الشارع المغاربي – بورتري "الرئيس" : حمّه الهمّامي وعبقريّة الفرص الضائعة!

بورتري “الرئيس” : حمّه الهمّامي وعبقريّة الفرص الضائعة!

12 سبتمبر، 2019

الشارع المغاربي – بقلم معز زيّود : يحتفل حمّه الهمّامي، بُعيد أشهرٍ، بمرور خمسين عاما على بدء نشاطه السياسي. قضى منها نحو عشر سنوات في السجون والزنازين صامدًا أمام شرور التعذيب، ومكث مثلها في النشاط السرّي هاربًا من بطش البوليس ومقاومًا نظام الاستبداد. مضت ثمانية أعوام على الثورة دون أن يتغيّر، لكنّ حمّه عجز من استحقاق إلى آخر عن استثمار رصيد سنوات الجمر في زمن الحريّة…

لا يمكن تصنيف حمّه الهمّامي ضمن من غيّروا جلدتهم السياسيّة بعد الثورة. فهو سياسي متمرّد على الدوام، فقد كان الوحيد الذي رفض عام 1988، التوقيع على “الميثاق الوطني” الذي تحيل به رئيس النظام السابق على مختلف الأحزاب والتيارات السياسيّة بما في ذلك حركة النهضة. وبعد سنوات معدودة جُوبه مؤسّس “حزب العمّال الشيوعي التونسي” (POCT) ورفاقه باستئناف الهرسلة البوليسيّة. وفي سنة 1996 صادرت وزارة الداخليّة كتبه من المكتبات وأقدمت على حرقها. كان الهمّامي أيضا آخر سجين سياسي يُقبض عليه ويُركنُ في دهاليز الداخليّة خلال الأيّام الأخيرة قبل هروب بن علي. وتواترت الفرص بعد الثورة، غير أنّ كلّ هذا الرصيد لم يُتح له بناء كيان سياسي قادر على التأثير في صنع القرار.

إعادة إنتاج الفشل

في بداية عام 2011 كان حمّه ورفاقه من أشدّ السياسيّين المنادين بتنظيم انتخابات لإنشاء مجلس تأسيسي، فكان ما كان بعد اعتصامي القصبة 1 والقصبة 2. لكنّ اختبار انتخابات 23 أكتوبر 2011 شكّل انتكاسة موجعة. وبرّر حمّه تلك النتائج المتواضعة جدّا بـ”المال السياسي واستعمال المساجد والدين في الحملات الانتخابيّة وانحياز وسائل الإعلام”… وبدلا من إجراء مراجعات شاملة، اكتفى حزب حمّه في أوائل صيف 2012 بإجراء تعديل طفيف على اسمه لتُحذف منه صفة “الشيوعي” التي ما فتئت جماعة “الإخوان” تُوظّفها في محاربة تنظيم “الرفاق”. ولم “تشفع” زيارة حمّه لأضرحة “الأولياء” في تجاهل نسبه الأيديولوجي في مجتمع ينقلب في طرفة عين على من يوصف بمعاداة معتقداته المحافظة…

تقدّم حمّه “رفاقه” مجدّدا للملمة شتاتهم عبر الإعلان عن تأسيس الجبهة الشعبية يوم 7 أكتوبر 2012، فاضطلع بمهام الناطق الرسمي باسمها ومنسّقها العام. وبعد احتدام الأوضاع زمن حكم “الترويكا” بقيادة حركة النهضة وما آلت إليه من اغتيالات سياسيّة في مقدّمتها اغتيال الشهيد شكري بلعيد، لم يكن هناك شخص آخر يُنازع حمّه قيادة جبهة شعبيّة كان بإمكانها أن تتحوّل إلى قوّة سياسيّة ضاربة.

ومع ذلك توالد الفشل، ولم يستطع حمّه اقتناص فرصة تاريخيّة لمجاراة الأحداث ميدانيا واستثمار الهبّة الشعبيّة المساندة للجبهة في مختلف أنحاء البلاد. وفي انتخابات عام 2014 رشّحت الجبهة الشعبيّة بالإجماع حمّه الهمامي لأوّل انتخابات رئاسيّة مستقلّة تشهدها البلاد. فحصل صاحب شعار “حمّه ولد الشعب رئيس” على المركز الثالث بعد قائد السبسي والمرزوقي بنسبة تقارب 8 بالمائة من الأصوات. ولم تكن تلك النتيجة هزيمة ولا انتصارًا، غير أنّ مخرجات الانتخابات التشريعيّة اقتصرت على وصول جمع من قياديي الجبهة الشعبيّة البارزين إلى البرلمان. وبدلا من إجراء مراجعة جذريّة للنتائج المحدودة من أجل تحديد خارطة طريق لسبل تطوير آليات توسّع الجبهة وانتشارها ميدانيا في مختلف ولايات البلاد ومعتمدياتها وأحيائها، انغمست الجبهة بكتلتها البرلمانيّة وحزامها الحزبي في معارك ظرفيّة معطّلة، فأهملت الأهمّ.

وفي المحصّلة لم يستوعب حمّه الهمّامي ورفاقه أنّ التغيير يمرّ عبر اكتساب الميدان والتحرّك الحثيث في مختلف ربوع البلاد لاستقطاب التونسيّين، لا عبر اختزال نشاط الجبهة في معارضة حركة النهضة وفي التركيز فقط على شنّ معارك قانونيّة وسياسيّة ضدّها، حتّى إن تعلّقت بالأهميّة الكبرى للكشف عن حقيقة الاغتيالات السياسيّة والجرائم الإرهابيّة وتوابعها…

الانشطار والتشتّت!

صحيح أنّ حمّه الهمامي بقي على العهد مع نفسه ومبادئه والخطّ الأحادي لخطابه، لكنّ معادلة الحياة تقضي بتراجع من لا يتقدّم ومن لم يستطع قراءة خارطة التغيّرات التي شهدتها البلاد والعالم بأسره. مازال حمّه لا يرى أيّ لزومٍ لتعديل الخطاب وتطوير آليات التحرّك واستيعاب أهميّة التفاوض من أجل التأثير في القرار السياسي، وكأنّه لا يزال يعيش في طور السريّة.

فماذا فعل حمّه مثلا من أجل أن يكون للجبهة الشعبيّة أو حتّى لحزب العمّال موطأ قدم في الجنوب التونسي الذي يكاد يبقى حكرا على خصومه من حركة النهضة وأنصارها؟!، وأيّة برامج بذلها في الأحياء الشعبيّة للاقتراب ميدانيا من الفئات المهمّشة والمحرومة في مناطق كثيرة من الشمال الغربي للبلاد ووسطها؟!…

لم يستوعب حمّه كذلك أنّ شعار “أنا أو لا أحد”  عفا عليه الزمن، فأدّى إلى تمرّد جمع من رفاق العائلة الفكريّة ذاتها عليه. أصرّ حمّه إذن على خوض هذه الانتخابات الرئاسيّة برصيد تقلّص عمّا كان عليه عام 2014. انفضّ عنه بعض الرفاق في الجبهة الشعبيّة، فبلغ به الأمر حدّ فقدان كتلته في مجلس نوّاب الشعب، بل وخسر حتّى المسمّى الرسمي الذي يشقّ به الانتخابات في طوريها الرئاسي والتشريعي، ليجد نفسه مرشحا مستقلّا رغما عن أنفه. هَجَرهُ رفاق الأمس القريب، ورشّحوا للرئاسة بدلا منه منافسه “الوطدي” منجي الرحوي الذي استيقظ باكرًا يوم إيداع ملفّات الترشح ليتمكّن من حجز الرقم الأوّل لدى هيئة الانتخابات. فهم الرحوي معادلة الثبات والتحوّل أو الفشل والنجاح، فاختار أن يكون شعار حملته الانتخابيّة: “نعم.. نُغيّر”. وترك الباب مواربًا أمام تأويل مكامن التغيير المقصود. أيعني فقط السعي إلى تغيير الأوضاع في البلاد أم أنّه يروم البدء بتغيير الذات لترميم البناء الهشّ للجبهة الشعبيّة؟!.

زعيم حزب العمّال اكتفى من جهته بإعادة إنتاج شعاره السابق بعبارة مغايرة: “يلزمها حمّه” ولا أحد غيره، بمعنى أنّه “لا إمكانيّة للإصلاح إلّا مع حمّه” ودون سواه، وكما هو بالأمس واليوم، ودون أدنى استعداد للتغيير والتطوير. يعتقد الهمّامي إذن أنّه تعرّض للخيانة والخذلان من رفيقه اللدود وأقرب فصيل منافس له داخل الجبهة الشعبيّة. وفي المقابل يردّ الناطق الرسمي باسم ائتلاف الجبهة الشعبيّة الجديد أحمد الصديق هذا الحراك إلى محاولة إنقاذ الجبهة من التلاشي بسبب ما سمّاه بـ”الجمود والعطالة والانقسام والمعارك الجوفاء”. لم يكن غريبًا بعد ذلك أن يُصدّر حمّه الهمّامي هذه الأزمة الداخليّة إلى دوائر خارج الجبهة، وتحديدا إلى رئاسة الحكومة الممثلة تحديدا في يوسف الشاهد واتّهامه بأنّه منح تأشيرة تأسيس حزب جديد يحمل الاسم نفسه لائتلاف قديم. والحال أنّ حمّه  وقع في جُبّ الجمود الذي حَفره لنفسه بنفسه. فأسماء الائتلافات البرلمانيّة والانتخابيّة لا تُسجَّل ضمن قائمة الأحزاب ولا تُنشر في صفحات الرائد الرسمي. وما محاولة بعض رفاقه الاقتراب من أحد جناحي السلطة إلّا ردّ فعل على مركزيّة القرار والتهميش الداخلي…

 

الفرص المهدورة

واصل حمّه اعتماد الخطاب الراديكالي ذاته في حملته الانتخابيّة الراهنة، فأعلن مثلا عن التزامه بالإيقاف الفوري للمفاوضات مع الاتّحاد الأوروبي حول اتفاقية التبادل الحرّ والشامل والمعمّق (الأليكا) في صورة فوزه في الانتخابات. والحال أنّه كان بإمكانه على سبيل المثال أن يتعهّد بتنظيم استشارة وطنيّة واسعة حول هذه الاتفاقية الخطيرة لاكتساب شرعيّة تسمح بإعادة النظر الشامل في بنودها، عوضا عن إعلان حرب المقاطعة الوهميّة لأوّل شريك اقتصادي للبلاد!.

هكذا بدا حمّه الهمّامي ملتبسا بما يُروّج عنه بشأن الاقتصار على الاضطلاع بدور تنشيط السيرك السياسي السائد في تونس اليوم، متوهّمًا بما يختزنه من إفرازات “دغمائيّة” أنّه يمتلك قوّة طرح لا يحوزها غيره. وما وعد به بخصوص “التخفيض في راتب رئيس الدولة وامتيازاته وجراية تقاعده” ليس برنامجا انتخابيًا يُعتدّ به ويمكن أن يُعالج مشاكل تونس المتفاقمة.

والأكثر غرابة من كلّ ذلك أنّ راديكاليّة حمّه لم تمنعه من محاباة مافيا المال والإعلام واستهداف القضاء من أجل مجرّد استضافته في منبر قناة تلفزيونيّة، انطلاقا من العمل بمقولة “عدوّ عدّوي صديقي”، بصرف النظر عمّن يكون.

هكذا ظلّ حمّه الهمّامي المتمرّد على الدوام عاجزًا عن تقدير المهمّ وإدراك الأهمّ، في زمن لا يُرجّح كفّة من يكتفي بالتعويل على ظاهر الخطاب ويُعادي سنّة التغيير والتطوّر، ولا يمنح فرصا جديدة لمن يستخدم عبقريّته في رفض استيعاب الدرس…

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING