الشارع المغاربي-معز زيود: لا ريب طبعًا أنّ قيم الجمهوريّة التي أقرّها دستور 2014 تتعارض كليًّا مع التساهل في صدّ كافّة أشكال العنف والتطرّف والجريمة المنظمة وغيرها من الممارسات المنحرفة عن القانون. ومع ذلك شاعت الجريمة في البلاد من شمالها إلى جنوبها، حتّى اعتاد التونسيّون على بدء أيّامهم بأنباء الجرائم المتوحّشة وكأنّها من تحصيل الحاصل…
في ظرف أسبوع واحد تواترت وقائع الجرائم البشعة في عدد من المدن التونسيّة، جريمةً تلو الأخرى، وكأنّ البلاد باتت غابة مظلمة تخلو من الأمن وتحتكم فقط إلى القتل والخنق والاغتصاب والطعن باستخدام شتّى الأسلحة البيضاء المروّعة. ومن حسن الحظّ أنّ الأسلحة الناريّة ممنوعة منعًا باتًّا، على خلاف بلدان أخرى، وإلّا لعاينّا يوميّا مجازر وحروب عصابات مسلّحة في الكثير من المناطق والأحياء السكنيّة…
أسبوع دموي
رحمة وهيفاء شابّتان في مقتبل العمر، كانت الأولى تقطن في الضاحية الشماليّة للعاصمة، في حين تُقيم الثانية في بلدها بحفوز التابعة لولاية القيروان. كانتا زهرتيْن يانعتيْن تنعمان بدفق الحياة وأحلام الشباب الورديّة، وتخطّطان لمستقبل أجمل. وفي لحظة شيطانيّة فارقة أزهِقت دماؤهما وحلّ العدم محلّ الورود، فانتهى كلّ شيء. هكذا انتشر في نهاية الأسبوع المنقضي خبر هاتين الجريمتين المروّعتين. المجرم الذي اغتال أحلام رحمة عامل يومي، اغتصب جسدها وروحها البريئة وألقى بها في مجرى مياه بمنطقة عين زغوان غير البعيدة عن ضاحية قرطاج وقصر رئاسة الجمهوريّة. ومن سوء حظّ حسناء قرطاج أنّ كلّ شرور العالم قد اجتمعت في تلك الكتلة الآدميّة المتوحّشة التي اعترضت سبيلها، حين كانت عائدة إلى بيتها بمفردها.
ما من سبب أو ذريعة يمكن أن يُفسّر هذه الجريمة الشنيعة، لا السرقة ولا احتساء الكحول ولا البؤس والفقر… إنّها أساسًا تلك النزعة الإجراميّة التي استحكمت عبر الأعوام في ذهن كيان خبيث، فخوّلت له نفسه أن يقتنص فرصة تدمير كائن آخر تصوّره ضعيفا، من دون دفع ضريبة باهظة لجريمته المدبّرة على عجل.
المثال قد يكون أكثر فظاعة بالنسبة إلى هيفاء التي يبدو أنّها كانت تعرف حقّ المعرفة قاتلتها. فالمشبه فيها، وفق الملابسات التي كشفتها الأجهزة الأمنيّة، امرأة في الثلاثينات من العمر، بل هي أمّ ثلاثة أطفال كانت تتردّد على محلّ الخياطة التي تبذل فيه تلك البنت الطيّبة عرقها وتُعوّل على ذاتها من أجل بناء مسارها المهني. حتمًا الجريمة ليس لها جنس، وإغراء السطو على متاع الغير دون عناء العمل وبذل الجهد كان مبرّرًا كافيًا لتُجهِز المرأة المتوحّشة على «صديقتها» المفترضة، ثمّ تُواكب جنازتها متباكيةً وتمكث في بيت العزاء…
وفي الأسبوع نفسه تقريبًا، تعمدُ أمّ في أحد أحياء العاصمة إلى قتل رضيعها ودفنه بسبب شكوك زوجها في نسبة طفلها، وحالات انتحار وسطو وعنف شديد هنا وهناك في أرض تونس الواسعة في ظرف أيّام معدودة. ولو ننبش، لبضع الدقائق، في المواقع الإخباريّة لتوقّفنا عند عشرات القضايا الإجراميّة من قتل واغتصاب واعتداء بالأسلحة البيضاء وتحويل وجهة الضحايا باستخدام العنف والابتزاز المباشر أو عبر وسائل تكنولوجيات الاتّصال والميديا الاجتماعيّة وغيرها… أنّه بلد جميل بصدد التحوّل تدريجيّا إلى جهنّم اجتماعي، بات الانحراف والاحتيال محرّكا أساسيّا في أنحائه، في ظلّ حالة عجز رسمي في مقاومة نسق الجرائم المتصاعدة…
تبرير الجرائم
لا ينبغي بأيّ حالٍ من الأحوال تبرير الجريمة المنظمة والمتعمّدة أو إيجاد أسباب للتخفيف من وطأتها وانعكاساتها على مرتكبيها وضحاياهم وعلى المجتمع بأسره. ومع ذلك يبدو أنّ الظروف العامّة التي تمرّ بها البلاد خلال السنوات الأخيرة، ولاسيما غياب العدالة الاجتماعيّة وتزايد نسب الفقر والبطالة مقابل تفاقم الفساد، قد أسهمت بقدر معتبر في تهاطل الجرائم الفظيعة في كلّ حين. وممّا زاد الطين بلّة والجرائم انتعاشًا أنّ هناك قناعة زادت رسوخًا في معظم الأذهان بأنّ «الإفلات من العقاب» بات سيّد الموقف في تونس ما بعد الثورة. ويكفي فقط أن يتسلّح المجرم أو الفاسد أو المهرّب أو اللصّ أو المنحرف بما أوتي من وسائل غير شرعيّة للتغطية على جريمته حتّى يحول دون انكشاف أمره. وفي حال لم تتحوّل الجريمة إلى قضيّة «رأي عام» بما يفرض إيلاءها ما يجدر بها من أهميّة، فإنّه كثيرًا ما تُفتقد آثار المجرم أو اللصّ أو المحتال المحترف، وعندها يتعسّر أن تُفلح أجهزة الأمن في تحديد المذنب، بل وتُشجّعه على المضيّ في تكثيف جرائمه…
وممّا لا شكّ فيه أنّ الأجواء السياسيّة المتعكّرة في البلاد وما تسبّبت فيه من حالة استقطاب قسّمت التونسيّين قد أسهمت في تعميق النزيف الاجتماعي على أكثر من صعيد. كما أعمت البصائر عن النظر إلى أهوال الجريمة التي تعاظمت في العديد من مناطق الجمهوريّة، بدءًا بتونس الكبرى.
ولنأخذ في هذا السياق مثالا لما شاع بالأمس فقط بشأن الاعتداء بسيفٍ على نائب بالبرلمان عن كتلة ائتلاف الكرامة بجهة بنزرت فجر أمس من قبل مجموعة أشخاص، ممّا خلّف للنائب جرحا عميقا في رأسه أدخله في غيبوبة لساعات عدّة، وفق ما أعلن. وهي طبعًا جريمة نكراء لا يمكن تبريرها، وعلى أجهزة الأمن المختصّة أن تعمل بعجل على تفكيك ملابساتها وإيقاف من ارتكبها مهما كانت صفتهم. وما يلفت الانتباه في الآن ذاته أنّ النائب عن الكتلة نفسها (الحبيب بن سيدهم) الذي كشف، في تدوينة على صفحته بموقع «فيسبوك»، عن حصول هذه الجريمة الكريهة لم يجد سوى مهاجمة وسائل الإعلام والصحفيّين والحقوقيّين وصفهم بـ»الفاشيّين» وتحميلهم مسؤوليّة ذلك الاعتداء. نعم بمنتهى الصفاقة، قال النائب المذكور إنّه يُحمّل مسؤوليّة الاعتداء بسيف على زميله «لكلّ سياسي وإعلامي فاشي حرّض على نوّاب ائتلاف الكرامة تحت مرأى ومسمع النيابة العمومية» فضلا عمّن سمّاهم بـ»بيادق حقوق الانسان والرويّق متاع الحريات». نعم هذا حرفيّا مضمون خطاب نائب في البرلمان التونسي. والحال أنّ مجلس نوّاب الشعب لم يعرف محرّضين ومنقلبين على المواقف والتحالفات الانتهازيّة بقدر نوّاب ذلك الائتلاف. فقد وصل الحال ببعضهم إلى حدّ تبرير الجرائم الإرهابيّة عبر اختلاق الأكاذيب بشأن أجهزة المخابرات الأجنبيّة التي تقف وراءها…
كيف يمكن إذن إزاء هذا الخطاب المكتنز بالشتم والمزايدات أن يتمّ التركيز على الأولويّات، سواء المتعلّقة باستصدار النصوص التشريعيّة لتكثيف مكافحة الجريمة أو تطبيق القانون للحدّ من الإفلات من العقاب أو خصوصا إيجاد الحلول للمشاكل التنمويّة الكبرى من أجل الحدّ من حالة البؤس والفقر التي باتت تُشكل تربة خصبة لتفريخ الجريمة والانحراف في مختلف مناطق البلاد.
ثقافة الانتقام
والمؤسف عند متابعة الجدل السائد بشأن تفاقم تلك الجرائم، أن يعمّ الخطاب الشعبوي الذي يُشجّع على الكراهيّة والتمييز والتعصّب، على غرار السقوط في ترويج حماقات مثل اتّهام جهة بعينها كالقيروان بتفريخ هؤلاء المجرمين. والحال أنّ الظواهر الإجراميّة تكاد تكون العنصر الأكثر اشتراكا بين معظم مناطق البلاد، لتتحوّل جغرافيّتها بين الفترة والأخرى من جهة إلى غيرها. كما أنّه ليس كلّ عمّال البناء بمجرمين أو منحرفين، حتّى يتمّ وصمهم بتلك الأوصاف الفظيعة، وذلك على الرغم من أنّ الظروف الاجتماعيّة البائسة من شأنها أن تُعمّق الاستعدادات لمخالفة القوانين وانتهاك القواعد السلوكيّة السليمة أكثر من غيرها…
في الآن ذاته، يرتكز الخطاب السائد في الميديا الاجتماعيّة وفي منابر الحوار الإعلاميّة، لا على تشخيص الأمراض الاجتماعيّة ومحاولة توصيف العلاج الممكن، وإنّما على إشاعة ثقافة الانتقام والقتل والإعدام وما إلى ذلك. والغريب أنّ الأمر لم يتوقّف عند التهليل لتطبيق حكم الإعدام بكثافة، أي «القتل في إطار القانون» مثلما تُسمّيه منظمة العفو الدوليّة، بل هناك من بات يدعو إلى استنساج الجدل القائم في المغرب حاليا بخصوص سنّ قانون «الإخصاء الكيميائي» لمعاقبة المغتصبين بهدف «الردع وإثارة الرعب لدى سائر المجرمين»…
ولا داعي هنا إلى الخوض كثيرًا في هذه القضيّة التي تحتاج إلى خطاب رصين وغير متشنّج بسبب الجرائم الفظيعة المرتكبة للتوّ. ومع ذلك ينبغي الإشارة إلى أنّ الانجرار وراء ردود الفعل الانفعاليّة من شأنه أن يؤدّي إلى الأسوأ ويُعمّق حالة الانقسام الاجتماعي المتفاقمة بطبعها يوما بعد يوم. كما لا يخفى أنّ الظروف الوبائيّة الراهنة التي لم تُخلّف سوى الخسائر الصحيّة والماديّة قد أدّت بدورها إلى تعميق حالة القلق النفسي لدى الكثير من التونسيّين، وربّما شكّلت عوامل ضغط أكبر للانسياق وراء الجريمة التي ألبست الكثيرين حالة حدادٍ غير مسبوقة…