الشارع المغاربي – أزمة المدرسة ليست بيداغوجية وإنّما هيكلية بقلم: د.مراد بهلول (أستاذ التعليم العالي - خبير منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم)

أزمة المدرسة ليست بيداغوجية وإنّما هيكلية بقلم: د.مراد بهلول (أستاذ التعليم العالي – خبير منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم)

قسم الأخبار

19 يونيو، 2024

الشارع المغاربي: لعل من أهم وأعقد مظاهر أزمة المدرسة هو ما اقترح بتسميته ازمة هيكلية متعلقة بـ”بروليتارية مهنة التدريس” “تنامي خطاب التنمية البشرية كبديل للخطاب والتفكير البيداغوجي” و”تعطل رغبة التعلم في بنية اجتماعية لا يمثل فيها التعلم مطلبا. “

بروليتارية مهنة التدريس

لقد أصبح اغلب المدرسين بمثابة البروليتاريين ليس فقط في ما يتعلق بالظروف المادية لممارسة مهنتهم والتدهور الاجتماعي الذي يعيشونه وإنّما أيضا لأنهم يتخلصون وبشكل متزايد من معنى ومضمون المدرسة كمؤسسة وكسلطة في بعدها الرمزي تقوم على النقد والاعتراف والاستحقاق. تشتغل المدرسة اليوم ضمن منطق الخدمات ويشتغل المدرس ضمن ما تسمح به بيداغوجيا النادل. لم تعد غاية المدرسً إكساب التلميذ المعرفة التحررية ورفع الوعي لديه بل أضحت جزءا من سوق المعاملات والمضاربات في السوق المدرسية. لقد جسد المدرس لفترة طويلة صورة المثقف في الوعي الجمعي. يجسد اليوم صورة العامل البروليتاري الذي يمارس مهنة يتحكم رأس المال في مستوى فعله ووعيه وانخراطه وإحساسه كمدرس. لقد ساعد تحول المدرسة إلى قوة تنافسية في سوق مضاربات النتائج الى تشكل هذه الهوية الجديدة للمدرس كبروليتاري. فعندما يصبح هاجس النتائج المدرسية الانية لدى الأولياء مقياس تقييم عمل المدرس وعندما يصبح هاجس النتائج الآنية محرّك “القدرة التنافسية” بين المدارس تتقلّص المعرفة أكثر فأكثر إلى ما هو “مفيد” الآن وهنا (وغالبًا ما تكون نفس هذه المعرفة بعيدة عما يمكن أن يكون “مهمًا” ومفيدا في المستقبل) وحينما يتحول المدرس الى نادل وتهيمن البيداغوجيا المصرفية على العلاقة التربوية ألا ينبغي لنا ساعتها ان يصيبنا القلق والخوف بشأن هذا التقزيم وهذه البربرية اللينة والبروليتارية المتسترة التي تواجهها مهنة المدرّس؟ يمثل هذا الوضع حسب رأينا اكبر ابتلاءات المدرّس والمدرسة. لذلك أصبحنا نرى أن حجم العنف ضد المدرسين يزداد بقوة من طرف التلاميذ والأولياء على حد السواء. أن إعادة الرمزية للمربي واستنباتها من جديد في الوعي المجتمعي وحمايتها هي ما قد يضمن لنا عدم مواصلة حركة التقهقر.

تحول خطاب التنمية البشرية كبديل للخطاب البيداغوجي

تعاني المدرسة منذ سنوات من هيمنة الحلول المبسطة والعلاجات المعجزة التي تبيع الوهم للاولياء والتلاميذ علي حد السواء والتي ما فتئت تتكاثر وتنمو بشكل مذهل في المحيط المدرسي.  تتراوح هذه العلاجات والحلول المبسطة بين نوادي الحساب الذهني التي توهم بنتائج معجزة وانها قادرة علي ان تحل بأعجوبة مشاكل التعلم في الرياضيات، وصولاً إلى التسويق حول نوادي التربية الذكية والطفل الموهوب الخ. تطالعنا أيضا هذه السنوات موضة علوم الأعصاب، والتي من شأنها حسب بعض المشعوذين (وهنا استثني المختصين في هذا المجال) أن تمنحنا أخيرًا وبعد طول انتظار المفتاح السري للنجاح والتعلم. يطالعنا أيضا يوميا هذا التضخم الهائل “لأدوات التنمية البشرية والمرافقة النفسية التلاميذ” التي يمارسها اليوم كل من هب ودب. إن تبني الأولياء السريع لهذا الهراء البيداغوجي يشير حسب رأيي الي كثير من المعاناة والجروح التي تهيمن عليهم أمام ما يلاحظونه من عجز أبنائهم علي مسايرة نسق تعلمي تحكمه منافسة شرسة تسيطر عليها نظرية البقاء للأقوى. لذلك أعتقد أن مشاكل المدرسة تضع الضمانات لتنامي هذه المهن الوهمية التي تقتات من آلام الناس وتستثمر فيها.

أضحى خطاب التنمية البشرية بديلا عن الخطاب البيداغوجي لدى الكثيرين وهو مؤشر على عمق أزمة المدرسة . ان خطاب التنمية البشرية الذي يتم التبشير به كخطاب تربوي جديد يحل محل الخطاب البيداغوجي والتعليمي يتميز بكونه :

– خطاب عصابي يعبر عن ردة فعلِ لفشل المنظومة النفسية الداخلية للفرد في التأقلم مع القلق النابع من معاناة نفسية كبيرة. فهو تعبير عن تراجيديا نفسية باطنية تجعل الفرد اشبه بعصابي وذهاني يبني أمام حالات من العجز أوهاما فيصدقها بل يسكنها ويتغذى منها.

 – يستهدف هذا الخطاب من لهم هشاشة نفسية وعلمية. فهو يجعل الناس فريسة للأوهام والتلاعب manipulation والتصورات الوهمية وغير الموضوعية عن الواقع بل قد يرمي بهم في نوع من الانفصامية.

 -يستخدم هذا الخطاب العديد من المعارف الزائفة في واقع يتسم بالبؤس وحيث يكون الوهم ملاذا للكثير وحيث يكون إنكار الحقيقة الموضوعية من الآليات الدفاعية المرضية التي تعمل علي حماية الشخص من الشعور بالقلق أو التوتر.

– يمثل خطاب التنمية البشرية إحدى الأيديولوجيات الجديدة للسلطة والطبقة السياسية التي قد تلجأ لتشجيع هذا الخطاب وهذه الممارسات لرفع الحرج عنها في ما يعيشه الشباب واغلب الأفراد من غياب للشروط الموضوعية للنجاح والسعادة والتحرر. فهي تختزل مشاكل الفرد في مفاهيم زائفة تقود حتما إلى وعي ذاتي وموضوعي زائف. ومن المسؤول عن معاناة الناس؟ كيف يمكن تحسين الشروط الموضوعية للوجود الإنساني؟ فهي تنظر إلى المشاكل لا من حيث كونها مسائل ولدتها سياقات اجتماعية واقتصادية وإنما هي مجرد أحاسيس تندثر بشيء من “الطاقة الايجابية” والثقة في الذات إلى غير ذلك من الأوهام.

يكمن الخطر حسب رأينا في أن يصبح هذا الخطاب الذي بدأ يهيمن على المشتغلين في الشأن التربوي والمنشغلين به آلية تبسيط سطحي وتعويم لمشاكل وصعوبات التعلم وجودة التعلمات ولظواهر الفشل المدرسي والتسرّب والانقطاع كظواهر تنتمي الى اللامتناهي في التعقيد وتستدعي معارف علمية على قدر كثير من الشرعية الابستمولوجية والبلورة النقدية.

تعطّل رغبة التعلم

يعد النظام التربوي احد اعقد الأنظمة. انه الة ضخمة يستدعي اشتغالها تعبئة خبراء في البرامج وهندساتها وفي المعارف المدرسية وعلاقاتها بالمهارات المنشودة وفي التقيم وانواعه ومعاييره وروائزه وفي الكتب المدرسية وتصاميمها وفي التعليم ومقارباته وفي التعلم وعوائقه وآليات الدعم والعلاج. يستدعي ايضا اشتغال هذه الآلة تعبئة موارد مادية ضخمة وموارد بشرية من مساعدين ومتفقدين وإداريين وعملة ومدرسين وفنيين و…الخ. يتطلب أيضا اشتغال هذه الآلة مقاربات في التكوين وكيفية تجويده وتحسين مردودية المدرسين. أن النظام التربوي يشكل علي مستوي البنية  هرمًا تراتبيا متناسقا رائعًا ومرتبًا بطريقة بيروقراطية لا نظير لها. كل هذه الآلة تهدف الي غاية واحدة : تعليم التلميذ واكسابه مجموعة من الاقتدارات والمهارات.

علي المستوي العملي/الاجرائي يتسم اغلب رجال التربية بالضمير المهني والانضباط. يسعى أغلبهم الي الاستفادة من نصائح سلطة الإشراف والخبراء. يتقيدون بالبرامج الرسمية. يسعي كل مدرس الى صياغة سيناريوهات وتصاميم بيداغوجية للدرس تخطيطا وإنجازا وادماجا وتقييما ودعما وعلاجا. قد يجسد في شخصه المعرفة والمهارة . ومع ذلك يمكن ان لا يتعلم التلميذ. بل غالبا ما تعجز هذه الآلة وهذه الهندسة البيداغوجية علي تحقيق فعل التعلم. إذ من الممكن إحباط كل شيء. لأن التلميذ المتعلم قد لا يرغب في التعلم او هو بحبذ أن ينفجر ضحكا مع زميل له في حصة الدرس او يتفاعل بكل شغف ولذة مع صديق عبر هاتفه الذكي.

 لا ريب أن النظام التعليمي برمته ومن خلاله كامل المشروع البيداغوجي للمدرس قد يقع تحت رحمة هذه الانزلاقات الصغيرة التي تعرقل معظم البرامج التعلمية. لا توجد تقنية بيداغوحية يمكنها تخليص الفعل التربوي من هذه العشوائية والانزلاقات التي تترصده. فالتعليم هو بلا شك النشاط الاجتماعي الذي قد تتم فيه مواجهة جدية المصممين بشكل منهجي مع إهمال المستخدمين او لاجدية المنتفعين من التلاميذ. لا غرابة في ذلك. فالنظام التربوي على دقته والمدرسون علي جديتهم قد يصطدمون يوميا بأطفال جامحين ومراهقين لا يمكن الاشتغال معهم. قد تصطدم هذه الآلة الضخمة بأطفال لا يرغبون في التعلم. ان ما يستثيرهم ليس ما يقدَّم اليهم من مضامين معرفية تم التشريع لها والإقرار بأهميتها إليهم. ان ما يستثيرهم حقا هو البحث عن عوالم اخرى للذة قد تكون خارج وفي قطيعة مع مشروع التعلم.

تتكاثر هذه الوضعيات بشكل سريع في هذه الفترة وذلك لاعتبارات اجتماعية ونفسية بالأساس في اعتقادي. . اذ كيف يمكن أن يظل التلاميذ يعتقدون أنه “عليك أن تعمل لتكون ناجحًا” عندما يتقاضى من لم يستثمر جهده وطاقته وزمنيته في مشروع التعلم والنجاح المدرسي أكثر مما يتقاضاه الاستاذ والمعلم وعميد الجامعة وكثير ممن استثمر كل طاقاته واستنفذها في مشروع أن يكون متعلما. كيف يمكن للتلميذ أن يعتقد في “عليك أن تعمل لتكون ناجحا” وهو يعرف أن السذج هم الابطال الذين تتسارع إليهم وسائل الإعلام والمجلات وهم أصحاب السلطة والمال والاعمال والآمال. كيف يمكن للتعلم ان يكون من القيم التي يستثمر لأجلها الأطفال طاقاتهم الانفعالية والذهنية والاجتماعية والحال انه قد يقود غالبا الى بطالة دائمة ووعي زائف وشخصية انفصامية. فعلا هل يمكن أن نتعلم ضمن بيئة لا يشكل فيها التعلم قيمة اجتماعية أو لا يمثل فيها النجاح المدرسي شرط إمكان النجاح الاجتماعي؟

*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 جوان 2024


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING