الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: عقب 2011 عرفت تونس طفرة في إنشاء الجمعيات، وناهز عددها سنة 2017 نحو 18 ألف جمعية، مما جعل مراقبة تمويلاتها أمرا صعبا حسب المتابعين إذ أصبحت البلاد ملاذًا حقيقيًا للأموال القذرة بسبب هشاشة وضعها الأمني بما يمنحها إفلاتًا معينًا من العقاب. وتصل في هذا الصدد سنويا مئات من الشكاوى والإعلامات إلى اللجنة التونسية للتحاليل المالية التابعة للبنك المركزي.
ويفرض القانون المنظم لنشاط الجمعيات والأحزاب السياسية على الجمعيات المستفيدة من المال العام رفع تقرير سنوي مفصّل لمحكمة المحاسبات حول تصرفها في مواردها ، غير أن عدد الجمعيات التي أودعت تقارير حول مداخيلها ومصاريفها لم يتعدّ 1500 جمعية من جملة أكثر 18 ألف جمعية.
أرقام مفزعة
أحصى مركز “إفادة” الخاص بالجمعيات نحو 18143 جمعية تنشط في تونس، لا تملك الجهات الرسمية أية قاعدة بيانات لها وتجهل حجم الموارد التي تنتفع بها ومصادر التمويل.
ويحق للدولة بموجب الدستور والقانون مراقبة الجمعيات المشتبه فيها وتجميد نشاطها. كما يجيز الدستور لرئيس الجمهورية اتخاذ تدابير استثنائية في حال وجود خطر داهم، فيما يسمح قانون الإرهاب ومنع غسل الأموال بملاحقة الجمعيات المشتبه في تمويلها وحلّها ومعاقبتها.
وحسب بيانات رسمية، فإن ثمانية آلاف جمعية فقط تمتلك ملفات جبائية وأنّ أكثر من 10 آلاف جمعية ليس لها ملف مالي أو جبائي.
الجمعيات واجهة لغسل الأموال
وصلت مئات التقارير عن الاشتباه إلى لجنة التحاليل المالية التونسية، وهي وحدة معلومات مالية يرأسها محافظ البنك المركزي وتضم أعضاء يمثلون دوائر الديوانة والشرطة وقضاة.
وتتولى الهيئة تقييم صحة الإفادات وإحالة الملف إلى النيابة العمومية لبدء التحقيقات اللازمة ورفع القضية إلى المحكمة المختصة.
وتجد تونس الآن نفسها من بين الدول الأكثر تضررًا من هذا النوع من الممارسات مع دول مثل سويسرا أو بلجيكا، حيث تظهر على التوالي في المرتبة الثانية والخامسة بين الدول التي يتم تحويل الأموال القذرة منها.
وللتذكير يتمثل غسل الأموال، وهو جزء من تقنيات الجريمة المالية في إخفاء مصدر الأموال المكتسبة بطريقة غير مشروعة. ولكن من يقول غسل الأموال، يقول بشكل تلقائي تهريب الأسلحة والمخدرات والاتجار بالبشر وتهريب السلع والفساد وبالطبع تمويل الإرهاب.
لا ينفي المسؤولون من جهتهم استخدام الأموال القذرة لتمويل جمعيات، وحتى أحزاب من مصادر غامضة ومريبة. في الواقع، تنفق بعض الجمعيات والأحزاب مبالغ طائلة على حملاتها واجتماعاتها بجميع أنواعها. ولبعض الجمعيات المثيرة للجدل مصادر تمويل لا تزال مجهولة.
لكن غسل الأموال عملية معقدة للغاية. فبينما تملك البنوك آليات لمكافحة غسل الأموال تمكنها من التحقق من أصل وهوية الشخص الذي يقف وراء أي إدخال للعملة، فإن عمليات غسل الأموال الداخلية أو تلك التي لا تمر عبر الشبكة البنكية تفلت من السيطرة.
وقد يصبح الوضع الاقتصادي والمالي أقل جاذبية للمستثمرين الأجانب أمام انتشار مثل هذه الممارسات. علاوة على ذلك وفي ظل التضخم المتسارع يمكن لدخول العملات الأجنبية غير المسجلة في البنك المركزي، أو جمع الأموال الداخلية، غير المصرح بها، أن يساهم بشكل كبير في زيادة هذا التضخم. عملية يمكن أن تؤثر أيضًا على سيولة البنوك أو تتسبب حتى في انخفاض أسعار الأسهم، عندما يتم تحويلها إلى سوق الأوراق المالية وسحبها فجأة.
منذ سنوات، تتواتر عمليات ضبط منتظمة لأسلحة وكميات من المخدرات ومبالغ مالية كبيرة بالعملة الأجنبية في العديد من المدن التونسية، بعضها على الحدود مع ليبيا، وهو ما يفسر مصدر الأموال، لكن لا توجد معركة حقيقية ضد غسل الأموال دون مكافحة مصادر تمويله والجرائم ذات الصلة.
لجنة التحاليل المالية على الخط
أكدت لجنة التحاليل المالية بالبنك المركزي في 2022، أنه تمت إحالة ملفات 36 جمعية على القضاء بشبهة تمويل الإرهاب وفساد مالي واستيلاء مسيرين على أموال جمعيات علما أن التصاريح المالية المتعلقة بهذه الجمعيات تناهز 35 مليون دينار. وتعمل الجمعيات المورطة في تمويل الإرهاب والفساد المالي تحت غطاء العمل الخيري أو الاجتماعي. وهي ليست المرة الأولى التي يتم فيها اتخاذ قرار بالإحالة على القضاء أو بتجميد ممتلكات مشبوهة. ففي ديسمبر 2020 أعلن البنك المركزي التونسي عن قيامه بتجميد ما يقارب 31.5 مليون دولار في إطار إجراءات تحفّظ تتعلق بمكافحة تمويل الإرهاب وغسل الأموال… بالإضافة إلى إحالة عدد من الملفات المتعلقة بعدد من الجمعيات إلى القضاء.
تمويل الإرهاب والأحزاب
أعلنت وزارة حقوق الإنسان والعلاقة مع الهيئات الدستورية في جويلية 2020 عن رفع قضايا بـ 435 جمعية تورطت في تمويل الإرهاب أو تبييض الأموال اضافة الى حل 42 جمعية. كما أشارت الوزارة وقتها إلى أنه توازيا مع شروعها في إجراءات حلّ ثمانية أحزاب لم تقدم تقاريرها المالية تم توجيه تنبيه إلى 147 حزبا آخر. وخلال عامي 2018 و2019 من بين 1245 ملفا تمت معالجتها أحالت اللجنة الوطنية للتحاليل المالية التابعة للبنك المركزي للجهات القضائية المختصة 710 ملفات تتعلق بشبهات تمويل الإرهاب وغسل الأموال.
غير أن القضاء لم يبت بعد في أغلب هذه الملفات. كما لم تنشر وزارة العلاقة مع الهيئات الدستورية التي تم إلغاؤها في الحكومة الحالية قائمة الجمعيات التي تم حلها علما أنّ نفس الوزارة أرسلت تنبيها لـ 174 حزبا بعد أن تبين لها أنه يوجد 40 حزبا فقط ينشط فعليا من بين 220 حزبا في سنة 2020.
القائمة السوداء
في سنة 2017 تم تصنيف تونس في القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي الدولية وهي منظمة حكومية دولية وتهدف لمحاربة تزوير العملات وتمويل الإرهاب. واعتبرت المنظمة تونس من الدول التي تمثل ملاذا ضريبيا آمنا أو ما يسمى بـ “جنة ضريبية”. ثم عادت ورفعت تونس من القائمة السوداء في أكتوبر 2019 معتبرة أن الحكومة التونسية أوفت بالتزاماتها في ما يتعلق بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. إلا أن المخاطر لم تختف بعد حيث ما زالت لجنة التحاليل المالية ترصد تسرّب أموال طائلة بهدف تمويل الإرهاب أو غسل الأموال رغم كل آليات الرقابة الصارمة التي اعتمدتها تونس.
ورغم صرامة الإطار التشريعي لجريمة تمويل الإرهاب سواء باعتماد اتفاقية الأمم المتحدة التي وقعت عليها تونس والتزمت بتطبيقها أو باعتماد قانون مكافحة الإرهاب وغسل الأموال، فإن كل المؤشرات تشير إلى أن هذه الجريمة بالإضافة إلى جريمة غسل الأموال ما زالت تسجّل نسبا مرتفعة وخطيرة خاصة بعد تورط جمعيات تنشط تحت غطاء العمل الخيري أو الاجتماعي والتي تجمع التبرعات وتتلقى الهبات من الداخل والخارج.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 4 افريل 2023