الشارع المغاربي – حادثة سيدي حسين وتداعياتها: حالات معزولة أم قمع منهجي؟/ بقلم: معز زيود

حادثة سيدي حسين وتداعياتها: حالات معزولة أم قمع منهجي؟/ بقلم: معز زيود

قسم الأخبار

18 يونيو، 2021

الشارع المغاربي: كشفت حادثة الاعتداء والإذلال الرهيب التي مارستها عناصر بوليسيّة ضدّ مراهق قاصر في منطقة سيدي حسين كمّ العيوب المتأبّطة بالمؤسّسة الأمنيّة. فبدا خصوصا أنّها لم تتخلّص من تركة الممارسات القمعيّة للنظام الاستبدادي السابق. كما انكشف، في الآن ذاته، أنّ المزايدات من هذا الشقّ أو ذاك لا تزال عملة رائجة مهما كانت حدّة الأزمات السائدة…

أظهرت الأحداث الأخيرة في تونس أنّ قوّات الأمن تبدو متشابهة إلى حدّ بعيد حتّى بين أصغر دولة وأكبرها. ولا أدلّ على ذلك من تواتر الانتهاكات البوليسيّة الرهيبة، خلال الأشهر الأخيرة، في الولايات المتحدة الأمريكيّة نفسها، على الرغم من أنّ قوّاتها الأمنيّة تعدّ إحدى أكثر أجهزة الشرطة تدريبا وحِرفيّةً على الصعيد الدولي. فممارسة العنف تندرج ضمن آليّات عمل المؤسّسات الأمنيّة في كافّة بلاد العالم، وهو ما يُعرف بالعنف «الشرعي» و»المحمي» بقوّة القانون. وهنا تحديدا تكمن الإشكاليات المتعلّقة بمعادلة ضبط النفس والتناسب في استخدام القوّة لإنفاذ القانون وحفظ النظام، بعيدا عن سوء المعاملة والمسّ بالكرامة البشريّة وشتّى ضروب التعذيب التي في حال تواترها من شأنها أن تُحوّل ما هو شرعي إلى سياسة دولة!.

حالات معزولة أم قمع منهجي؟

العنف البوليسي ليس جديدا في تونس، بل يُعدّ واقعا قائما على امتداد العقود الماضية. ومع ذلك فقد كشفت الأحداث الأخيرة أنّه لم يعد بالإمكان التغطية على هذه الحقيقة المستبطنة دون أن تكون معلنة. وبعيدا عن الشعارات والمزايدات المتداولة ومواقف هذا الشقّ أو ذاك، علينا أن نتساءل عمّا يُمكن أن يُحوّل ممارسات العنف الفرديّة إلى سياسة قمع منهجيّة يمارسها منظورو المؤسّسة الأمنيّة وتتحمّل مسؤوليّتها الدولة برمّتها؟.

لا ريب أنّ هناك عوامل عديدة تجعل من القمع البوليسي سياسة منهجيّة، وتتمثّل أساسا لا فقط في تكرار تلك الممارسات العنيفة والمنتهكة لكلّ الضوابط المهنيّة والحقوقيّة، وإنّما كذلك في سعي المؤسّسة الأمنيّة والهياكل القريبة منها مثل النقابات الأمنيّة إلى تبرير تلك الأفعال المريبة والتغطية عليها بشكل دائم. وهو ما يمكن أن يُمارس عبر وسائل عديدة على غرار المغالطات الإعلاميّة، كما هو الشأن بالنسبة إلى البلاغات الصحفيّة التي أصدرتها وزارة الداخليّة بشأن حادثة الاعتداء العنيف على طفل منطقة سيدي حسين وجرّه وتعريته. ثمّ أثبتت الفيديوهات المتداولة في شبكات الميديا الاجتماعيّة مدى المغالطات التي تتضمّنها تلك البلاغات الرسميّة، إلى درجة أنّها أضحت محلّ تندّر وسخرية.

ماذا كان سيحدث إذن لو لم يتمّ تصوير حادثة تعرية ذلك المراهق وترويج تلك الفيديوهات بشكل واسع؟ هل كان بالإمكان عندها تفنيد رواية وزارة الداخليّة كليّا بالحجج الدامغة؟ طبعا لا، فعلى العكس تماما، ربّما أصبح أيّ شاهد عيان يُقرّ بالانتهاكات الأمنيّة محلّ مساءلة بعد أن تُوجّه إليه تهمة الادّعاء بالباطل. وهو ما قد يجد آذانا صاغية لدى بعض القضاة! كما أنّه من المرجّح أن يكون مصير ذلك الطفل إيداعه بإحدى الإصلاحيّات في انتظار محاكمته وسجنه!. وفي حالة غابت تلك الفيديوهات المنتشرة كاللهيب على صفحات «فيسبوك» لما جدّت أيضا أحداث شارع الحبيب بورقيبة يوم السبت 12 جوان أصلا.

يجرّنا هذا الطرح إلى العامل الأكثر تأثيرا في تحديد الطبيعة المنهجيّة للانتهاكات البوليسيّة، وهو ما يكمن أساسا في مسألة «الإفلات من العقاب» التي يحظى بها الجناة من ممارسي القمع والتعذيب وسوء المعاملة. ولا يخفى أنّ هذا الأمر يجري في تونس عبر الإعلان عن تشكيل لجان تحقيق، كثيرا ما تكون صوريّة من قبيل ذرّ الرماد على الأعين وبهدف امتصاص حالات الغضب والاحتقان الظرفيّة، لا أكثر. وفي أحيان كثيرة يؤدّي ذلك إلى سرعة تبخّر أعمال تلك اللجان وضمور نتائجها، ولا سيّما في ظلّ غضّ البصر لدى بعض منظوري الجسم القضائي لاعتبارات متشعّبة قد تتعلّق أهمّها بالتحالفات القائمة في هذا المضمار. وممّا يدلّ على ذلك ما تشهده ملفات العديد من الضالعين في ممارسة التعذيب قبل الثورة من تعويم ومماطلة إلى حدّ اليوم. وهو ما يمكن توصيفه بـ»الخطيئة الأولى» التي أدّت إلى الفشل في إصلاح هذا المرفق العمومي الجوهري ووضعت مطبّات وعراقيل عدّة في مسار بناء الأمن الجمهوري.

من المؤسف إذن الإقرار بأنّ مؤشّرات وجود سياسة قمع منهجيّة تبدو متوافرة اليوم بالنظر إلى العوامل السالفة الذكر، لكنّها قد تحتكم اليوم إلى ممارسات قمعيّة متوارثة في حرم وزارة الداخليّة، وقد ترتبط كذلك بتوازنات داخل ماكينة المؤسّسة الأمنيّة أكثر من أن تكون نتاج تعليمات فوقيّة مثلما يُروّج البعض…

ولعلّ الصدمة الأخيرة لأحداث منطقة سيدي حسين تُمثّل حلقة مهمّة في تعديل بوصلة وزارة الداخليّة ومنظوريها، على الرغم من أنّ الأوضاع الراهنة، ولاسيما الأزمة السياسيّة، لا تُشكّل عوامل مساعدة على تحقيق الحدّ المقبول من عمليّة الإصلاح المنشود.

مسؤوليّة الجميع

هكذا إذن أدّت ممارسات القمع الفظيعة التي ارتكبها بعض أفراد الشرطة أو قوات التدّخل ضدّ مراهق قاصر بمنطقة سيدي حسين إلى قلب المعادلة أصلا. فقد باتت البلاد على كفّ عفريت، وانقلبت صورة الأمن إلى درك غير مسبوق. يحدث ذلك على الرغم من أنّ هؤلاء الأمنيّين هم أنفسهم من يقفون في الصفوف الأولى لمكافحة الجريمة والإرهاب وضرب استقرار البلاد. ومن دونهم، أي من دون وجود أمن جمهوري، لا مجال لاستتباب الأمن والحفاظ على النظام العام واستمرار الحياة بشكل طبيعي بعيدا عن الاحتراب الداخلي…

وفي ظلّ هذه الأحداث المؤسفة، تساقط الكثيرون، وفي مقدّمتهم السياسيّون ثمّ العديد من النخب من شتّى المجالات، في خندق الاستقطاب والانقسام الذي يُخيّم على البلاد. فإمّا السقوط في التهويل أو التهوين، دون أدنى تبصّر وتعقّل ورصانة وموضوعيّة ومراعاة لمصالح البلاد. ومن الطبيعي في هذا المناخ غير السليم أن تعتبر السلطة ومن يسير في فلكها أنّ من يُروّج لفداحة القمع البوليسي في تونس كما حدث مؤخرا إنّما هو من قبيل المزايدة والمتاجرة السياسيّة المعلنة الأهداف أو الخفيّة. وفي المقابل، فإنّ الوقوف على ما تميّزت به معظم الفرق الأمنيّة في أحداث شارع الحبيب بورقيبة من ضبط للنفس وحِرفيّة في صدّ غضب المحتجين في أغلب الأحيان، سيُؤوّله من يناصبون العداء للحكومة مجرّد تملّق للسلطة وللائتلاف الحاكم!. ففي تونس اليوم ينبغي أن يكون المرء إمّا أبيض أو أسود، مع أو ضدّ، مناصرا أو معاديا، تماما مثل القطعان المطأطئة رؤوسها في طريقها إلى مأواها الليلي وراء الرعاة وكلاب الحراسة.

يُفترض ألّا يتعلّق الأمر إذن بتسجيل نقاط ضدّ هذا الهيكل أو القطاع أو لصالح ذاك في مثل هذه القضيّة الوطنيّة. ففور سقوط أوّل شهيد من قوّات الأمن في مكافحة الإرهاب، لا قدّر الله، ستعود ماكينة النقابات الأمنيّة إلى النحيب على مشروع القانون المتعلّق بجزر الاعتداءات على القوّات المسلّحة الذي تؤسّس بعض بنوده للإفلات من العقاب رغم حيثيّاته المشروعة. وربّما تلتجئ بعض تلك النقابات إلى الخروج عن القانون واستعراض القوّة مثلما فعلت سابقا، دون أدنى محاسبة. ولا يخفى أنّ بعض تلك النقابات كثيرا ما سمحت لنفسها بالتدخّل في الشأن السياسي لخدمة بعض الأحزاب المهيمنة. ودليل ذلك أنّها لم تُحرّك ساكنا حين هبّ قياديّ بإحدى هياكلها في صفاقس متلفّظا بخطاب سياسي عنصري وتمييزي وأقلّ ما يُقال فيه أنّه يستبطن توجّهات متطرّفة لا تختلف كثيرا عن خطاب الجماعات التكفيريّة…

خندق المزايدات

رغم كلّ ذلك من شرّ الأخطاء طبعا السقوط في داء التعميم بغاية اسهداف المؤسّسة الأمنيّة وجعلها بمثابة كبش فداء لمسار الإخفاقات السائدة. وهو ما يعني أيضا أنّ هناك مسؤوليّة كبرى يتحمّلها كافّة المتربّعين على المؤسّسات السياسيّة للبلاد قبل غيرهم، بدءا برئيسي الحكومة والجمهوريّة والبرلمان. وفي حال تواصلت الانقسامات وعمّت المزايدات من هنا وهنا، فإنّ الأوضاع قد تتعكّر أكثر ممّا هي عليه اليوم على كلّ الأصعدة. ومن المؤسف أنّ ما حدث الأسبوع الماضي قد انعكس سلبا سواء على طبيعة النقاش العام الذي أضحى أقرب إلى الغوغاء غير المسؤولة. فمن المعيب مثلا أن توصف وزارة الداخليّة في إحدى القنوات التلفزيونيّة بـ»وزارة قوّات الاحتلال» أو يجري الحديث عن الفرق الأمنيّة بكونها «مليشيات بوليسيّة» متخصّصة في تهديد سلامة المواطنين.

والمعيب أكثر من ذلك أنّ الإضرار بالصورة المترهّلة أصلا للبلاد لم يقف عند شباب غاضب أتيحت له فرصة المشاركة في منابر إعلاميّة، بل بلغ الأمر حتّى كبار الشخصيات السياسيّة. فقد أضحت الديمقراطيّة الوحيدة في البلاد العربيّة محلّ تندّر، بعد أن قارنها أحد كبار مسؤوليها بالممارسات البشعة للمارينز في «سجن أبو غريب» في العراق زمن الاحتلال الأمريكي. هذا ما تناقلته وسائل الإعلام الأجنبيّة مثلا عن النائب الأوّل لرئيس مجلس نوّاب الشعب طارق الفتيتي. فلو تلفّظ بهذا التوصيف أحد السياسيّين المعارضين أو حتى كاتب أو صحفي أو مواطن عادي لكان الأمر مفهوما ولجاز قبول أيّ موقف أو رأي مهما كانت درجة المبالغة التي يستبطنها. أمّا أن يتلفّظ بمثل هذا التوصيف النائب الأوّل لرئيس البرلمان المعروف بتقلّباته من أيّام حكم التجمّع إلى غاية اليوم، فإنّ الأمر لا بدّ أن يعكس ما تردّت إليه وتساقطت نخب الدولة التونسيّة من غباء مستحكم وجهل عميق ومزايدات فجّة واستهتار عظيم بسمعة البلاد وصورتها في الخارج، وتونس على أبواب الموسم السياحي بكلّ ما يشكوه من صعاب. فالنتيجة المباشرة لذلك الهذيان غير المحسوب أنّ الكثير من وسائل الإعلام الأجنبيّة أخذت تتحدّث عن سجن «أبو غريب» التونسي، نقلا عن هذا المتحدّث المرموق باسم المؤسّسة التشريعيّة التونسيّة.

لقد دقّت الأحداث الأخيرة ناقوس الخطر مجدّدا، وحوّلت وجهة التململ الشعبي من الزيادات في الأسعار إلى حالة احتقان متنامية ضدّ مؤسّسات البلاد وفي مقدّمتها وزارة الداخليّة. وهو ما قد ينذر بأيّام عصيبة في قادم الأيّام. ينبغي كذلك تبصّر جملة الرسائل المنجرّة عن ترويج مشاهد تعرية طفل تفصله أعوام عن سنّ الرشد وجرّه وضربه بقسوة شديدة. قد يكون من ارتكب تلك الممارسات الإجراميّة مريضا نفسيّا أو شخصا ساديّا يتلذّذ بتعذيب الآخرين أو يحاول ترهيب رفاق الضحيّة. وفي جميع الحالات، من الضرورة التزام الجدّية في المسار القضائي لمعاقبة الجاني أو الجناة دون إبطاء. وهو ما قد يوجّه رسائل طمأنة من شأنها استعادة مؤسّسات الدولة بعض الثقة المفقودة لدى الشباب المهمّش في الأحياء المفقّرة على مرّ الأعوام. أمّا في حالة تعويم هذه القضيّة ومثيلاتها، فإنّ مآل الغضب المتعاظم إزاء المؤسّسة الأمنيّة قد يتحوّل إلى خطر داهم يستهدف الجميع. وليس غريبا تماما أن تستثمره الجماعات الإرهابيّة والعصابات الإجراميّة، بعد أن بات العنف المنظّم ظاهرة معلنة تُنبئ بالأسوأ…

نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 15 جوان 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING