الشارع المغاربي – الحرب‭ ‬بين‭ ‬السلطتين‭ ‬القضائية‭ ‬والتنفيذية‭ ..‬الحل‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬شعار‭ ‬واحد‭ :‬ ‮«‬من‭ ‬أين‭ ‬لك‭ ‬هذا‭ ‬؟‮»‬

الحرب‭ ‬بين‭ ‬السلطتين‭ ‬القضائية‭ ‬والتنفيذية‭ ..‬الحل‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬شعار‭ ‬واحد‭ :‬ ‮«‬من‭ ‬أين‭ ‬لك‭ ‬هذا‭ ‬؟‮»‬

قسم الأخبار

26 أغسطس، 2022

الشارع المغاربي-العربي الوسلاتي: معركة كسر العظام بين رئيس الجمهورية ووزيرة عدله من جهة وبين الأسرة القضائية وخاصة القضاة المعزولين من جهة ثانية مازالت متواصلة وبأكثر ضراوة من ذي قبل. بل يمكن القول إن الحرب القانونية الدائرة بينهما توشك على الدخول في منعرجات خطيرة قد تحيد بالصراع عن مسالك القراءات والتأويلات القانونية وترمي به في مربّع التشفّي والانتقام والحسابات السياسية الضيقة.

قبل تعقّب المآلات المرتقبة والآثار القانونية والسياسية المتوقّعة لهذه المعركة وجب التذكير أوّلا بأصل الخلاف وبمراحل تطوراته بدءا بقرار العزل الصادر عن رئيس الجمهورية مرورا بطعن القضاء المعنيين بهذا القرار وصولا الى تدخّل النيابة العمومية التي قيل على لسان وزيرة العدل إنها تعهدّت بـ 109 ملفات للقضاة المعزولين.

نقطة تحوّل

البداية كانت بإصدار رئيس الجمهورية قيس سعيد أمرا رئاسيا بالرائد الرسمي يقضي بإعفاء 57 قاضيا من مهامهم قال سعيد إن بعضهم متورّط في فساد مالي وتزوير أوراق رسمية والتستّر على مورّطين في الإرهاب وحماية مسؤولين سياسيين وحزبيين من المحاسبة ومنع إجراء تحقيقات أمنية في قضايا إرهابية بالإضافة إلى قضايا أخلاقية وتأديبية. وقد برّر رئيس الجهورية خطوته تلك بقوله إنه “تم النظر في كل الملفات والتدقيق والتمحيص لأسابيع طويلة حتى لا يُظلم أحد، وثبت ارتكاب عدد من القضاة لتجاوزات جسيمة وإخلالات تهدّد المصالح العليا للبلاد”.

خطوة اعتبرها البعض إجراء خطيرا يهدف الى تطويع السلطة القضائية واستعمالها من أجل تصفية حسابات سياسية وإيذانا بدفع البلاد نحو المواجهة بين الدولة وبين الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية والوطنية وهدما لما تبقى من صرح الديمقراطية.

من جانبها أكّدت جمعية القضاة التونسيين في أوّل تحرّك لها أنّ هذا القرار يعدّ تعديا واضحا وفادحا لرئيس الجمهورية في ما هو موكول للسلطة القضائية وما يمثّل من انتهاك لكل المبادئ المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق الدولية من حق الدفاع ومبدأ المواجهة وقرينة البراءة. وأكدّت الجمعية أن “إطلاق يد رئيس الجمهورية في إعفاء القضاة وبناءً على سلطته التقديرية وما توفر له من تقارير سرية مجهولة المصدر وغير معلومة بالنسبة للمعنيين بها هيَّأ مناخا من الترهيب والترويع لعموم القضاة من دون استثناء وألغى كل مظاهر استقلال السلطة القضائية وضمانات استقلال القاضي”.

انتصار للحق

في الأثناء وفي خطوة زادت من اتساع رقعة الخلاف بين الطرفين أعلنت المحكمة الادارية   بتاريخ 9 أوت الجاري انه “تمّ الإذن بإيقاف تنفيذ قرارات الإعفاء في عدد من المطالب المرفوعة بشأنها في حين تمّ رفض مطالب أخرى.” ولم تكشف المحكمة عن عدد قرارات ايقاف التنفيذ فيما اكدت هيئة الدفاع عن القضاة المعزولين ان 47 قاضيا معزولا شملتهم قرارات ايقاف التنفيذ.

قرار المحكمة الإدارية اعتبره البعض انتصارا للحق وللقانون داعين الى إقالة وزيرة العدل. غير أن تفاعل الوزارة مع هذا القرار كان مغايرا تماما لكل التوقعات خاصة بعد حفل الانتصار البهيج الذي أقامه القضاة الذين أنصفتهم المحكمة والذي علت فيه الشماريخ والأهازيج فضاء نادي القضاة بسكرة في استفزاز واضح وصريح لرئيس الجمهورية حيث أعلنت وزارة العدل يوم السبت الماضي أنه “تمت اثارة التتبعات الجزائية ضد القضاة المعفيين” مشيرة الى ان ” النيابة العمومية المختصة تعهدت بـ 109 ملفات” والى انها “اذنت بإحالة عدد هام منها على الاقطاب القضائية المختصة في الجرائم الإرهابية والفساد المالي”. أكثر من ذلك وفي خطوة تصعيدية إضافية تشير بعض المصادر الى إمكانية رفع الحصانة عن رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمايدي بعد طلب تقدّمت به النيابة العمومية.

بين الموقفين الرسميين تصطف الآراء والمواقف المناصرة لهذا الطرف وذاك. وكل يستدل في ولائه ببعض التجارب والسوابق. فالداعمون لتمشي رئيس الجمهورية يعتقدون ايمانا راسخا بأنّ الجسم القضائي متعفّن في جانب كبير منه ووجب بتر بعضه لإنقاذ البقيّة. في حين يرى المعارضون لهذا الطرح أن المعركة ليست أخلاقية أو مبدئية مثلما يزعم البعض وإنما هي مجرّد تصفية حسابات سياسية بين الجانبين ومحاولة مكشوفة لتركيع القضاء وتطويقه وجرّه الى بيت الطاعة. وفي الحقيقة فإن تنافر الفكرتين وتضادهما يجعل من الاقرار بجديتهما ولو بنسب متفاوتة حقيقة لا مفرّ منها. فالقضاء يعاني منذ سنوات طويلة والحديث عن الفساد ليس بدعة اختلقها سعيد وأنصاره ومجرّد إلقاء نظرة صغيرة على المعركة التي اندلعت بالأمس القريب بين الطيب راشد والبشير العكرمي قد تكفي مؤونة التعليق. غير أن هذا الطرح لا ينفي بدوره وجود محاولات لوضع اليد تمارسها السلطة على أمل إخضاع القضاء الى مشيئتها. كما انه لا يحجب كذلك وجود عديد الخروقات والشؤائب التي رافقت ومازالت عملية التطهير المزعومة.

شعار واحد

في المعارك التي تقوم أساسا على محاربة النوايا والسرائر والتي تستمد وجودها عادة من فزّاعة الأخلاق تنتهى الخصومات في الأغلب بلا غالب ولا مغلوب. فالشرّ لا ينهزم ولا يستسلم بسهولة في حضرة الأخيار الاّ إذا تحالف الأخيار مع بعض الأشرار… ولهذا فإنّ رمي الناس بالتهم الجزاف دون أدلّة وبراهين ودون مرور بالمسالك القانونية اللازمة قد يؤتي نتجية عكسية ويوسّع رقعة الفساد وينتج مزيدا من المفسدين. وقد نتحوّل تدريجيا من منظومة الفساد والمفسدين الى منظومة الأكثر فسادا لأنّ المارقين على القوانين هم الأكثر فتكا وبطشا بالميثاق والأخلاق.

والحلّ لاستبيان الخيط الأبيض من الأسود في هذه المعركة المفصلية في تاريخ تونس الحديثة الباحثة عن موضع قدم في جمهورية الغد يمكن في تفعيل قانون بسيط قد يكون وقعه أشدّ تأثيرا وعدلا من كل المحاكم والدساتير. هذا القانون هو قانون من أين لك هذا الذي من المفروض أنه دخل حيّز التنفيذ منذ غرّة أكتوبر 2018… هذا القانون يهدف أساسا إلى دعم الشفافية وترسيخ مبادئ النزاهة والحياد والمساءلة ومكافحة الإثراء غير المشروع وحماية المال العام. وقد حدد فصله الخامس قائمة المعنيين بالتصريح بمكاسبهم ومصالحهم  والتى تهم 37 وظيفة وصفة في الدولة ومفاصلها الى جانب القيادات النقابية والأحزاب السياسية والصحفيين. ومن بين الوظائف المعنية بهذا القانون نجد القضاة الذين هم موضوع النقاش والجدال اليوم. وقانون من أين لك هذا هو في الأصل موروث شعبي متداول يتناقله العامة منذ القدم ولو بتوصيفات مغايرة والمراد به توجيه سهام الاستغراب نحو كل من تشوب حوله رائحة الثراء والاثراء المفاجئ. وهذا السؤال قد يكون في حدّ ذاته إجابة واضحة وصريحة لكل المسائل المعقدة التي تثار يوميا من حولنا. فمجرّد جمع بعض المعطيات الشخصية المتعلقة أساسا بالمكتسبات والعقارات والأموال التي تعود لشخص ما مع مقارنتها بمداخليه الرسمية والقانونية قد يعطينا صورة ضافية وشافية حول نظافة يديه ورائحة أمواله. فلا يعقل أن يكون قاض شريف يتقاضى جراية شهرية تفوق بقليل 3 ألاف دينار ويملك فيلا بـ3 مليارات إلاّ إذا كان له ما يبرّره مصدر ثروته. من هذا المنطلق يسهل علينا جميعا حصر شبهة الفساد والمفسدين وملاحقتهم جميعا وطالما أنّ المسائلة الشعبية هي أساس المحاكمة العادلة اليوم فلا حرج من كشف ممتلكات القضاة المعزولين للتعرّف على حقيقة ثرواتهم ومقارنتها بوضعيتهم المالية القانونية ووقتها سيكون من اليسير علينا نصرة المظلوم على حساب الظالم فإما أن يكون “اجتهاد” رئيس الجمهورية في محله أو ينال القضاة بعضهم أو جميهم صكّ البراءة الشعبية فلا يكون بعدها لمزاعم وتهم رئيس الجمهورية أيّ قيمة أخلاقية أو شعبية.

نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 23 اوت 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING