الشارع المغاربي – أستاذ علوم الميديا والاتصال الصادق الحمامي: النظام الإعلامي معطل وعاجز عن أداء وظائفه السياسية والتلفزيون التونسي لا يشبه التونسيون

أستاذ علوم الميديا والاتصال الصادق الحمامي: النظام الإعلامي معطل وعاجز عن أداء وظائفه السياسية والتلفزيون التونسي لا يشبه التونسيون

قسم الأخبار

22 أكتوبر، 2022

الشارع المغاربي-حاورته عواطف البلدي:الصادق الحمامي أستاذ التعليم العالي في معهد الصحافة،  نشر عدّة مؤلفات فردية ومنها “ديمقراطية مشهدية، الميديا والاتصال والسياسة في تونس”، والميديا الجديدة” و”الإعلام التونسي، أفق جديد”. وهو عضو هيئة تحرير المجلة التونسية للعلوم السياسية .كما شارك في عديد الكتب الجماعية نشرت في تونس وخارجها. 

“الشارع المغاربي” التقت الحمامي للحديث عن جديده “ديمقراطية مشهدية..” الصادر عن دار “محمد علي الحامي” للنشر وللخوض في تفاصيل السياسة والاعلام في تونس اليوم…

طرحت سؤال ” كيف أصبحت الديمقراطية التونسية مشهدية؟ “في الفصل الثامن من كتابك وهو الفصل الأخير والملخص تقريبا لما جاء فيه. لو نعيد عليك طرح السؤال اليوم بعد أشهر من صدور الكتاب كيف ستجيب؟

 نعم هذا السؤال طرحته كعنوان للفصل الأخير الذي سعيت فيه أن أفهم بعدا أساسيا من أبعاد الحياة السياسية في العقد الأخير ألا وهو تعاظم دور الاتصال السياسي في الحياة العامة.

الديمقراطية لا يمكن فهمها فقط انطلاقا من المدخل المؤسسي.  في العشرية الأخيرة كان هناك إفراط في التركيز على المدخل الدستوري والمؤسسي. فترسّخ الاعتقاد أن أزمة الانتقال السياسي والديمقراطية مرتبطة فقط بالدستور. الديمقراطية نظام سياسي يقتضي المشاركة السياسية في كنف المساواة التامة للمواطنين. يختار المواطنون بشكل دوري من يمثلهم للتشريع باسمهم ومن يدير الشأن العام وفق برنامج عرضهم عليهم.  وعملية المشاركة هذه في الحقيقة تقوم على الرأي وفي النهاية التصويت هو تعبير عن رأي. ثم بين انتخابات وأخرى يعبر المواطنون عن آرائهم إزاء السلطة بواسطة الرأي الذي يعبرون عنه في المجال العام أو عبر الصحافة أو في الشارع بالتظاهر. 

الديمقراطية تقتضي إذا وجود رأي عام يمكن أن يتشكل بحريّة لتقييم السلطة السياسية وأيضا مجال عام يعبّر فيه الناس عن آرائهم لكن أيضا يتعرضون فيه للآراء الأخرى. الديمقراطية تفترض أن المواطن قادر على أن يطلق أحكاما مستقلة على الحياة السياسية وأحداثها والفاعلين فيها.الموضوع الذي شغلني هو  ماذا فعلت النخب السياسية بهذا الرأي العام وكيف اشتغل هذا المجال العام  وما هي تحولات  مجالات الصحافة والميديا واتصال السياسي. 

إذا ما هي خصائص هذه المشهدية التي تتسم بها الديمقراطية التونسية؟

كما قلت تقييم الحياة السياسية والديمقراطية لا يجب أن يقتصر فقط على المؤسسات. المدخل الدستوري خلق لدى الناس اعتقاد أن كل مآسي البلاد مرتبط بالدستور وبأن تغيير الدستور هو كفيل بتطوير الديمقراطية وبحمايتها.   

في العشرية الأخيرة كانت النخب السياسية الجديدة منشغلة بالسياسة بما أنه مجال التنافس على السلطة والمحافظة فأهملت السياسات. والصراع على السلطة أصبح بعد 2011 يقوم على استغلال كل أنواع الاتصال السياسي بشكل فيه الكثير من المغالاة والإفراط. السياسيون الجدد أصبحوا مهووسين بالظهور وبالصورة. والمشهدية تحيل على هذه المغالاة في استخدام الاتصال السياسي وعلى أدوار التلفزيون على وجه الخصوص في مشهدة السياسة وتحويلها إلى حلبة مثيرة يتصارع فيها السياسيون على استقطاب مشاعر المواطنين.

المشهدية هي إذا أن السياسة أصبحت بالنسبة إلى  الرأي العام مشهدا وفي تحويل المواطنين إلى مشاهدين في حين أنها كانت يمكن أن تكون شأنا عاما يشارك فيها التونسيون بطرق مختلفة. بهذا الشكل اختطف السياسيون السياسة وهذا ما قد يفسر عزوف التونسيين عنها.

من جهة أخرى، فإن مفهوم الديمقراطية المشهدية هو تطويع للسياق التونسي لمفاهيم من العلوم السياسية. حاولت الاستناد هنا إلى مفهوم “ديمقراطية الجمهور” الذي وضعه الباحث الفرنسي بارنار مانان لفهم العلاقة بين السياسة والاتصال. هذا المفهوم وجدته متطابقا إلى حد كبير مع خصائص الديمقراطية التونسية وطابعها المشهدي والذي يتمثّل حسب رأيي في شخصنة السياسة وتراجع الأحزاب لصالح الشخصيات السياسية والمكانة الأساسية التي تحتلها هذه الشخصيات السياسية في الأحزاب وخارجها حتى أن بعض الأحزاب يمكن أن نسميها أحزابا شخصية. المشهدية تتمثل أيضا في تقييم الناس الشخصيات السياسية على أساس  المؤهلات الاتصالية والخطابية، تراجع البرامج لصالح المشاعر السياسية وخاصة أدوار الإعلام في انتقاء النخب السياسية وعرضها على التونسيين.

الدور الثاني للانتخابات الرئاسية لـ 2019 جسّد بشكل كامل الديمقراطية المشهدية بصعود شخصيتين استثمرتا بشكل كبير في الصورة بوسائط مختلفة، صورة الرجل النزيه والنظيف من جهة أولى وصورة نصير الفقراء من جهة ثانية.

هل أن المشهدية مازالت متواصلة؟ 

نعم أعتقد أن الطابع المشهدي لا يزال ملازما للطابع السياسي رغم التغييرات التي طرأت عليها بسبب القانون الانتخابي الجديد.

هناك شخصيات سياسية جديدة مساندة للرئيس ظهرت بفضل حضورها في التلفزيون والإذاعة أي ليس بفضل الأدوات السياسية التقليدية على غرار الأحزاب لأن عملها السياسي لا يقوم على البرامج بل على حاجة الإعلام إليها وأيضا على قدرتها على عرض نفسها على الإعلام. اذا الاعلام ما يزال قادرا على أن يكون آلية للنفاذ إلى الحقل السياسي. 

هناك شخصيات سياسية نفذت إلى الحقل السياسي بفضل رأسمالها الإعلامي أي بتعبير أخر بفضل ظهورها الإعلامي الذي حوّلته إلى موارد تمارس بفضلها السياسة.

 الاتصال الرئاسي رغم أنه يتجاهل الصحافة لكنه يعتمد على أسلوب مشهدي في الميديا الاجتماعية للتأثير في الرأي العام. ثم أن الكثير من الشخصيات الحزبية ما تزال تستثمر في الاتصال الرقمي وفق منطق الحملة الدائمة.

بشكل عام الدستور الجديد وقانون الانتخابات لن يقطعا مع شخصنة السياسة بل إن مكانة الصورة كمعيار لتقييم الشخصيات  في الحياة السياسية ستتعزز في المستقبل.

إذا إلى أي مدى تعتقد أن شخصية المترشحين أضحت تؤدي دورا أساسيا في تغيير السلوك الانتخابي وإلى أي مدى غيّرت شخصية قيس سعيد هذا السلوك؟ وهل سيتمكن من تغيير السلوك الانتخابي في المرحلة القادمة (الانتخابات التشريعية) نموذجا؟

التونسيون الذين انتخبوا الرئيس يعتقدون بلا أدنى شك وبشكل صادق أنه يختلف عن النخب السياسية وهو يتمايز عنهم بخصال إنسانية وأخلاقية تجعل منه مؤهلا لتحمل أمانة الرئاسة.  

لكن الرأي العام والناخبين في تونس متقلب ومتغير. وقد رأينا أن التونسيين غيروا مواقفهم بشكل مستمر بسبب أن الأحزاب خانت التزاماتها على غرار ما حصل بالنسبة إلى نداء تونس أو بالنسبة لحركة النهضة التي انشغلت بشكل انتهازي بالبقاء في السلطة. وهذا التقلّب متّصل حسب رأيي  في جزء منه بقدرة الفاعلين السياسيين على توظيف الصحافة والإعلام والشبكات الاجتماعية على التضليل المعلوماتي ونشر الأخبار الزائفة.   لكن أريد أن أشير هنا على أن الدراسات والبحوث الميدانية عن السلوك الانتخابي نادرة دائما إن لم تكن غائبة تماما. 

  لكن في النهاية فإن التونسيين سيقيّمون السياسيين على قدرتهم على الالتزام بوعودهم. فالحقد الذي يشعر به التونسيون إزاء النخب السياسية التي حكمت البلاد قبل 25 جويلية مرتبط بأوضاعهم الاجتماعية وسيقيمون الحكم الجديد وفق هذا المعيار الأساسي.  الاتصال السياسي له حدود وتقنيات التأثير لا يمكن أن تكون صالحة دائما.  الأحزاب التي حكمت البلاد قبل 25 جويلية النهضة ونداء تونس وتحيا تونس وظفت الصحافة والإعلام وموارد رهيبة في الاتصال السياسي ورغم ذلك فإن صورتها تهاوت لدى الرأي العام. 

كيف للديمقراطية العاطفية أن تساهم في تأنيث السياسة والديمقراطية لو تشرح لنا هذه الفكرة؟

الديمقراطية العاطفية تحيل إلى تنامي المشاعر في الحياة السياسية وهو يرمي إلى الكشف على أن السياسة لم تعد تستدعي فقط الحجج العقلانية أو الأيديولوجية المحضة.  هناك باحثون أشاروا إلى أن تنامي المشاعر في الحياة السياسية يعني أيضا أن السياسيين لا يترددون في استخدام الجوانب الذاتية. والسياسة في  المجتمعات الديمقراطية لم تعد لعبة رجالية صدامية وحربية.

تعرضت في كتابك إلى أنواع الديمقراطيات ومفاهيمها فأي نوع منها نعيش اليوم إعلاميا وسياسيا؟

الديمقراطية ومهما كان شكل المشاركة السياسية التي تعتمد عليها، فإنها تقتضي دائما نظاما إعلاميا قويا وشفافا ومتنوعا يوفر للمواطنين المعلومات والحقائق الموضوعية والمعارف والمعلومات المؤكدة التي تؤهل المواطن لهذه المشاركة السياسية.

أعتقد أنه يجب أن نتوقف عن التصور البسيط للصحافة باعتبارها مجرد وسيلة لنقل المعلومات بل هي في الحقيقة الآلية الأساسية التي تسمح للمواطنين بإدراك الحياة السياسية.

هذا النظام الإعلامي اليوم في تونس مريض ومعطل وغير قادر على أداء وظائفه السياسية. والنخب السياسية إما أنها سعت الى التلاعب به لتحقيق أغراضها في الاتصال السياسي أو أنها أهملته حتى أنه أصبح اليوم بنيانا آيل للاندثار وفي حالة تفكك متقدمة. أنظري مثلا إلى حالة الصحافة المكتوبة التي تكاد تندثر.

هل يمكن للديمقراطية خاصة أن تقوم دون مرفق عمومي قوي وهل يمكن أن نتحدث عن حياة سياسية وعن رأي عام سياسي دون صحافة رأي متنوعة. الإعلام الخاص اليوم في أغلبه إعلام ترفيهي تخلى عن وظائفه السياسية بسبب عجز الهيئة التعديلية على أداء أدوارها حتى يحترم هذا الاعلام الخاص الالتزامات التي تحصل بفضلها على إجازة البث.

هل نحن أمام حكم تمثيلي أم حكم شعبي؟

الديمقراطية كما تمارس اليوم هي في الأصل نشأت في القرن الثامن عشر باعتبارها حكما تمثيليا تقوم على أن المواطنين يفوضون إدارة الشأن العام والتشريع الى نخب تمثلهم. إذا الديمقراطية تقوم في جوهرها على الوسائط. القول إن الديمقراطية يمكن أن تكون مباشرة في المجتمعات الجماهيرية الحالية لا أساس نظري له. يمكن الاعتماد على أساليب تعزز المشاركة  المباشرة للمواطن كالاستفتاءات  المحلية أو  الوطنية…. 

الإستراتيجية السياسية الشعبوية تتمثل في الإيهام بأن الشعب يمكن أن يمارس السلطة دون ممثلين ودون وسائط، بالادعاء بأن هذه النخب فاسدة وتعمل ضد مصالح الشعب. أو أن يدعي الفاعل السياسي الشعبوي أنه يحقق سيادة الشعب على نفسه وعلى تحقيق مصالح الشعب. الفاعل الشعبوي  ينكر  التنوع السياسي وتعدد  الفئات الاجتماعية ومصالحها المصالح في كل الأحوال منذ 2011.

الشعبوية ليست سوى أسلوبا في الاتصال السياسي أي أسلوبا في شرعنة الذات وفي نزع الشرعية على المنافسين السياسيين. ولعل ما هو خطير في الخطابات السياسية الشعبوية منذ 2011، أنها تغذي الاستقطاب السياسي وتحول المنافسين إلى أعداء.

هل فقدت الأحزاب السياسية أدوارها بعد 25 جويلية 2021 ؟

في الحقيقة منذ 2011 لم تكن الأحزاب السياسية قادرة على أداء أدوارها في تنظيم المواطنين وفي بلورة البرامج السياسية وفي إقناع التونسيين ببرامجها في السياسات العمومية. كل الأحزاب السياسية كانت تستغل كماكينات انتخابية تعمل على تحقيق الطموحات السياسية الانتخابية لزعمائها. 

ورغم هذا فإن بعض الأحزاب لم تفقد أدوراها. هناك أحزاب تمثل اليوم فئات من التونسيين الذين يمارسون السياسة في إطارها داخل بعض الأحزاب فهناك تونسيون، حتى وإن كانوا قلة، يفكرون في الشأن العام ويتصورون حلول لقضايا المجتمع.

المشكل في المقابل أن الأحزاب التي حكمت البلاد بشكل مباشر أو غير مباشر لا نراها تمارس النقد الذاتي والتقييم  الذاتي بل هي تروج إلى إنها براء مما حصل للانتقال السياسي من خيبات وانحرافات  وإخفاقات. في مجال الإعلام مثلا، أمراض النظام الإعلامي والحالة التي هي عليه الآن هي بسبب السياسات التي اتبعتها الأحزاب التي حكمت البلاد منذ   2011 ولا بد من التذكير أيضا أن الشعبوية  تزدهر عندما تمرض الديمقراطية وهذا ما حصل بالضبط في تونس.  

أعلنت أيضا عن أفول وموت البرامج السياسية وتراجع دورها وأهميتها لو توضح هذه الفكرة؟

لا أنا لم أعلن عن موت البرامج السياسية. الفكرة التي حاولت البحث فيها هي تراجع مكانة البرامج السياسية والانتخابية لصالح الشخصيات السياسية. وهذا له علاقة بما كنت أقوله عن شخصنة السياسة التي ستعمق بشكل كبير وطريف.  الدستور الجديد يعطي مكانة أساسية للرئيس  وهو بذلك  سيدفع الناخبين للاختيار بالاعتماد على الخصال الشخصية للمترشحين وعلى صفاتهم الشخصية وعلى الصورة التي ستتجلى عنهم وليس على الأفكار والبرامج والسياسات. وفي الانتخابات التشريعية فإن القانون الانتخابي سيعزز مكانة الشخصيات المحلية ذات الإشعاع المحلي والمترشحون بالتأكيد لن يتمايزوا عن بعضهم البعض بالبرامج.   

وماذا عن دور النخبة هل غابت هي أيضا؟ وكيف السبيل لعودتها إلى المشهد؟

إذا كنت تتحدثين عن النخب غير السياسية، أعتقد أن هذا الدور في العشرية الأخيرة متصل بتحولات البيئة الاتصالية.  اليوم  إبداء الرأي والتعبير عن المواقف والدفاع عن قضايا مجتمعية مخصوصة وتمثيل المجتمع وهي الأدوار التقليدية التي يؤديها المثقفون اختطفتها  فئات أخرى أصبحت قادرة على أداء أدوار التأثير على غرار الكرونيكور الذي يحظى بالظهور اليومي ومخاطبة الرأي العام. ثم إن هذه الأدوار التي تقوم بها هذه النخب متصلة أيضا بتراجع الصحافة المكتوبة ومكانة الكتاب في المجتمع.  البيئة الرقمية ساهمت في تقويض الأسس التي كانت تقوم عليها سلطة المثقف.

ثم لا يجب أن ننسى أن النموذج الترفيهي الذي يخضع له الإعلام التلفزيوني لا يحبذ النقاش الفكري والبرامج  الثقافية ويفضل التسويق لنماذج جديدة مستمدة من البيئة الرقمية من الـ”تيك توك” ومن الـ”إنستغرام”… 

وماذا عن دور الإعلام اليوم؟

     أنا أتعامل بشكل حذر مع مصطلح الإعلام. ماذا نقصد بالإعلام هل يشمل الصحافة أو البرامج الترفيهية التي بين المادة الإخبارية والمادة الترفيهية…. إذا كان المقصود بالصحافة فأني أرى أن دور الصحافة يتراجع بشكل كبير جدا. الصحافة الإخبارية المهنية لا تتوفر لديها الشروط لممارسة أدوارها بشكل كامل.

الصحفيون بالمعنى الحصري للكلمة خسروا مكانتهم لصالح فاعلين جديد، دخلاء  يمارسون السياسة باسم الإعلام ويدافعون عن مؤسسات سياسية وأحزاب ونقابات بل وعن مصالح دول أجنبية  باسم صحافة الرأي. اليوم الاتصال السياسي يمارس بشكل مقنع على أنه صحافة سياسية.

في الديمقراطية الدور الحقيقي الذي يجب أن تقوم به الصحافة هو مسائلة السلطة السياسية. هذا الدور تمارسه الصحافة بواسطة الاستقصاء الذي يحتاج بدوره إلى موارد وإمكانات…..  وعادة ما يمارسه كذلك التلفزيون العمومي. لكن نحن نعلم اليوم أن إصلاح الإعلام ليس من أوليات استراتيجية الحكومة، بل إن استراتيجيتها في هذا المجال تتمثل في ترك مؤسسات الإعلام العمومي تتهاوى. وأنا أتساءل ما هي مكانة الإعلام في الجمهورية الجديدة. النقابات تتحدث اليوم عن تصفية الإعلام العمومي، أعتقد أنها محقة في ذلك.  في هذا المستوى بالذات هناك سمة مشتركة بين الحكومة الحالية والحكومات  السابقة وهي عدم إصلاح الإعلام…. والسؤال كيف يمكن لديمقراطية حقيقية وأصيلة أن تقوم كما قلت ذلك دون مرفق عمومي إعلامي متطور متنوع المضامين يقوم بإخبار التونسيين بشكل مهني جيد. 

هل أفل دور الصحفي “الرحالة” في الصحافة التعبيرية وكيف السبيل لرد الاعتبار له؟

 الصحافة التعبيرية مفهوم  مستمد من الأدبيات النظرية عن الصحافة. وهو نوع من الصحافة يمزج  بشكل عجيب بين المعايير الصحفية والمهنية وبين المشاعر والانطباعات والآراء؟ وهذا النوع من الصحافة نجده اليوم سائدا في الكثير من البرامج الإخبارية حيث يتحرّر ما يسمّى الكرونيكور من الإكراهات الأخلاقية والمعيارية للصحافة. بعض البرامج الإذاعية والتلفزيونية تتحول إلى جلسات بين أصدقاء يتجاذبون أطراف الحديث. 

هذه البرامج التي هي خليط من الآراء والمعطيات والمسار والانطباعات وحتى أحيانا الأكاذيب تساهم في تشكل رأي عام انفعالي وعاطفي ومستقطب إيديولوجيا وسياسيا وغير منحاز للحقيقة.  كما أنها ساهمت بشكل كبير، حسب رأيي، في غضب التونسيين على الصحافة بما أنها مهنة تخلت عن أخلاقياتها. 

تحدثت أيضا عن نهاية وإضعاف معايير الكتابة صحفية التقليدية لو تقدم لنا أمثلة على ذلك؟

في أحيان كثيرة عملية إبداء الرأي في القضايا السياسية لا تخضع إلى المعايير المهنية  رغم أن إبداء الرأي في الصحافة يجب أن ينطلق من الوقائع الصحيحة وليس من التخمينات   والانطباعات. وهذه الأساليب اليوم السائدة في الصحافة السياسية غايتها تضليل الرأي العام والتلاعب به. 

بعض البرامج ما تزال تشهد أنواع من  العراك  مضحكة…. عندما تصبح قناة تلفزيونية امتدادا لحزب سياسي وتتحول فيها البرامج إلى غرف صدى تعبر عن رأي واحد، معنى هذا أن هناك استراتيجيات إرادية  لتخريب  النقاش العام . 

اي من القنوات التلفزية والإذاعية  تلتزم الحياد اليوم أكثر من غيرها سياسيا طبعا ؟

 أنا لا أشاهد كل القنوات التلفزيونية باستمرار ولا أستمع إلى كل الإذاعات. من المفترض أن الهايكا تصدر تقارير  رصد بشكل مستمر  ولكنها لا تفعل ذلك لأسباب غير معلومة. بشكل عام اليوم نلاحظ أن البرامج الإخبارية التي تقوم على التنوع نادرة جدا. هناك العديد من البرامج تقوم كما قلت على مبدأ غرف الصدى، نجد فيها رأيا واحدا مساندا للرئيس أو معاديا له. وهذا لا يخدم مصلحة التونسيين في الإطلاع على النقاش المتنوع. 

أخيرا ونحن على أبواب انتخابات تشريعية كيف للصحافة ان تساعد الناخبين ام انها فقدت هذا الدور أيضا؟

الصحافة اليوم كما قلت لا تتوفر لديها الموارد التي تسمح لها بأداء أدوراها. ولا يبدو أن السلطات العمومية منشغلة ببناء نظام إعلامي ديمقراطي في خدمة حق التونسيين في الحقيقة. ومقاطعة أغلب الأحزاب سيزيد الأمر تعقيدا وسيعزز عزوف التونسيين عن السياسية. 

تغطية الانتخابات لا تقتصر في مقال البرامج والتعريف بالناخبين.  الصحافة يجب  أن تدير النقاش العام وتنجز التحقيقات والريبورتاجات وإلا تصبح امتداد للاتصال السياسي للمترشحين… 

أية لعنة حلّت بالتلفزيون التونسي حثي يصبح رديئا  ويزداد كل يوم رداءة؟

يجب أن نعرف ما هي الرداءة التلفزيونية. هي هيمنة نموذج من البرمجة قائم على الترفيه وعلى المضامين المنمطة. الغالبية العظمي للقنوات التلفزيونية لا تحترم مبدأ التنوع في البرامج وتكاد تصبح محلات تجارية وفضاءات للدردشة والنكت. وهذا مرتبط ارتباطا وثيقا بفشل التعديل في تونس. من الواضح أن عدد القنوات الإذاعية التلفزيونية لا يتلاءم مع  السوق الإشهارية، إضافة إلى قصور في الإبداع وخلل في اقتصاد التلفزيون. بعض القنوات التلفزيون لا تتوفر فيها الشروط الدنيا وتشغل بطريقة غريبة تكاد تكون مضحكة أحيانا…  الاستثمار في التلفزيون الخاص هو في الحقيقة معادلة دقيقة بين المصلحة التجارية واحترام حق الجمهور في برمجة متنوعة. القناة الفرنسية الخاصة   أم 6 تبث أقدم برنامج علمي. وهذا يفند بشكل صريح الإدعاءات التي تقول أن التلفزيون الخاص غير ملزم بالبرمجة الثقافية. المشكل أن  التجربة التونسية لم تفرز ثقافة تعديلية لدى مهنيي التلفزيون وهذا أمر  مؤسف حقيقة.

كيف تنظر الى الإعلام الثقافي في تونس اليوم؟

الإعلام الثقافي  يفترض صحافة قوية وإعلام قوي ومتنوع يمكن أن نجد فيه برامج ثقافية  حول الفنون التشكيلية والكتاب والسينما والمسرح والتراث. منظومة التعديل الحالية غير قادرة على ضمان هذا النوع من الإعلام في المشهد السمعي البصري. وأما الصحافة المكتوبة فهي تقريبا تحتضر كما قلت.  الفاعلون في المشهد السمعي البصري يروجون إلى أن الجمهور بطبيعته يفضل الرداءة. ومكاتب قيس الجمهور تقدم البرامج الرديئة على أنها برامج لها جمهور…. والجميع يريد أن يقنعنا أن الرداءة هي ما نستحق. في حين أن التلفزيون التونسي لا يشبه في الحقيقة التونسيين. 

 أعيد مرة أخرى ما قلت في مناسبات سابقة، نحتاج إلى تقييم شامل  للنظام الإعلامي وإخفاقاته المتعددة ونتائج ذلك الخطيرة على الحياة السياسية وعلى مجالات أخرى مثل الثقافة…. والباحثون لهم دور أساسي في إنجاز هذا التقييم الشامل.  

نشر بأبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 18 اكتوبر 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING