت أو عرقية بين العديد من دول آسيا الوسطى أو تأجيج النزعات الانفصالية كغطاء لتنفيذ مخططات للسيطرة على منابع الثروات الباطنية وطرق تسويقها. ومع اطلال العديد من دول المنطقة على بحر قزوين الغني بالنفط والغاز تبقى أطماع الدول العظمى قائمة عبر تسلل شركاتها ليس للتنقيب عن النفط والغاز فقط وانما لبناء خطوط أنابيب لتسويقه الى اوروبا.
ويؤكد الصراع المندلع منذ أيام بإقليم ناغورني كاراباخ بين اذربيجان وارمينيا ذلك رغم تركير الصحافة الغربية على أنه صراع عرقي وعلى أن جذوره تعود الى الماضي. لكن تدخل تركيا الى جانب اذربيجان بما وضع أرمينيا بين كماشة الدولتين يفضح الاسباب الحقيقية.
تركيا والبحث عن العظمة البائدة
رغم غياب حدود جغرافية لها مع دول آسيا الوسطى ترى تركيا انها بمثابة “الوطن الام” لشعوب تلك الدول بحكم تراثها التاريخي فيها الى درجة ان انقرة لا تطلق على المنطقة مصطلح آسيا الوسطى وانما تسميها “تركستان”. وتستغل حكومة اردوغان التطورات الجغراسية التي عرفتها المنطقة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي لمحاولة تحقيق اختراق يمكنها من الوصول الى منابع النفط والغاز. ولا تمانع واشنطن في ذلك طالما أن تركيا عضو بالحلف الاطلسي وانها ملتزمة بالاستراتيجية الامريكية لمواجهة ما يسمى “التهديد الايراني في المنطقة” ومن المعلوم ان امريكا تدعم التحركات التركية في المنطقة لما لها من دور في تسهيل بناء خطوط أنابيب لنقل النفط من اذربيجان الى ميناء جيهان التركي تفاديا لمرورها عبر الاراضي الروسية.
ايران والموقع الجغرافي الممتاز
سارعت ايران لاستغلال فرصة الفراغ الاستراتيجي الذي خلفه سقوط الاتحاد السوفياتي في المنطقة. ذلك أن موقعها الجغرافي ممتاز بالنسبة لدول الجوار اذ هي تمثل ممرا آمنا الى المياه والبحار المفتوحة (الخليج العربي وبحر عمان) الى جانب امتلاكها سواحل مشتركة مع اذربيجان وتركمانستان وكازاخستان على بحر قزوين الغني بمصادر الطاقة. كما تمثل ايران لجيرانها الطريق الاسرع والاقل كلفة نحو الاسواق الدولية. وقد منحها تطوير شراكات مع هذه الدول امكانية لتصبح دولة عبور طريق الحرير الجديدة وهو احد اسباب تكالب واشنطن (طبعا بتحريض من اسرائيل التي ترى في ايران خطرا على وجودها) على محاولة خنق الاقتصاد الايراني املا في تركيع حكامها للابتعاد عن المحور الصيني-الروسي المعادي للمحور الامريكي-الاطلسي.
اسرائيل : اكتساح متعدّد الأوجه
تسعى اسرائيل جاهدة للتغلغل بدول آسيا الوسطى تحت ذرائع مختلفة منها الاقتصادي والسياسي وكذلك الأمني بحجة مواجهة الارهاب. وقد كشفت عن ذلك دراسة نشرتها جامعة انديانا الامريكية منذ عام 1998 تضمنت بنود الاستراتيجية الاسرائيلية التي ما زالت متواصلة الى حدود اليوم وجوهرها وصول حكام تل أبيب الى مراكز نفوذ في آسيا الوسطى يتيح لها التأثير في تشكيل الاستراتيجيات في بقية مناطق العالم باعتبار ان السيطرة على اسيا الوسطى مطية لحكم بقية العالم وذلك في تناغم تام مع التوجه الامريكي في المنطقة. وتقوم سياسة اسرائيل في النفاذ الى دول آسيا الوسطى على تقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية واستغلال دور المهاجرين اليهود ببعض جمهوريات المنطقة لمد جسور العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
واثر انشاء اسرائيل غرفة للتجارة والصناعة خاصة بدول المنطقة بعثت بنكا للمعلومات الاقتصادية ودليلا للقطاعات التي يمكن لرجال اعمالها الاستثمار فيها. ثم بدأ سيل الشركات الاسرائيلية وطوابير اليهود من مختلف بلدان العالم يتوافدون على دول المنطقة واستطاعوا فتح مؤسسات ومكاتب تجارية وركزت شركاتهم نشاطاتها على الطاقة والمعادن والزراعة والثروة الحيوانية والصناعة والاتصالات والبنوك والمنظومات المالية والطب والفضاء والابحاث العلمية. ووضعت الشركات الاسرائيلية ايديها على مناجم ومصانع في كازاخستان تنتج آلاف الأطنان من اليورانيوم. كما استفادت من قاعدة “بايكينور” الفضائية الكازاخية في اطلاق اكثر من قمر صناعي مقابل نقل تكنولوجيا الري والزراعة والصناعات الغذائية الى كازاخستان، كما شكلت حرب امريكا على الارهاب مظلة لاطلاق يد اسرائيل في نشاط عسكري استخباراتي في عدة دول بآسيا الوسطى.
ان منطقة آسيا الوسطى مرشحة لتكون بؤرة صراعات مسلحة طويلة الأمد نتيجة تصدي الروس للهجمة الامريكية-الاطلسية على حديقتهم الخلفية وبسبب اصرار واشنطن على منع تحول الصين الى امبراطورية اقتصادية عبر اشعال نيران الحروب في كل الدول الواقعة على طريق الحرير الجديدة.