الشارع المغاربي – المتغيرات‭ ‬الدولية‭ ‬وتداعياتها‭ ‬على‭ ‬الأزمة‭ ‬التونسية‭ ‬المستفحلة / بقلم: ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬العويديدي

المتغيرات‭ ‬الدولية‭ ‬وتداعياتها‭ ‬على‭ ‬الأزمة‭ ‬التونسية‭ ‬المستفحلة / بقلم: ‬جمال‭ ‬الدين‭ ‬العويديدي

قسم الأخبار

11 مارس، 2022

الشارع المغاربي: الأزمة بين روسيا الاتحادية والحلف الأطلسي التي يدور رحاها في أوكرانيا اليوم تُؤكّد رسميّا أن العالم يعيش على وقع مُتغيّرات تاريخية هامة ومفصلية تندرج في سياق بروز قوى دولية انخرطت عمليّا في كبح هيمنة القطب الأحادي الذي تمثله الإمبراطورية الأمريكية وحلفائها الغربيين. ولعل الطريقة الكارثية لانسحاب الجيش الأمريكي من أفغانستان في سنة 2021 باتت مؤشرا هاما بوصفه لا يوحي بتحرك قوة عظمى مثلما يتصورها ويهابها العالم بأسره.

بروز الولايات المتحدة بصفتها القطب الأحادي في العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينات وفرض هيمنتها السياسية والعسكرية والاقتصادية بمعايير تجلت فيها نزعة الغطرسة وظاهرة الكيل بمكيالين وخرق القيم الأخلاقية والمعايير الدولية وفي مقدمتها حرية الشعوب في تقرير مصيرها واحتلال الدول بذرائع واهية مثل احتلال أفغانستان والعراق وسوريا تُعتبر من الأسباب الأساسية التي جعلت هذه الإمبراطورية تتراجع في العالم.

إلى جانب هذه التصرفات التي تنتهجها الولايات المتحدة وحلفاؤها في القارة الأوروبية المنافية للشرائع الدولية المُتّفق عليها دوليا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، لابد من الوقوف على سياسات فرض العقوبات القاسية على كل البلدان التي تختلف معها سياسيا مثل إيران وسوريا ولبنان وغيرها والتي تضررت منها الشعوب بدرجة أولى. كما أنها أظهرت مدى استخفافها بالعقود المُبرمة رسميّا والتنكّر لها تماما شملت الاتفاق النووي مع إيران. كما شملت بكل استغراب عدم احترام قوانين المنظمة العالمية للتجارة التي حضنتها وفرضتها على كل بلدان العالم تقريبا، حيث أقدمت الولايات المتحدة بطريقة أحادية وكذلك بعض البلدان الأوروبية على فرض رسوم قمركية على المنتوجات الصينية في خرق صارخ لقواعد المنظمة. وهذا يعني بوضوح أن القواعد لا تُطبّق إلا إذا كان التبادل الحر يعمل لفائدة الأطراف الأمريكية والأوروبية.

تفاقم الأزمة التونسية يتطلب مصارحة الشعب التونسي بحقيقة الوضع الاقتصادي ورؤيا استراتيجية بديلة

التذكير بهذا الوضع الجيواستراتيجي الذي تشوبه لغة الغاب ولغة القوة والهيمنة وتحكمه لغة المصالح الذاتية يفرض علينا في تونس شعبا ودولة إعادة النظر في التعامل مع الخارج بطريقة موضوعية غير تصادمية أساسها التمسك بحق الشعب التونسي في تقرير مصيره والحرص على فرض سيادته الوطنية عبر التشبث باستقلالية قراراته السياسية والتحكم في ثرواته ومؤسساته الوطنية.

ما قامت به الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية التي حكمت البلاد منذ جانفي 2011 ورّط البلاد في تدخل جديد للمؤسسات المالية الدولية منذ سنة 2013 إلى اليوم لتكريس منوال تنموي عطّل المسيرة التنموية وأدى عبر اتفاقيات غير متكافئة إلى تفكيك الدولة الوطنية وسيطرة “أوليغارشية” الاقتصاد الريعي وتفشي الفساد وانهيار كل المؤشرات الاقتصادية والمالية والاجتماعية.

المطلوب اليوم بكل إلحاح  أمام هذه الأزمة الاستثنائية غير المسبوقة التي زادت خطورة بعد اندلاع جائحة كورونا مصارحة الشعب التونسي بحقيقة الوضع الاقتصادي والمالي للبلاد التي استنزفها التوريد المفرط وجرها إلى مديونية خارجية وداخلية أصبحت بديهيا غير قابلة للتحمل نتيجة تعطيل النمو الاقتصادي المنتج. وهو وضع ممنهج يدفع نحو التفريط في مُقدرات البلاد وثرواتها حيث تعلم الأطراف الخارجية والداخلية المستفيدة من هذا الوضع جيدا أن الدولة التونسية عاجزة لا محالة عن تسديد ديونها في آجالها وتريد مقايضة هذه العجز بالتنازل عن الثروات والمؤسسات العمومية الاستراتيجية علاوة على الابتزاز السياسي للاصطفاف وراء مواقف المُعسكر الغربي مثلما نشهد اليوم في الأزمة الأخيرة بين روسيا الاتحادية والحلف الأطلسي.

مسار 25 جويلية فوّض المسألة الاقتصادية إلى حكومة مُنساقة لبرنامج الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي

اليوم يبدو جليا أن مسار 25 جويلية الذي كان من المُنتظر أن ينتهج حلا استثنائيا على أساس برنامج تنموي يقطع مع هذا المنوال الذي أثبت فشله التام اختار أن يُفوّض المسألة الاقتصادية برُمّتها إلى حكومة سلّمت أمرها بالكامل إلى البرنامج التقشّفي الذي يفرضه الاتحاد الأوروبي بوصفه أول دائن خارجي لتونس بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي.

كل المؤشرات تدل على التخلي عن طرح المشاكل الاقتصادية الأساسية التي تتعرض لها البلاد وفي مُقدمتها تعطيل الاقتصاد المنتج في الفلاحة والصناعة وعلى مستوى المؤسسات العمومية الاستراتيجية برُمّتها بوصفها قاطرة هامة للنمو والسعي إلى تدميرها عبر حرمانها الكامل من التمويلات البنكية وعبر رفض تفعيل حق حماية المنتوجات الوطنية الفلاحية والصناعية من عمليات إغراق السوق التي تُمارسها الشركات الأوروبية طبقا للاتفاقيات الدولية.

هذا التوجه تُؤكّده نتائج المبادلات التجارية التي تفاقمت كامل سنة 2021 حيث يتم التعتيم من جديد على معضلة العجز التجاري الذي بلغ 29 مليار دينار حسب المعايير المعتمدة عالميا أي بمُعدّل 2,4 مليار دينار شهريا. هذه المُعضلة التي تمت مُلامستها بوضوح من طرف رئيس الجمهورية منذ شهر أوت 2021 عبر طرحه لضرورة ترشيد التوريد تم التراجع عنها والحال أنه موضوع محوري ومفصلي في البلاد بوصفه السبب الأساسي لتدمير مواطن الشغل وتعطيل النمو والدفع إلى المديونية الخارجية التي جرّت البلاد إلى حالة إفلاس غير مُعلن. 

هذا التوجه الغريب أفضى إلى وضع غريب تتفاوض فيه حكومة مع صندوق النقد الدولي حول منحها مبلغا، يُقدّم وكأن مُستقبل تونس وشعبها يتوقف عليه ، يتراوح تقريبا حسب التصريحات بين مليارين  و4 مليارات دولار أمريكي تُصرف على مدى أربع سنوات أي بمُعدّل مليار دولار أمريكي سنويا بما يساوي 2,9 مليار دينار سنويا والحال أنها لا تُحرّك ساكنا أمام العجز التجاري الذي بلغ مُعدّل 2,4 مليار دينار شهريا في سنة 2021 ؟

وللتعتيم على هذا الموضوع الخطير اختارت الحكومة أن تعتمد تصريحات غريبة ولا تمت للواقع بأية صلة من طرف وزارة التجارة التي أصبحت تتباهى بنتائج تجارية افتراضية… تُفضي إلى تحقيق فائض تجاري مع فرنسا ومع ألمانيا وفي آخر تصريح مع إيطاليا أيضا… وزارة تتحدث عن بلاد في حالة إفلاس غير مُعلن يعني “معيز ولو طاروا”. 

موقف الحكومة الحالية يدفع إلى أزمة اجتماعية حادة وغير مسبوقة

في الأثناء ونتيجة الشروط المجحفة التي يفرضها الاتحاد الأوروبي بالتنسيق مع صندوق الدولي عبر تجميد الانتداب في الوظيفة العمومية وتجميد الأجور لسنتين أو أكثر ورفع الدعم (إن ثبت وجوده) عبر الترفيع في سعر المحروقات وفي سعر الطاقة والتفويت في المؤسسات العمومية الاستراتيجية، تتدحرج البلاد – لا سمح الله-  نحو أزمة اجتماعية غير مسبوقة نتيجة الضغط المفروض على الشعب الذي نفد صبره في أمل الخروج منها أمدها.

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 8 مارس 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING