الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: تناهز ميزانية وزارة الصحة العمومية دون اعتبار الموارد الذاتية للمؤسسات العمومية 2544.43 مليون دينار مما يمثل نحو 5.4 % من الميزانية العامة للدولة، تصرفا وتجهيزا. وتعكس هذه النسبة الضعف الفادح للتمويلات المرصودة لأحد اهم القطاعات في البلاد باعتبار شبه انعدام وزنها المالي في سياق الحفاظ على صحة 11 مليون مواطن اغلبهم خارج منظومات التغطية الصحية، من جهة والقسم الاكبر منهم يعاني الامرين جراء اهتراء المنظومة الصحية العمومية الذي تفاقم خلال الاعوام الاخيرة، من جهة اخرى.
وتبلغ نفقات الاجور لوزارة الصحة 1990.8 مليون دينار – على موارد الدولة – مما يعني انها تشكل نسبة 78 % من الميزانية والبقية أي 553 مليون دينار، لا غير، مخصص للبنية التحتية والتجهيزات، بمختلف انواعها. كما تفيد معطيات الميزانية بأن مرصودات الرعاية الصحية الاساسية هي في حدود 426.4 مليون دينار في حين لا تتجاوز الاعتمادات المخصصة للخدمات الصحية الاستشفائية 952.6 مليون دينار وتلك المتعلقة بالبحث والخدمات الصحية الاستشفائية الجامعية 866.5 مليون دينار. ونسوق هذه المعطيات والارقام الضحلة دون ادنى تعليق…
وفي خضم هذه البيانات المالية الصرفة التي تبين ما اَلت اليه اوضاع قطاع الصحة العمومية، من تدهور فان وزير الصحة عبد اللطيف المكي ما انفك يردد ان الاوضاع الصحية في البلاد تحت السيطرة وان تونس قادرة على تطويق فيروس “كورونا” مؤكدا ان دول كبرى كفرنسا استلهمت التجربة التونسية في هذا المجال للتعامل مع الوباء الذي بات يهدد العالم باسره.
غير ان التدقيق في وضعية القطاع الصحي ومكوناته تحيل دون ادنى شك الى ان تونس عاجزة اليوم عن مقاومة أي وباء او مرض حتى لو تعلق الامر بأبسطها بحكم افلاس معظم المؤسسات الصحية الاساسية كالصيدلية المركزية التي تبلغ ديونها غير المستخلصة 1.9 مليار دينار ومعاناة الصناديق الاجتماعية من ثغرات مالية تقدر بأكثر من 4 مليارات دينار بسبب انهيار المنظومات المالية للمستشفيات وعجزها على الايفاء التام بتعهداتها. وعلى الرغم من تطوّر ميزانيّة وزارة الصحّة خلال السنوات الخمس الأخيرة بنسبة 30.9%، قإنّ هذا المؤشّر لا يعكس الوضع الحقيقيّ في هذا القطاع الحيويّ. فالغوص أكثر في تقرير الميزانيّة التفصيليّة لهذه الوزارة، يكشف أبعاد السياسة الحكوميّة القائمة على تقليص تدخّلها ودعمها للصحّة العموميّة. فالموازنات المخصّصة لوزارة الصحّة مثلت سنة 2019 زهاء 5.1% من إجماليّ الميزانيّة العامّة للدولة، علما أن 87% منها مخصصة لنفقات التصرّف والتسيير في حين لم تتجاوز النفقات المخصّصة للتنمية والتطوير 269 مليون دينار أي ما نسبته 13% من ميزانيّة وزارة الصحّة فقط.
بل ان التمويل العموميّ لمخصّصات التنمية الصحيّة انخفض بنسبة 27%. فالتقشّف الحكوميّ في هذا المجال الذّي يرتبط بصحّة التونسيّين وحياتهم، إضافة إلى تراكم ديون المستشفيات العموميّة والتي بلغت خلال سنة 2019 حوالي 700 مليون دينار (وهو ما يمثّل تقريبا ثلاثة أضعاف مخصّصات التنمية)، ألقى بظلاله على تطوّر البنية التحتيّة الصحيّة ومدى قدرة النظام الصحيّ العموميّ على تقديم الخدمات اللائقة للمواطنين. فخلال السنوات العشر الأخيرة، وعلى الرغم من زيادة عدد السكّان بمليون شخص تقريبا، فان المرافق الصحيّة العموميّة لم تتطوّر بما يتناسب مع هذا النموّ الديمغرافيّ حسب الأرقام الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء اذ لم تشهد البلاد خلال العقد المنصرم سوى إنشاء ثلاثة مستشفيات عموميّة ليصبح العدد الإجماليّ 14 مستشفى لما يزيد عن 11 مليونا ونصف مليون ساكن، في حين لم تشهد المعاهد والمراكز الصحيّة المختصّة البالغ عددها 21 منشأة، أيّ تطوّر منذ سنة 2008. أمّا المستشفيات الجهويّة والمحليّة، فقد انخفضت أعدادها تباعا من 33 إلى 32 بين سنتي 2008 و2016، ومن 109 إلى 108 مستشفى محليّا خلال نفس الفترة.
ولم تقتصر تبعات السياسة الحكوميّة “التقشفيّة” في القطاع الصحيّ العموميّ على البنى التحتيّة، بل امتدّت ارتداداتها لتشمل العنصر البشريّ وخصوصا على مستوى الأطبّاء. خيار الدولة في شدّ حزام مصاريفها في هذا المجال أدّى إلى إحداث نزيف حقيقيّ صلب منظومة الصحّة العموميّة. إذ وبموازاة تطوّر عدد الأطباء التونسيّين البالغ عددهم حسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء؛ 14892 طبيبا سنة 2017، بنسبة نموّ تُقدّر ب22.5 % خلال العشريّة الأخيرة، فإنّ حصيلة تطوّر عددهم في المرافق الصحيّة العموميّة لم تتجاوز خلال نفس الحقبة 14 % كمعدّل عام. لتكون النتائج كارثيّة انطلاقا من سنة 2011، إذ انخفض عدد الأطباء في المستشفيات العموميّة من 6971 طبيبا إلى 6753 في سنة 2017 حسب نفس المصدر.