الشارع المغاربي: تمر العلاقات التونسية الاوروبية الامريكية منذ انطلاق مسار 25 جويلية بمرحلة من الشد والجذب يغلب عليها طابع التوتر والتقلبات الناجمة عن المواقف النقدية الغربية الموجهة للسلطة الحاكمة على خلفية التغييرات الجذرية التي ادخلت على منظومة الحكم باتجاه ارساء نظام رئاسوي اعتبرت الدول الغربية انه ادى الى التراجع عن المكاسب الديمقراطية مثلما ادى الى تعثر برامج “الإصلاحات” المتفق عليها، في ظل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، مع الاتحاد الاوروبي ومجموعة السبع دول صناعية كبرى عبر آلياتها واذرعها المالية ومنها خاصة صندوق النقد الدولي الذي اعلن منذ شهر اكتوبر 2022 عن التوصل معه الى اتفاق تمويلات بقيمة 1.9 مليار دولار لم يشرع بعد في تنفيذه.
ويعتبر الجانب الغربي ان تونس مخلة بالتزاماتها ازاء صندوق النقد الدولي سيما في ظل التضارب بين موقف الحكومة ومواقف رئيس الجمهورية الذي يبدو وكأنه تراجع ضمنيا عن بنود الاتفاق المتعلقة برفع الدعم والزيادة في الاسعار ومآسسة المديونية وهو ما يستشف من تصريحاته المتكررة الرافضة للامتلاءات والمطالبة بإدخال تعديلات تراعي خصوصيات ومتطلبات الاوضاع الداخلية بتونس.و نشير في هذا الصدد الى آخر التصريحات الصادرة عن محافظ البنك المركزي ومفادها ان العمل جار للتوصل الى “اتفاق عادل” مع صندوق النقد الدولي يراعي اوضاع الفئات الهشة مضيفا ان برنامج العمل المبرم اخيرا مع البنك العالمي يراعي هذه المقتضيات.
اما بخصوص الخلافات مع الجانب الاوروبي حول ملف الهجرة غير النظاميه، فإنها ظلت قائمة ومستفحلة بسبب الضغوط الاوروبية المكثفة المسلطة على تونس بهدف تحويلها الى مركز تجميع ودولة ايواء للمهاجرين الافارقة المرحلين من اوروبا تنفيذا لاتفاق “شراكة التنقل” الموقع سنة 2014 في ظل حكومة المهدي جمعة. هذا فضلا عن رغبة اوروبا في تحميل تونس اعباء اضافية في مجال حراسة الحدود الاوروبية حتى يتسنى التحكم الكلي في موجات الهجرة التونسية الافريقية المتزايدة من السواحل التونسية باتجاه الضفة الشمالية للمتوسط وخاصة باتجاه ايطاليا التي تتحمل العبء الاكبر من هذه التدفقات. وبلغ التوتر ذروته في غمرة الحملة الاوروبية الغربية الناجمة عن تصريحات الرئيس قيس سعيد حول وجود مخططات تستهدف، من خلال توطين الافارقة بتونس، تغيير تركيبتها الديمغرافية والمساس بهويتها العربية الاسلامية. كما اعتبر الرئيس انه لا يمكن اختزال قضية الهجرة السرية في الحلول الامنية مجددا، في عديد المناسبات، رفضه لتحويل تونس الى حارس للحدود البحرية الاوروبية مقابل المساعدات المالية او تحويلها الى بلد لجوء وتوطين داعيا الى توخي مقاربة جديدة وشاملة تعالج الاسباب العميقة لظاهرة الهجرة وذلك من خلال تنظيم ندوة دولية لهذا الغرض بمشاركة كافة الدول والاطراف الاوروبية والافريقية المعنية ليتحمل الجميع نصيبه من الاعباء والمسؤوليات.
ويبدو ان منسوب الاحتقان تراجع نسبيا منذ دخول ايطاليا على الخط وتدخل رئيسة الحكومة الايطالية للدفع باتجاه التهدئة ودعوتها لتقديم اوروبا مساعدة مالية لتونس غير مرتبطة ببرامج صندوق النقد الدولي وذلك حرصا على تجنب المساس باستقرارها والحيلولة دون انهيارها الاقتصادي الذي قد يفضي الى خروج ظاهرة الهجرة باتجاه اوروبا عن السيطرة، وهكذا توقفت التصريحات الصادرة عن بعض كبار المسؤولين الامريكيين والاوروبيين المطالبة بعودة الديمقراطية الى تونس علما انها بلغت في مرحلة ما حد التلويح بتسليط العقوبات وإيقاف المساعدات وربطها بشروط سياسية رفضتها تونس باعتبارها تدخلا في شؤوننا الداخلية.
خفايا التحرك الاوروبي ازاء تونس
وبذلك تهيأت الظروف لزيارة الوفد الاوروبي برئاسة رئيسة المفوضية الاوروبية اورسولا فاندرلاين الى تونس ما فتح المجال للاتفاق على اعداد وثيقة اطارية مشتركة تؤسس “لشراكة شاملة” لا تنحصر في معالجة ملف الهجرة بل تشمل محاور اساسية اخرى ومنها الحوار السياسي والتعاون الاقتصادي والتجاري الى جانب الانتقال الطاقي والتقارب بين الشعوب.و الملاحظ انه تم ارجاء التوقيع على الوثيقة المشتركة التي كان من المفترض عرضها على القمة الاوروبية المنعقدة ببروكسال اواخر شهر جوان المنقضي علما ان البيان الختامي للقمة سجل ارتياحه للتقدم الحاصل في اعداد “حزمة الشراكة الشاملة”.و قد نقلت صحف تونسية عن مصادر من المفوضية الاوروبية ان تونس هي التي طلبت التأجيل لمزيد الدراسة والتدقيق في مسودة الاتفاق الذي سيمهد لاستئناف الحوار والتعاون بين الجانبين التونسي والاوروبي في اطار الآليات القائمة وخاصة منها مجلس الشراكة المعطل منذ فترة والمزمع انعقاده اواخر السنة الجارية.
و بخصوص العلاقة مع جنوب المتوسط ورد بالبيان الختامي للقمة ان القادة الاوروبيين يؤيدون عودة الحوار السياسي في اطار اتفاق الشراكة بين تونس والاتحاد الاوروبي مؤكدين على اهمية دعم وتطوير شراكات استراتيجية مماثلة مع الشركاء الآخرين لأوروبا في المنطقة. واللافت ان القادة الاوروبيين لم يتوصلوا الى التغلب عن خلافاتهم الداخلية بخصوص تقاسم اعباء استقبال المهاجرين على اساس توزيع الحصص بسبب اعتراض بولونيا والمجر لكنهم يحرصون على تحقيق التوافق والبروز بموقف موحد وجماعي في مواجهة بلدان جنوب المتوسط والتعاطي معها، كل على حدة، ليتسنى اخضاعها لمشيئتها وتطويعها وحشرها في قوالب جاهزة لا تراعي مصالحها على غرار ما حصل مع تونس منذ الاستقلال وبعد الثورة.
وتجسد ذلك في برامج القروض المشروطة والمسيسة المفروضة عبر صندوق النقد الدولي وكذلك اتفاقيات التجارة الحرة والشراكة غير المتكافئة مع الاتحاد الاوروبي التي تتجاوز من حيث مضامينها تجارة السلع والخدمات لتطال السيطرة على دواليب السلطة والقطاعات الاستراتيجية الانتاجية الصناعية والفلاحية مع التحكم في السياسة المالية وفي وظائف الدولة ومنها التخطيط الاستراتيجي وادارة البنك المركزي والمؤسسات العمومية ، فضلا عن تعميم الخصخصة حتى في الانشطة السيادية وكذلك استغلال الثروات الوطنية المادية والبشرية وتحويل وجهتها لصالح اوروبا والغرب من خلال التكنولوجيات الغربية وشركاتها المتعددة الاطراف التي تغطي استثماراتها بتونس كافة القطاعات الانتاجية والخدمية والتعليمية وغيرها.
وطيلة العشرية ألمنقضية تعودت الكتلة ألغربية ممثلة في مجموعة السبع التي تضم الاتحاد الاوروبي في عضويتها، على فرض ارادتها على تونس بتطواطئ من الحكومات المتعاقبة التي ساعدتها على تحقيق جل اهدافها ومنها توسيع دائرة سيطرتها على المالية والبنوك والشركات العمومية فضلا عن التجارة الداخلية والخارجية والقطاعات الحيوية ومنها الطاقات المتجددة والتعليم بكافة مستوياته. وتم ذلك عبر “شراكة التنقل” و”شراكة الشباب” الى جانب برامج القروض المشروطة مع صندوق النقد الدولي وترسانة القوانين المعتمدة من قبل البرلمانات السابقة لفائدة المستثمرين الاجانب التي ادت عمليا الى اعتماد اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق من خلال ادماجه بالمنظومة القانونية التونسية. ولم يبق سوى تحويله الى معاهدة دولية يسعى الجانب الاوروبي منذ سنوات الى فرضها تحت غطاء المفاوضات الوهمية حول الآليكا التي توقفت منذ سنة 2017 بضغط من المجتمع المدني والقوى الوطنية المعارضة لهذه الهيمنة.
ومن خلال نجاحه في احياء هذه المفاوضات يسعى الجانب الاوروبي الغربي الى الحفاظ على هذه المكاسب في اطار حزمة ” الشراكة ألشاملة” الجاري التفاوض بشأنها علما ان مواقفه المتشنجة من مسار 25 جويلية ليست بدافع الانتصار للديمقراطية في تونس بل تعكس الخشية من احتمالية وصول قوى سياسية للسلطة تدعو الى ادخال مراجعات جذرية على الخيارات الاقتصادية والدبلوماسية الكبرى لتونس باتجاه اعادة التوازن لعلاقاتنا الخارجية والانفتاح على شراكات جديدة منافسة لمنظومة العولمة واقتصاد السوق الخاضعة للهيمنة الغربية.
و مهما يكن من امر ليس من مصلحة تونس في هذه المرحلة ان توسع دائرة التفاوض مع الاتحاد الاوروبي خاصة وانها في موقف تفاوضي ضعيف في ظل جبهتها الداخلية المفككة واوضاعها الاقتصادية والمالية الهشة فضلا عن فقدانها لمشروع وطني جامع للتونسيين حول كبرى القضايا المصيرية المطروحة داخليا وخارجيا وعلى رأسها ملف العلاقات مع الاتحاد الاوروبي ومجموعة السبع الذي يحتاج الى تقييم شامل من كافة جوانبه وابعاده الاقتصادية والجيوسياسية. وفي هذا الصدد لا بد من ان تستخلص تونس العبر والدروس الضرورية من تجربتها الطويلة في العلاقات شمال جنوب قبل الثورة وبعدها خاصة في ظل المستجدات والتحولات التالية:
- الاوضاع الاقتصادية والامنية المأساوية بتونس والضفة الجنوبية وافريقيا جنوب الصحراء هي حصيلة التدخلات الغربية التي قوضت الامن والاستقرار في ليبيا والمنطقة العربية فضلا عن عدم ايفاء الاطراف الغربية بتعهداتها بتقديم مساعدات تفاضلية لتونس لتيسير انتقالها الديمقراطي والاقتصادي وهو ما حول قضايا الهجرة السرية وو الفقر والمديونية والمجاعة… الى قضايا هيكلية وعصية عن الحل طالما انها شديدة الارتباط بمنظومة اقتصاد السوق التي تسعى الكتلة الغربية لتابيدها بكافة السبل كما ثبت من مواقفها التصعيدية من الحرب الاوكرانية سيما وان الهدف الاستراتيجي المعلن لروسيا والصين والبريكس هو انهاء الاحادية القطبية الخاضعة للهيمنة الامريكية الاوروبية.
- تونس مدعوة للتمعن في هذه التحولات والعمل بالتنسيق مع دول جنوب المتوسط على الاستفادة منها دون الدخول في علاقات صدامية مع الغرب ودون استبدال الهيمنة الغربية بهيمنة جديدة لان الغاية القصوى تبقى الحفاظ على كيان الدولة الوطنية من المخاطر المحدقة بها بفعل اهتزاز مقومات الامن والاستقرار في المنطقة العربية والمتوسطية.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 4 جويلية 2023