الشارع المغاربي – برفضه‭ ‬مشاركة‭ ‬الأحزاب‭ ‬في‭ ‬الحوار‭ ‬سعيّد‭ ‬يمهّد‭ ‬لإقصائها‭ ‬من‭ ‬الانتخابات

برفضه‭ ‬مشاركة‭ ‬الأحزاب‭ ‬في‭ ‬الحوار‭ ‬سعيّد‭ ‬يمهّد‭ ‬لإقصائها‭ ‬من‭ ‬الانتخابات

قسم الأخبار

27 مايو، 2022

الشارع المغاربي-معز زيّود: لا يخفى أنّ رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد كان ولا يزال يمقت الأحزاب السياسيّة ويستعديها. أمّا اليوم فقد باشر خطوة حاسمة في اتّجاه التخلّص منها نهائيّا. هذا ما يستبطنه إقصاء الأحزاب من “هيئة سعيّد الاستشاريّة” المكلّفة بالحوار وإعداد دستور جديد بمقتضى المرسوم الرئاسي عدد 30. ولم يعد تفصل الرئيس إلّا خطوة واحدة لحرمان الأحزاب من المشاركة في الانتخابات المقبلة…

بتنا نواجهُ صعوبة جمّة في العثور على فئة واحدة من الفاعلين في مختلف المجالات لم ينزع رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد إلى استعدائها وتهميشها وإقصائها بجرّة قلم من أجل المضيّ في مشروعه السياسي. إنشاء “الهيئة الوطنيّة الاستشاريّة من أجل جمهوريّة جديدة” جاء ليُثبت كم بات النظام التونسي بعيدًا عن روح العصر. فالممارسة الديمقراطيّة لا سبيل إليها في العالم بأسره اليوم إلّا بمشاركة فعليّة وفاعلة للأحزاب السياسيّة في إدارة الشأن العام، باستثناء بعض دول الخليج التي استخدمت ثرواتها النفطيّة في مصادرة حقّ شعوبها في الحريّة والانفتاح السياسي.

قراءة “المرسوم عدد 30 لسنة 2022 المؤرّخ في 19 ماي 2022 والمتعلّق بإحداث الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة” تكفي للدلالة على استهداف الأحزاب رأسًا، ولن نحتاج للوقوف طويلا عند ردود فعل الأحزاب التونسيّة الكبرى بهذا الشأن. فبالتوازي مع شبه الصمت المحتشم للأحزاب التي كانت تسير في ركاب منظومة 25 جويليّة، تصارخ خصوم سعيّد مُمثلين بحركة النهضة والحزب الدستوري الحرّ وبعض الأحزاب الوسطيّة مثل التيّار والجمهوري والتكتّل، مندّدين بمرسوم “مهزلة” وبهيئة فاقدة كليّا للشرعيّة ودولة مصادرة أصلا.

هيئة صوريّة

أسند الرئيس قيس سعيّد لهذه الهيئة الاستشاريّة صفة “الوطنيّة”، وهي أبعد ما يكون عن ذلك. وليس المقصود هنا السقوط في التوصيفات السياسيّة المريضة المتّصلة بـ”التخوين”، وإنّما المقصود أنّ صياغة الشأن الوطني الأكثر أهميّة والمتمثّل في الحوار الوطني وإعداد دستور جديد لا يمكن تُجرى في ظلّ تغييب متعمّد للأحزاب السياسيّة. وبالعودة إلى المرسوم عدد 30 نجد انّها تتكوّن، وفق الفصل الرابع منه، من “اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية” و”اللجنة الاستشارية القانونيّة” و”لجنة الحوار الوطني”.

وفي حين تتكوّن اللجنة الأولى من ممثّلي عدد من المنظمات الوطنيّة، وفق الفصل السابع من هذا المرسوم، فإنّ اللجنة القانونية تتكوّن من عمداء كليّات الحقوق والعلوم القانونية والسياسية، حسب الفصل 12. أمّا “لجنة الحوار الوطني” فتتشكّل من مجموع أعضاء اللجنتين المذكورتين سلفا، بمقتضى الفصل 19. وبذلك فرض الرئيس سعيّد أن يتمّ صياغة مستقبل البلاد ودستورها على أيدي عشرة أشخاص تقريبًا، باعتباره قد حدّد عضويّة خمس منظمات وطنيّة، إلى جانب عضوية العمداء الخمس لكليّات الحقوق الموجودة في البلاد، علمًا بأنّ عريضة تضمّ توقيعات عشرات الأساتذة من منتسبي تلك الكليات كانت قد رفضت “الزّج بالجامعة في المشاريع السياسيّة لإضفاء شرعيّة وهميّة” وأدانت “الأسلوب المسقط في اختيار أعضاء اللجنة، بعيدًا عن كل تشاور وتحاور وطني واسع وحقيقي”.

أمّا الاختبار الحقيقي الأوّل الذي قصف هيئة الرئيس سعيّد وسلبها ما تدعيه من شرعيّة ومشروعيّة، فيتمثّل في إعلان الاتّحاد العام التونسي للشغل عن قرار هيئته الإداريّة، المنعقدة يوم أمس 23 ماي 2022، برفض المشاركة في الحوار بصيغته الحاليّة. هذا القرار الذي جاء بإجماع القيادات النقابيّة وجّه رسالة واضحة إلى الرئيس سعيّد مفادها أنّه لا سبيل إلى اعتبار الاتّحاد مجرّد دمية وتوظيفه في مشروع سياسي شخصي مسقط وخارج عن كلّ السياقات، لاسيما أنّ قيادة المركزيّة النقابيّة سبق لها التأكيد على رفضها إقصاء الأحزاب عن الحوار الوطني وعدم قبولها بنتائج “حوار” جاهزة سلفا. وكان أمين عام اتّحاد الشغل نور الدين الطبّوبي قد أجاب قيس سعيّد بمنتهى الوضوح، قائلا في نهاية الأسبوع المنقضي إنّ “الاتّحاد لا يمكن أن يكون في حوار نتائجه معلومة مسبقا”، وإنّه “لا يقبل بأن يكون شاهد زور… ولا يمكنه بثقله أن يخدم أجندة أيّ طرف”. واضح إذن أنّ الرئيس قيس سعيّد لم يُدرك حتّى الآن صعوبة أن يمضي في تدجين منظمة وطنيّة كبرى لم تولد اليوم، وسبق لها أن انخرطت خلال مراحل تاريخيّة عدّة، بما في ذلك بعد الثورة، في صراعات وأزمات معلنة مع السلطة وخرجت منها منتصرة.

مشروع شخصي

جاءت هذه الهيئة إذن اسمًا على مسمّى، فهي قبل كلّ شيء هيئة “استشاريّة”، بمعنى أنّ المطلوب منها هو تقديم المشورة لصاحب السلطة الأوحد، ولا صلاحيّات لها إلّا ما يُحدّده لها هذا التكليف الاستشاري. يعني ذلك أنّ الرئيس سعيّد بإمكانه أن يُعدّل مقترحات هيئته الاستشاريّة ونصّ الدستور الذي ستقوم بإعداده بالشكل الذي يريد، وقبل كلّ شيء وفق المشروع السياسي الذي أخذ “يُنظّر” له منذ سنوات. وهو كما هو معلوم مشروع يقوم أساسا على إقصاء الأحزاب السياسيّة. فقد نصّ الفصل الثاني من المرسوم عدد 30 على أن “تحترم الهيئة الوطنيّة الاستشاريّة من أجل جمهوريّة جديدة عند إعداد المشروع المذكور المبادئ والأهداف المنصوص عليها بالفصل 22 من الأمر الرئاسي عدد 117… ونتائج الاستشارة الوطنية”. والحال أنّ الفصل 22 من المرسوم عدد 117 ينصّ على أنّ رئيس الجمهوريّة هو من يتولّى إعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية بالاستعانة بلجنة يتم تنظيمها بأمر رئاسي. ومن ناحية ثانية فإنّ “الاستشارة الوطنيّة” التي فرض الرئيس سعيّد اعتماد نتائجها، عبر المرسوم عدد 30، كانت قد شكّلت فشلا منقطع النظير بشهادة الجميع إلّا في مخيّلة رئيس الدولة وخطابه المناقض كلّيا لما حدث واقعيّا، بصرف النظر عن حديثه المتواتر حول العراقيل التي واجهتها الاستشارة المذكورة.

والمثير للطرافة والغرابة في آن واحد أنّ المرسوم عدد 30 ينطلق حرفيّا من التنصيص على حيثيّة “الاطلاع على الدستور” لإحداث هذه الهيئة، وكأنّ دستور 2014 قد أتاح إقصاء الأحزاب، ومن ثمّ تمزيقه إربا وإلقاءه في سلّة مهملات التاريخ، لاسيما أنّه لا يمكن أصلا إعداد دستور جديد خلال فترة استثنائيّة لا صوت فيها يعلو على صوت الرئيس. وطبعا فإنّ هذه الهيئة لا علاقة لها إطلاقا بفعل “الاستقلاليّة” كما وسمها الرئيس سعيّد في مرسومه لأنّها هيئة مرسومة بتفاصيل تفاصيلها على مقاس الرئيس ومشروعه السياسي.

تبشير بإنهاء الأحزاب

ومثلما ذكرنا في مقالات سابقة، فإنّه سبق لقيس سعيّد أن أعلن، في حوار نشرته صحيفة “الشارع المغاربي”، أنّه سيعمل وفق هذا الطرح إلى إلغاء الانتخابات التشريعيّة بصيغتها الراهنة في حال أصبح رئيسا للجمهوريّة. وقال حرفيّا في الحوار نفسه إنّ “عهد الأحزاب انتهى”، باعتبار أنّ “الشعب صار ينتظم بطريقة جديدة”، وفق تعبيره. وهو طبعا ما يُذكّر حتّى أصحاب الذاكرة القصيرة بأبرز مفاهيم “الكتاب الأخضر” الذي يعتبر أنّ “كلّ من تحزّب خان”.

والحقيقة أنّ سعيّد لم يتردّد في التفعيل التدريجي لوعوده “القانونيّة” في اتّجاه ما يخدم مشروعه السياسي. فمن المنتظر مثلا أن ينزع إلى تغيير طريقة الاقتراع من التصويت على القائمات إلى التصويت على الأفراد. وهو طبعا ما يندرج ضمن سياسته لإضعاف الأحزاب السياسيّة. ولا يخفى أنّ مشروع سعيّد بات معروفا، وهو نفسه من شرحه في بعض الحوارات النادرة التي أدلى بها قبل انتخابه رئيسا للجمهوريّة، دون أن يُؤخذ كلامه آنذاك على محمل الجدّ. فهو يسعى إلى أن يكون البناء السياسي قاعديّا، من المحلّي إلى المركز مرورًا بالجهوي، على أن يتمّ إنشاء مجالس محليّة من بين أفراد يحظون بالتزكية بكلّ معتمدية من معتمديّات الجمهوريّة. ومن ثمّ يُصبح المجلس المحلّي ممثّلا على مستوى الولاية بالاختيار عن طريق القرعة لمدّة معيّنة. ومجموع هؤلاء في كامل الجمهوريّة يصعدون إلى المركز الممثل في البرلمان بباردو، هذا إن حافظ سعيّد على اسمه ومكانه.

وبالنتيجة يُنهي أيّ وجود للأحزاب، تحت شعار “تمثيل الإرادة الشعبيّة”، كما يريدها أن تكون. وهذا دون اعتبار الإشكاليّات الواقعيّة العديدة المطروحة سواء على مستوى جمع التزكيات ووسائل التأثير الماليّة والعائليّة والقبليّة الممكنة واللجوء إلى طريقة القرعة غير العادلة التي قد تؤهّل الجاهل على حساب صاحب الكفاءة… وهو نموذج بدائي في الممارسة الديمقراطيّة يعود إلى ما يسمّى “ديمقراطيّة أثينا” زمن الإغريق التي تقوم على التمثيل الشعبي المباشر أو تقريبا ما سمّاه الزعيم الليبي الراحل العقيد معمّر القذافي بـ”النظام الجماهيري” الذي تسبّب في تفريغ مؤسّسات الدولة الليبيّة وأدّى إلى سقوطها في دائرة جهنّميّة من الاحتراب الداخلي لا تزال مستمرّة منذ عام 2011.

أمّا طريقة إقصاء الأحزاب من الانتخابات المقبلة، فقد يجد لها رئيس الدولة سبلا عديدة، لا علاقة لها طبعا بالتمشّي الديمقراطي السليم. فيمكن أن يمضي في اتّجاه استصدار قرارات بمنع الأحزاب الكبرى التي تنافسه من المشاركة، وفقا لما جاء في تقرير محكمة المحاسبات أو بأيّة طريقة أخرى. كما قد يُعوّل على تفتيت أعمق للأحزاب تدريجيّا عبر التضييق عليها من خلال تحرّكات تلك التنسيقيات الجهويّة المتحدّثة باسمه، فضلا عن تغيير القانون الانتخابي بمرسوم جديد يُلغي التصويت على القائمات الحزبية والمستقلة ويعوّضها بالاقتراع على الأفراد. وهو ما يُشكّل في السياق التونسي الراهن ضربة قاصمة للأحزاب السياسيّة.

هذه إذن بعض ملامح “جمهوريّة قيس سعيّد الجديدة” التي تُقصي الأحزاب فلا تشبه الجمهوريّات. وفي الأثناء قد تدفع البلاد برمّتها ثمنا باهظا لسنوات من السقوط والتدمير والفوضى، توّجها الرئيس سعيّد بمحاولة إضفاء شرعيّة وهميّة على مشروع مسقط لا أحد يدري إلى أين سيحمل البلاد وشعبها… وعندها لا يبقى من أمل سوى تصديق ذلك البيت الشعري الشهير لابن النحوي التوزري القائل “اشتدّي أزمةً تنفرجي، قد آذَنَ لَيلُكِ بِالبَلَجِ”.

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 24 ماي 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING