الشارع المغاربي: في كلمته التي ألقاها خلال اجتماع مجلس الأمن القومي وصف رئيس الجمهورية ما حدث في جزيرة جربة بالعمليّة الإجراميّة وهو الوصف الذي استعمله وزير الداخلية في نقطته الإعلاميّة والحال أنه لا يمكن وصف ما وقع إلا بالعمليّة الإرهابيّة ذات الأهداف الدينيّة السياسيّة التي لا يمكن أن تخطئها العين ويبدو ذلك من خلال:
1) اغتيال الأمني زميلَه بقصد الاستحواذ على ذخيرته من الرصاص الحيّ، تصرّف يستهدف الحصول على أكبر قدر من الخراطيش، ممّا يشير إلى أن قتل الزميل ليس إلا مرحلة أولى ستتلوها مراحل أخرى من القتل المعمّم، وهو ما لا يستقيم مع وصفها بالحادث الإجرامي لأن الجرائم العادية لا ترتكب في حق الأقارب والأصدقاء والزملاء إلا إذا كانت لها مبرّرات مالية أو جنسية كما أنها لا تكون بالقتل على الهويّة.
2) توجّه القاتل إلى معبد الغريبة في ما بعد يدلّ على أن قتل زميله ليس إلا استجابة وتنفيذا لِما تنصّ عليه عقيدته التي تصف الأمنيين بالطواغيت وبأنهم رأس الكفر وحكمهم حكم المرتد الذي يجب قتله بإقامة الحدّ عليه. لهذا السبب بالذات لا يتورّع الإرهابيون حتى عن قتل أقرب الناس إليهم كالأب والأخ فضلا عن الصديق أو الزميل. فنُصرة الشرع تحتّم عليهم قتل المعترض لأنهم مأمورون دينيا بتطبيق شرع الله في أرضه. في هذا المعنى يقول الغنوشي في كتاب له صدر بتونس سنة 2011 عن قادة الإرهاب الذين ابتدعوا مصطلح الطواغيت في معناه الذي يقصد به رجال الأمن وغيرهم من حملة السلاح في الدولة: “وتقدّم كتابات سيد قطب والمودودي والبنا مواد صالحة لاستخدام القوّة سبيلا للإطاحة بمنكر الدولة العلمانيّة”(1).
3) المحطة النهائيّة للإرهابي هي معبد الغريبة حيث يلتقي اليهود الذين يأتون من مختلف البلدان لأداء شعائر عبادتهم. واختيار هذه المناسبة والمكان هدف مثالي لإضعاف النظام بعد الحملة التي تعرّض لها باتهامه بالعنصرية وإرباكه في ظلّ الصعوبات التي يعاني منها في تعامله مع البنك الدولي وبقية المنظومة الأوروبية.
4) القتل المعمّم لِمن كان حاضرا دون تفرقة هو أسلوب الإرهابيّين في استعمالهم السيارات المفخخة ولِمن يفجّرون أنفسهم في التجمّعات البشريّة. وفي حالتنا هذه نجد أن الإرهابي استحوذ على مخزن خراطيش زميله حتى يتمكّن من قتل أكبر عدد ممكن. كما أن إطلاقه النار لم يكن مصوّبا تجاه هدف محدّد بحيث تنتفي الصبغة الإجراميّة عن هذا الفعل.
5) تروّج أخبار تفيد بأنه تحوم حول العون الإرهابي شبهات تبنّيه الخطاب التكفيري وبأنه تمّ بحثه لدى الإدارة المختصة وهو أمر تؤكّده مؤشّرات عديدة من بينها الاختراق الذي عرفته المؤسّسة الأمنية طوال العشر سنوات الماضية من حكم حركة النهضة. والأخبار الدالة على فظاعة ما تم لا عدّ لها ولا حصر يعرفها المواطنون جميعا رغم التكتّم الذي عليه مؤسّسات الدولة خصوصا بعد 25 جويلية 2021 من ناحية. ومن ناحية أخرى قامت وزارة الدفاع في فترة حكم الإخوانجية بإحداث بيوت للصلاة في الثكنات ولمّا احتجت القوى المدنيّة على ذلك برّر الناطق الرسمي باسم الوزارة بلحسن الوسلاتي ذلك بأنها انطلقت في إحداث بيوت صلاة في مرحلة أولى وبأن الهدف من ذلك إبعاد العسكريين عن خطر الاستقطاب والتأثر بالخطاب الديني الموجّه مردّدا ما جاء على لسان سامي براهم أحد النهضويين في قوله بأن تخصيص مساجد داخل الثّكنات أفضل طريقة لحماية الجنود من الاستقطاب والخطاب الدّيني التحريضي أو الاستلابي(2). وليُقس على ذلك ما لم يقل. علّمنا التاريخ أن فتح أبواب القوى الحاملة للسلاح لِما هو مُختلف فيه كالدين والسياسة خطير على وحدتها لإمكانية نقل هذه الخلافات إلى صفوفها ومدمّر لتلاحمها وانضباطها في أداء مهامها حمايةً للوطن ومواطنيه بصرف النظر عن انتماءات افرادها السياسيّة والعقديّة.
6) الثابت لدينا من خلال ما ذُكر ومن خلال قراءة الأحداث وملابساتها وأهدافها ووجهتها أن القاتل ينتمي إلى الفضاء الإسلامي الحركي الذي تنضوي ضمنه تيارات متعدّدة بداية من اليسار الإسلامي الذي أصبح رابطة تونس للثقافة والتعدّد وصولا إلى حزب التحرير وما بينهما من دواعش وسلفيّة جهادية وبوكو حرام وغيرها. ورغم أننا لم نسمع بأنه صدر عن القاتل أثناء إطلاقه الرصاص ما يفيد بانتسابه إلى هذا الفضاء من تكبير أو رفع شعارات تفيد بانتسابه فإننا بحكم التجربة نعتقد أنه إسلامي حركي. يدلّ على ذلك أن الفترة التي تحرك فيها هي الفترة التي شهدت اعتقال قيادات من حركة النهضة وتعرّضها للمساءلة القانونية صحبة حلفائهم، بحيث تعتبر هذه العملية ردّا غير مباشر على السلطة وتحذيرا لها من المواصلة في هذا النهج. ولا ننسى أن الصحبي عتيق أحد قياداتها هدّد يوما ما بإراقة الدماء في شارع بورقيبة إن اعتُدي على الشرعية التي تمثلها حركة النهضة.
7) نشرت حركة النهضة على صفحتها في فايسبوك بيانا أمضاه منذر الرويسي نائب رئيسها المعتقل جاء فيه قولها: “تدين بكل قوة هذا الاعتداء الجبان، وتؤكد رفض كل مظاهر وأشكال العنف والإرهاب والكراهية وتدعو إلى تعزيز قيم التعايش والتضامن لمواجهة كلّ ما يتهدّد تونس وشعبها في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها” وهو كلام إنشائي لا لون ولا طعم ولا رائحة له تعوّدنا سماعه منها. فقد اكتفت أيام كانت في الحكم وكانت أجهزة الدولة في يدها وكان بإمكانها بل من واجبها كسلطة حاكمة أن تتعقّب الإرهابيّين وتحاكمهم باستنساخ بيانات الشجب والإدانة وفي نفس الوقت تستّرت على ذبح جنودنا وأمنيّينا وأبنائنا في الجبال وفي الطرقات. ويذكر الجميع أن تهريب أبا عياض تمّ بقرار من القيادي النهضوي علي العريض وزير الداخلية أيامها وكذلك تمت المسيرة التي انطلقت من جامع الفتح في اتجاه السفارة الأمريكية للهجوم عليها تحت حماية أمنية. كما أن أحد الإرهابيين الذي كان مختفيّا في منزله فر منه تاركا قهوته ساخنة بعدما وصلته معلومة بقدوم قوات الأمن للقبض عليه ففرّ تاركا قهوته ساخنة ممّا يفيد بأن الاختراق حاصل في كل المستويات. لكلّ ما ذكر نرى أنه لا وزن ولا اعتبار لبيانات حركة النهضة إذ تعوّدنا منها سماع القول والقول المضاد في نفس الوقت. فالغنوشي تبرأ من المجموعة الأمنية التي حاولت الانقلاب على السلطة سنة 1987 إلا أنه عاد في ما بعد إلى امتداحها والتعويض لأفرادها، بحيث لا نحمل على محمل الجدّ المواقف السياسيّة الآنيّة للحركة وإنما هناك خط إيديولوجي يتضح من الأدبيّات المتداولة لديهم وهو عمدتنا في تقييم مواقفها.
8) في تقديرنا أن الجهة الوحيدة المستفيدة ممّا وقع هي حركة النهضة فــــــــــ: *داخليا ستحشد هذه العملية منظوريها وأنصارها مجدّدا بعد انفراط عقدها من خلال إحياء مفهوم الجهاد ضدّ الكفّار واليهود أساسا وهو واحد من الأسس التي يقوم عليها الفكر الإخواني ويسمّيه بعضهم الفريضة الغائبة التي يجب إحياؤها. أمّا من جهة السلطة فهذه العملية الإرهابية تضعها في خانة من فتح أراضيه للإسرائيليين مدافعا عن سلامتهم ممّا يقدح في خطاب رئيس الجمهورية الذي لم يتوقّف عن إظهار معاداته لإسرائيل بسبب وبلا سبب إلى الحدّ الذي قال فيه رئيس فرنسا في تغريدة له بأنه سيواصل محاربة الكراهية المعادية للسامية بلا هوادة في اتهام مبطن بأن حكم 25 جويلية معاد للسامية .
*وخارجيا الإرهاب الذي حصل في جربة يكشف ما عليه الدولة من ضعف وهشاشة نتيجة اختراق أجهزتها الحسّاسة من طرف حركة النهضة التي لم تتنازل طوال العشر سنوات الماضية عن وزارة الداخلية، حيث غرست أعوانها في كلّ مفاصلها إلى الحدّ الذي وصل فيه أمني إلى ارتكاب ما ارتكب ممّا يجعل سلطة 25 جويلية غير مؤتمنة الجانب لدى الآخرين ولا يمكن الاعتماد عليها لا في مواجهة الإرهاب ولا في غيره لأنها لم تشرع بعد سنتين كاملتين من امتلاك كلّ السلطات في معالجة ملف التعيينات بكلّ الوزارات خصوصا منها الأسلاك الحاملة للسلاح في الدفاع والأمن والديوانة. وللعلم فإن جمال عبد الناصر لمّا واجه الإخوان المسلمين استبعدهم واستبعد أقاربهم إلى الدرجة الثالثة من الانتماء إلى القوات الحاملة للسلاح والإعلام والتعليم. ولهذا السبب لم يتمكنوا من تنفيذ جرائمهم الإرهابية إلا في عهد السادات الذي اغتالوه بعد أن مكّنهم من العمل في كل المجالات. ذاك ما علّمنا التاريخ ونتمنى أن يستفيد منه حكام يبدو أن الزمن لديهم توقف يوم 25 جويلية 2021.
ليس لنا أن نختم هذا المقال إلا بالقول إنّ بلادنا إن بقي حالها على ما هو عليه اليوم مُقْدِمة على عمليّات إرهابيّة أخرى أكثر جسامة وأشد خطورة لأن حكم 25 جويلية 2021 لم يعالج ملف حركات الإسلام السياسي ومدى ارتباطه بانتشار الإرهاب الذي احتلت فيه تونس المقدّمة من بين الدول المصدّرة للإرهابيّين بل اكتفى باستعماله أداة لتجميع الأنصار. فتارة يلقي القبض على هذا القيادي وأخرى على ذاك ليطلق سراحه بعد فترة وجيزة فضلا عن أن الملفات التي تحمل تهديدا للأمن القومي كملف الاغتيالات والتنظيم السري والتمويل والجمعيّات الخيريّة والدعويّة لم تطرح بجدية إلى حدّ الآن. والغريب أن هذه السلطة ما زالت تصرّ على حماية فرع اتحاد العلماء المسلمين الذي أسّسه القرضاوي ويرأسه عبد المجيد النجار القيادي في حركة النهضة وكاتب الأرضيّة العقائديّة التكفيريّة للحركة المسماة “الرؤية الفكريّة والمنهج الأصولي لحركة النهضة التونسيّة” رغم أن قوى مدنية كثيرة على رأسها الحزب الدستوري الحرّ طالبت بإغلاقه منذ مدّة وما زال أنصار الحزب معتصمون أمام مقرّه منذ سنتين متواصلتين. في شهر فيفري الماضي عقد حزب التحرير مؤتمرا تحت حماية السلطة التي عنّفت من تجمعوا قرب مقرّ الاجتماع للاحتجاج، علما أن هذا الحزب انقلابي بامتياز ويستهدف الاندساس في الجيش لتيسير الاستحواذ على السلطة عن طريق الانقلابات. ولهذا السبب بالذات حوكمت قياداته في كل البلاد العربية ولا نجد له حضورا قانونيا إلا في لبنان لأسباب طائفية خاصة به وفي تونس لخلل في الرؤية لدى حكام ما بعد 25 جويلية 2021.
——————
الهامش:
1)”الحركة الإسلامية ومسألة التغيير” راشد الغنوشي، دار المجتهد للنشر والتوزيع، طبعة تونس الأولى سنة 2011، ص 30.
2) مقال “مساجد في الثكنات العسكرية وجمعيات لائكية تندّد” رابطه: https://www.jaridatelfejr.com/2015/06/27/مساجد-في-الثكنات-العسكرية-وجمعيات-لائ/
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 16 ماي 2023