الشارع المغاربي-بقلم الدكتور لطفي الشايبي : دعت منظمتات عن المجتمع المدني إلى مراجعة جادة لتاريخ الحركة الوطنية التونسية تدقيقا لمقاصدها وتعريفا بمفاهيمها ورصدا لأعدائها وتصنيفا لمصادرها وطرق عملها وتعريفا مثبتا لرجالاتها وكشفا عن وثائقها. والمسألة ليست بهيّنة بل ازدادت صعوبة وتعقيدا في الوقت الذي تم استبدال اسم المعهد العالي لتاريخ الحركة الوطنية بالمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر إثر ثورة 14 جانفي 2011 . وكأن دراسة الحركة الوطنية اكتملت وكشفت عن كل مكوناتها انطلاقا من الحدث / الصدمة للاستعمار وتبعاته ووصولا إلى قضايا الهوية والحداثة والاستقلال والتبعية لفترة ما بعد الاستعمار. ويكفي الإشارة إلى الوثيقة المنشورة جانبا والتي تفصح على مسألة في غاية من الدقّة – أن إمضاء الاتفاقيات التونسية الفرنسية من قبل الباي (جوان 1955) حصل نتيجة إرتشائه أي قبول عمولة من السلطة الفرنسية – حتى نعي بجهلنا لمسائل سرّية وخطيرة حصلت بين الحكومتين التونسية والفرنسية وأن مفاجآت واكتشافات أخرى لا زالت مغمورة . كما تبيّن نفس الوثيقة بصفة قطعية انحياز الباي وحاشيته مع الصف اليوسفي.
وتشاء الصّدف أن يكون الوزير الأكبر الطاهر بن عمار حاضرا وشاهدا على المشادة الكلامية التي حصلت بين الباي والمندوب السامي للدولة الفرنسية بتونس صبيحة يوم 24 ديسمبر 1955. وفي اللقاء الذي جمع المندوب السامي عند منتصف النهار من نفس اليوم مع الزعيم بورقيبة والذي خصّه للحديث عن تطوّر الوضع العام في الإيالة تم إعلام الزعيم بفحوى المشادّة الكلامية وبامتعاض الباي من توفير الأمن الضروري له أثناء زيارته لجزيرة جربة. الحدث الذي سيوظفه الزعيم يوم 29 ديسمبر 1955 للضغط على الباي لإنتزاع إمضائه للأمر المحدد لتاريخ انتخابات المجلس التأسيسي (25 مارس 1956) ولاحقا في طلب شهادة الطاهر بن عمار كتابيا في خصوص معارضة الباي توفير الأمن له والتي امتنع الطاهر بن عمار الإدلاء بها – وكان الزعيم منذ رجوعه إلى الوطن يوم غرة جوان 1955 يُعِدّ الظروف الملائمة للإعلان عن الجمهورية حسب ما أبلغه إلى رئيس الحكومة الفرنسية حينذاك، “إدغار فور”Edgar Faure(فيفري 1955 – جانفي 1956) (راجع : مذكراته، الجزء الثاني، المنشورة لدى “بلون” Plon، 1984، ص.265 – 266).
هذه المعطيات التاريخية الهامة لم يتطرق إليها السيد الشاذلي بن عمار في الكتاب الذي خصّه لسرد مسيرة والده النضالية من أجل التحرر بل طالب بإعادة الاعتبار للطاهر بن عمار كشخصية وطنية محورية في تاريخ الحركة الوطنية. وفي تقديرنا لا يتيسر لمن يرغب في دراسة السير النضالية ذات الصلة بالحركة الوطنية التونسية إلى تصنيف مُقنع إلا بالرجوع إلى المٓدلول اللغوي المُتداول الذي أراده المُسْتٓعْمِر، ونعْني دراسة خطابه المُوٓجّه إلى المُسْتٓعْمٓرين، حيث يميز بين صنفين : القوميون (les nationalistes) والوطنيون ((les patriotes. وكثيرا ما تضاف صفة مسلم للقوميين التونسيين ( nationalistes tunisiens musulmans) والقومي في الخطاب الاستعماري الماصوني (الاشتراكي والراديكالي) يعني من لا يقبل الاحتلال الأجنبي ويقاومه لاعتبارات دينية مطالبا باستقلال بلاده في حين يُعٓرّف الوطني بالذي يُكِنّ شعورا وتعلقا بوطنه مع عدم المساس بمؤسسة الحماية ويتحاور مع الأجنبي من أجل الإصلاح ويعتبر الاستقلال مطمحا بعيد المنال.
وبناء على هذا التصنيف، لم يكن الطاهر بن عمار يوما قوميا بل وطنيا معتدلا “متين الاتصال بالأوساط الفرنسية” حسب عبارة أحمد توفيق المدني، الكاتب العام المساعد للحزب المكلف بالصحافة الناطقة باللسان العربي والذي أرّخ لحقبة نشأة الحزب الحرّ الدستوري في العشرينات من القرن الماضي وأبان غياب الطاهر بن عمار في اجتماعات اللجنة التنفيذية الدورية. وبالرغم من تطلع الطاهر بن عمار إلى أداء دور وسيط بين الأوساط الرسمية الفرنسية وقادة الحركة الوطنية، كان محل ريبة من قبل الفرنسيين والتونسين على حد السواء.
ويظهر الطاهر بن عمار من خلال تفحّص المصادر الأرشيفية الفرنسية الديبلوماسية (وثائق الإقامة العامة سابقا المحفوظة بمركز الأرشيف الديبلوماسي بنانت) والعسكرية (بالنسبة لتونس المحفوظة في المصلحة التاريخية لجيش البر في قصر فنسان)، بمثابة ” شخصية محدودة الامكانيات”. ويبدو أن تاريخ عداء الزعيم بورقيبة للطاهر بن عمار يرجع إلى موقف هذا الأخير المساند لسياسة المقيم العام ” ارمان قيون” Armand Guillon (1936 – 1938) المعارضة لإضراب 20 نوفمبر 1937 الذي أقره الديوان السياسي للحزب الدستوري الجديد تضامنا مع ضحايا القمع الاستعماري في الجزائر والمغرب الأقصى (راجع مقال الزعيم بورقيبة الصادر في L’Action Tunisienne بتاريخ 27 نوفمبر 1937 تحت عنوان “المحنة الحاسمة”).
أجل، يجوز القول، أن الطاهر بن عمار – بحكم الثراء الذي اكتسبه (يعد من أكبر الرأسماليين الزراعيين التونسيين) والمهام العالية التي تقلدها (رئاسة الحجرة الفلاحية التونسية،رئاسة القسم التونسي للمجلس الكبير، رئاسة حكومة المفاوضات التونسية – الفرنسية 1954 – 1956 ) – دافع بما تيسر لديه من إمكانيات عن مصالح الشعب التونسي أثناء الأزمات الاقتصادية التي اجتاحت البلاد (أزمة الثلاثينات وما بعد الحرب العالمية الثانية ومنتصف الخمسينات). ولكن لم يظفر بمهام رئاسة القسم التونسي للمجلس الكبير(1943 – 1954) والإشراف على حكومة المفاوضات (1954 – 1956) إلا بعد الحصول على مساعدة ومساندة الحزب الحر الدستوري، حيث قاطع إجتماعات المجلس الكبير إثر الحرب العالمية الثانية تنفيذا لسياسة المقاومة السلبية التي توخاها الأمين العام للحزب لإحداث الفراغ حول المقيم العام، “جون مونص” Jean Mons (1947 – 1950) من جهة وكان يراجع الزعيم بورقيبة في سير المفاوضات التونسية – الفرنسية (فيفري – مارس 1956) الذي يتلقى منه التوجيهات من جهة ثانية (انظر: انظر محاضر جلسات المفاوضات التونسية الفرنسية المنعقدة أيام 29 فيفري و1 و5 و7و12 مارس 1956 المحفوظة في مقرأرشيف التاريخ المعاصر بالمؤسسة الوطنية الفرنسية للعلوم السياسية بباريس، رصيد آلان سافاري، س ف13).
وبناء على ما سبق ذكره، كان الطاهر بن عمار في لحظة الخيارات ضحية تموقعه في الصراع اليوسفي البورقيبي، حيث كان متعاطفا مع المعارضة اليوسفية، مساندا للملكية الدستورية ومن ثم معارضا للتمشي البورقيبي في السير نحو الإعلان عن الجمهورية.
وفي هذا الصدد بلغنا أن عائلة الطاهر بن عمار تتساءل عن تباطؤ الاستاذ الباجي قائد السبسي في تنفيذ تعهده بإعادة الاعتبار له.