الشارع المغاربي – لطفي النجار : خلال استضافته في إحدى الإذاعات الخاصّة كشف وزير الشؤون الدينية أحمد عظوم أنّ مواطنا يقوم ببناء جامع بقيمة مليون دينار و200 ألف دينار ويتّسع لستّة آلاف مصلّ، وذكر الوزير في تصريحه الإذاعي أنّ كلفة بناء هذا المسجد تقارب ميزانية الوزارة لصيانة أكثر من خمسة آلاف مسجد وجامع والتي تقدّر بمليون دينار و400 ألف دينار، داعيا الوعاظ والمرشدين الدينيين إلى مزيد التوعية خاصة أنه كان اجدر تخصيص الأموال التي ستنفق في بناء هذا المسجد الضخم لأحد المساجد القريبة الذي يحتاج إلى الترميم وعلى فرش المسجد نفسه بعد بنائه بمبلغ معقول.
لم يمر هذا الخبر دون أن يحدث نقاشا متجدّدا ومتكرّرا في الفضاء العام حول ضرورات إعادة النّظر في مقاربتنا للحقل الديني عموما الذي يبقى في حاجة إلى وقفة تأمّل وإلى مراجعة شاملة أو لنقل صراحة إلى تجديد فعلي في المقاربة وفي الرؤية،لاسيّما مكانة “المسجد والجامع” : الإشكالات، الأدوار والمهمّات، هذا إضافة إلى طرح قضايا الإيمان وعلاقاته الوطيدة بالأخلاق وبالشعور بالواجب وبالمسؤولية الإنسانية أو المدنية.
إنّ الإقدام الفردي على بناء مسجد ضخم بمبلغ فاق المليار من ملّيماتنا يحتاج إلى كلّ ميزانية الصيانة تقريبا لوزارة الإشراف لتجهيزه وتأثيثه يتّسع لستّة آلاف مصلّ في منطقة لا تتوفر على هذا العدد من المصلّين ويفتقر مواطنوها لأبسط شروط التنمية البشرية الأساسية الحيوية كالمدرسة والمشفى والعمل الكريم يطرح أكثر من استفهام حول طرق تمثّلنا للمسألة الدينية وأشكال التديّن عندنا.
في أنسنة الدين
بدءا نرى وجوب الإثناء على جرأة وزير الشؤون الدينية أحمد عظوم الذي اعتبر أنّ بناء مسجد بهذه الضخامة أمر غير ضروري، وهو موقف فكري شجاع يحتاج إلى مواكبة من نخبنا الزيتونية خاصّة والجامعية والفكرية عامة المدعوّة اليوم إلى التوغّل بهدوء ورصانة وحكمة في قضايا التجديد الديني ونفض ما لصق بأشكال الإيمان والتديّن من غبار عصور الانحطاط والتخلّف.
المسجد أو الجامع هي تلك المؤسسة التي تتبنّاها الدولة بشكل رسمي، والتي شهدت موجات من المدّ والجزر طوال تاريخها وبخاصّة في عصرنا الحديث، هذا العصر الذي ثار الحديث فيه عن موقع المسجد في الفضاء العام وعن إشكالات دوره ومهمّاته. المسجد أو الجامع هو فضاء للتعبّد وللتقرّب لله، وهو أيضا مؤسّسة ضرورية في فضاء المدينة يحتاج اليوم إلى عقلنة في شروط تشييده وسعته وجغرافيته.
إنّ الإفراط في “البذخ المعماري” أو الانفلات في تشييد المساجد دون رؤية معقلنة للفضاء ولاحتياجات النّاس الدنيوية والدينية هو بمثابة التفريط في جوهر الدين وأساسه. وهذا الأمر يحتاج اليوم إلى شجاعة ومبادرة جسورة من أهل الفكر والمتفقّهين في الدين حتى يفسّروا للنّاس أنّ الإنسان خليفة الله على الأرض ووجب عليه تحمّل وزر هذه الخلافة عبر سيره في الأرض وإقامة العدل ومساعدة المسكين واليتيم والفقير وابن السبيل حتى تتحقق له إنسانيته و يتقرّب فعليا وروحيا إلى الله. هذه الروحانية والسموّ الأخلاقي للدين الإسلامي التي يمكن أن تتبدّد وتتقلّص أمام نوع من “الكبر” أو النفاق الديني لبعض المنتسبين له الذين لا يجدون غضاضة في الإفراط في التركيز على القشور والأشكال وطمس كلّ روحانية سامية في الإسلام من خلال هذا التبذير المادي الذي كان بالإمكان أن يذهب إلى سدّ حاجات الناس العاجلة من مأكل وملبس وتعليم وصحة ومسكن. إنّ العلاقة مع الله هي أسمى وأرقى من أن تكون “صفقة” تجارية بين العبد وربّه، يبني الأول بيتا ضخما لله لينعم في المقابل بقصر عظيم في جنّات الخلد…هذه محاولة “تحيّل” بشرية سخيفة على الخالق وجهل بلبّ الدين الذي يمكن اختزاله في حديث رائع للنبي الأكرم “ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه“، فما بالك ب“مدينة” يعاني أغلب أهلها شظف العيش والفقر والحرمان.
لابدّ من الخروج من حالة الصمت والنفاق الفكري ومحاولة تبيان الخيط الأصيل من الدين والتوضيح لعامة الناس أنّ التقرّب إلى الله في عصرنا الحالي المتّسم بكلّ أنواع الضعف والهشاشة الحضارية في كلّ مناحي الحياة يمكن أن يكون عبر منافذ أخرى غير “الاستعراض الديني الشكلي“، كما أشار إلى ذلك نور الدين البحيري الذي تجرّأ وصرّح مرّة قائلا :”اللّي دعينالو الناس اللّي تبني في الجوامع وتتفنّن في بناء المساجد وساعات تصرف مليارات قلنالهم راهو ثمّة أبواب أخرى للبر وللخير…علاش ما تبنيوش مبيتات للناس اللي صغيراتهم يكريو مبيتات…..”. الأمر فعلا يحتاج إلى جرأة وإعادة نظر شاملة لاسيّما وقد حقّقنا منذ سنوات “الاكتفاء الذاتي” في عدد المساجد بل تجاوزنا ذلك بكثير وحان الوقت لتشييد المدارس والمعاهد والجامعات.