الشارع المغاربي – حول‭ ‬طرح‭ ‬قضيّة‭ ‬الانتماء‭ ‬المذهبي‭ ‬لمؤسّسة‭ ‬الإفتاء‭ ‬في‭ ‬تونس‭:‬ أيّة‭ ‬مفارقات‭ ‬هذه... !!!‬؟؟؟/بقلم:د.محمّد الكحلاوي (جامعي تونسي)

حول‭ ‬طرح‭ ‬قضيّة‭ ‬الانتماء‭ ‬المذهبي‭ ‬لمؤسّسة‭ ‬الإفتاء‭ ‬في‭ ‬تونس‭:‬ أيّة‭ ‬مفارقات‭ ‬هذه… !!!‬؟؟؟/بقلم:د.محمّد الكحلاوي (جامعي تونسي)

قسم الأخبار

7 أكتوبر، 2023

الشارع المغاربي: لقد‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬غريبا‭ ‬للغاية‭ ‬وأمرا‭ ‬مفارقا‭ ‬لما‭ ‬ندّعي‭ ‬من‭ ‬تقدّم‭ ‬ومن‭ ‬زعمنا‭ ‬بأنّنا‭ ‬نسير‭ ‬على‭ ‬نهجه‭ ‬من‭ ‬نسق‭ ‬رقيّ‭ ‬وتحضّر،‭ ‬أن‭ ‬نبادر‭ ‬ونطرح‭ ‬للنقاش‭ ‬أمر‭ ‬الانتماء‭ ‬المذهبي‭ ‬لمفتي‭ ‬الجمهورية‭ ‬التونسية،‭ ‬تونس‭ ‬الدولة‭ ‬المدنية،‭ ‬التي‭ ‬تأسّست‭ ‬وفق‭ ‬نمط‭ ‬نموذجيّ‭ ‬للدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬الحديثة‭ ‬منذ‭ ‬فجر‭ ‬الاستقلال‭. ‬ولعلّه‭ ‬أكثر‭ ‬غرابة،‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الظرف‭ ‬وما‭ ‬يُطرح‭ ‬علينا‭ ‬من‭ ‬رهانات،‭ ‬أن‭ ‬ندعو‭ ‬إلى‭ ‬البتّ‭ ‬في‭ ‬انتماء‭ ‬المفتي‭ ‬المذهبي‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬فقه‭ ‬الشريعة‭ ‬وربّما‭ ‬مقالة‭ ‬العقيدة‭ ‬ونحلتها‭ ‬الكلامية‭. ‬إن‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬لدينا‭ ‬مختصّون‭ ‬أفذاذ‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الكلام‭ (‬علم‭ ‬أصول‭ ‬الدّين‭) ‬ومقالات‭ ‬الفرق‭ ‬الكلامية‭… ‬قلت‭: ‬والأغرب‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يطرح‭ ‬ذلك‭ ‬يرى‭ ‬أنّه‭ ‬يجب‭ ‬ان‭ ‬يكون‭ ‬مذهب‭ ‬سماحة‭ ‬المفتي‭ ‬مالكيا،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬سيتصدّر‭ ‬للفتيا‭ ‬على‭ ‬المذهب‭ ‬المالكي‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬يُفترض‭ ‬أنّه‭ ‬مالكي‭…‬

هكذا‭ ‬نرفع‭ ‬نحلة‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬المالكية‭ ‬عوض‭ ‬الانتماء‭ ‬بعقلانية‭ ‬إلى‭ ‬جوهر‭ ‬الدّين‭ ‬ولبّ‭ ‬الإسلام‭… ‬نطرح‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬التقدّم‭ ‬والرقيّ‭ ‬الفكري‭ ‬وبعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬التعليم‭ ‬والتربية‭ ‬على‭ ‬النقد‭ ‬والتطلّع‭ ‬إلى‭ ‬تجاوز‭ ‬للبنى‭ ‬الفكرية‭ ‬المغلقة‭ ‬والقراءة‭ ‬النقدية‭ ‬لمدوّنات‭ ‬التراث‭ ‬التي‭ ‬تعيق‭ ‬أمر‭ ‬تقدّم‭ ‬المجتمع‭ ‬وتربط‭ ‬الدّين‭ ‬بمعاقل‭ ‬تخلّف‭ ‬وبؤر‭ ‬صراع‭ ‬باسم‭ ‬نعرات‭ ‬المذاهب‭ ‬ومغالاة‭ ‬النحل‭ ‬وخطابات‭ ‬المفاضلة‭ ‬بينها‭… ‬فكيف‭ ‬نبادر،‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬كلّه،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نطرح‭ ‬للنقاش‭ ‬بل‭ ‬ندعو‭ ‬إلى‭ ‬البتّ‭ ‬رسميّا‭ ‬في‭ ‬قضيّة‭ ‬انتماء‭ ‬المفتي،‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬سند‭ ‬قانوني‭ ‬لذلك،‭ ‬فقط‭ ‬يأتي‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬سجالي‭ ‬لأجل‭ ‬الجدل‭ ‬العقيم‭ ‬الذي‭ ‬يزرع‭ ‬الفرقة‭ ‬ويشدّ‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬ويحيي‭ ‬تقاليد‭ ‬حوانيت‭ ‬الفرق‭ ‬العقدية‭ ‬والجماعات‭ ‬المذهبية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬ترسيخ‭ ‬عادة‭ ‬التديّن‭ ‬على‭ ‬أساسا‭ ‬المذهب‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬حرية‭ ‬الفكر‭ ‬والضمير‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬علاقة‭ ‬مباشرة‭ ‬بالدّين‭ ‬ذاته‭ (‬كتاب‭ ‬الله‭ ‬العزيز‭) ‬في‭ ‬سماحته‭ ‬وتعاليه‭ ‬على‭ ‬المذاهب‭ ‬جميعا‭. ‬

بل‭ ‬الأغرب‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬طرح‭ ‬مسألة‭ ‬المفتي،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬مسجّل‭ ‬ومنشور‭ ‬على‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬مسؤول‭ ‬عن‭ ‬أحد‭ ‬الأحزاب‭ ‬السياسية‭ ‬الكبرى،‭ ‬على‭ ‬الأقلّ‭ ‬كبرى‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬امتداد‭ ‬زمن‭ ‬ظهورها‭ ‬تاريخيّا‭ ‬إلى‭ ‬عقود‭ ‬خلت‭… ‬إنّك‭ ‬لتفاجئ‭ ‬أحيانا‭ ‬من‭ ‬مواقف‭ ‬شخصيات‭ ‬سياسية‭ ‬تعتقد‭ ‬أنّها‭ ‬وضعتإديولوجيا‭ ‬أحزابها‭ ‬استنادا‭ ‬إلى‭ ‬نظرة‭ ‬عميقة‭ ‬وثقافة‭ ‬واسعة‭ ‬ومتجدّدة،‭ ‬وتفاجئ‭ ‬أكثر‭ ‬عندما‭ ‬تجد‭ ‬أنّها‭ ‬تتبنّى‭ ‬طرحا‭ ‬تقليديا‭ ‬بخصوص‭ ‬النظرة‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭ ‬والتراث‭ ‬وإلى‭ ‬تصوّر‭ ‬علاقة‭ ‬الإنسان‭ ‬بالدّين‭ ‬وعلاقته‭ ‬بالخالق،‭ ‬أيضا‭ ‬علاقة‭ ‬الدّين‭ ‬بالفضاء‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وبروح‭ ‬العصر‭ ‬ومقتضيات‭ ‬تطوّر‭ ‬التاريخ‭ ‬لاسيما‭ ‬ما‭ ‬ظهر‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭…‬

إنّ‭ ‬إقحام‭ ‬مسألة‭ ‬الانتماء‭ ‬المذهبي‭ ‬للمفتي،‭ ‬واعتبارها‭ ‬شرطا‭ ‬لتوليه‭ ‬خطّ‭ ‬الإفتاء،‭ ‬مسألة‭ ‬لم‭ ‬تُطرح‭ ‬سابقا،‭ ‬لدى‭ ‬أهل‭ ‬الفتيا‭ ‬والعلم‭ ‬بالدين‭ ‬ولا‭ ‬لدى‭ ‬الجهات‭ ‬الرسمية‭ ‬التي‭ ‬تعيّن‭ ‬وتعزل‭.. ‬وحكاية‭ ‬أنّ‭ ‬المجتمع‭ ‬التونسي‭ ‬مالكي‭ ‬ليست‭ ‬معيارا‭ ‬ثابتا‭ ‬ودقيقا‭ ‬ولا‭ ‬نصّ‭ ‬عليها‭ ‬أي‭ ‬نصّ‭ ‬دستور،‭ ‬من‭ ‬دستور‭ ‬1959‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬وهي‭ ‬مجرّد‭ ‬تعبيرة‭ ‬يرفعها‭ ‬بعض‭ ‬المدرّسين‭ ‬والأئمة‭ ‬من‭ ‬الزيتونيين‭ ‬بدعوى‭ ‬التماسك‭ ‬والاعتدال‭ ‬وتعبيرا‭ ‬عن‭ ‬وحدة‭ ‬المذهب‭ ‬للمجتمع،‭ ‬ولدرء‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬به‭ ‬أهل‭ ‬المذهب‭ ‬واعتباره‭ ‬دخيلا‭.. ‬ولكّنه‭ ‬أمر‭ ‬لا‭ ‬يستقيم،‭ ‬إذ‭ ‬مجلة‭ ‬الأحوال‭ ‬الشخصية‭ ‬نهلت‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬أحكامها‭ ‬وقوانينها‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬المذهب‭ ‬المالكي،‭ ‬وكذلك‭ ‬مجلة‭ ‬العقود‭ ‬والالتزامات‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وهي‭ ‬مواثيق‭ ‬أسهم‭ ‬بقسط‭ ‬وافر‭ ‬في‭ ‬وضعها‭ ‬شيوخ‭ ‬دين‭ ‬من‭ ‬الزيتونيين‭ ‬خاصّة،‭ ‬وحتى‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الباياتالعثمانين‭: ‬شيخ‭ ‬الإسلام‭ ‬المالكي‭ ‬وشيخ‭ ‬الإسلام‭ ‬الحنفي‭ ‬تعدّ‭ ‬أمور‭ ‬تشريفات‭ ‬وتمثيل‭ ‬برتوكولي‭ ‬لا‭ ‬غير،‭ ‬لاسيّما‭ ‬أنّ‭ ‬البايات‭ ‬يفترض‭ ‬أنهم‭ ‬أحناف،‭ ‬وأكثر‭ ‬شيوخ‭ ‬الزيتونة‭ ‬يفترض‭ ‬أنهم‭ ‬مالكية‭…‬

وهكذا‭ ‬يبدو‭ ‬وجيها‭ ‬أن‭ ‬يعجب‭ ‬ويستغرب‭ ‬المرء‭ ‬من‭ ‬طرح‭ ‬بعضهم،‭ ‬لمثل‭ ‬هذه‭ ‬المسائل‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬تنتظمه‭ ‬دولة‭ ‬مدنية‭ ‬ومرجع‭ ‬تنظيم‭ ‬الحياة‭ ‬فيه‭ ‬القوانين‭ ‬ومبادئ‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وما‭ ‬يضمن‭ ‬الحرّيات،‭ ‬وهوما‭ ‬يعني‭ ‬أنّ‭ ‬من‭ ‬شروط‭ ‬التقدّم‭ ‬وحماية‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وتحرير‭ ‬الدّين‭ ‬الإسلامي‭ ‬ذاته،‭ ‬ضرورة‭ ‬تجاوز‭ ‬المذهبية‭ ‬الدينية،‭ ‬فالانتماء‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام‭ ‬وكما‭ ‬قال‭ ‬كبار‭ ‬علمائه‭ ‬من‭ ‬الأوائل‭ ‬إلى‭ ‬ابن‭ ‬عاشور‭ ‬واستنتجه‭ ‬أكبر‭ ‬مفكريه‭ ‬المجدّدين‭ ‬لا‭ ‬يشترط‭ ‬فيه‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬نحلة‭ ‬مذهبية‭.. ‬فالمفتي‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عالما‭ ‬مسلما‭.. ‬وحكاية‭ ‬نحن‭ ‬سنّة‭ ‬مالكية‭ ‬هي‭ ‬مجرّد‭ ‬شعارات‭ ‬شكلية‭ ‬يرفعها‭ ‬المتشدّدون‭ ‬والدعاة‭ ‬للإقصاء‭ ‬والتصفية‭ ‬والهيمنة‭ ‬على‭ ‬الشأن‭ ‬الدّيني،‭ ‬بدعوى‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى‭ ‬مرجعية‭ ‬دينية‭ ‬معتدلة‭ ‬نقية‭ ‬وفيّة‭ ‬لروح‭ ‬الإسلام‭ ‬وهي‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬المرجعيات‭ ‬المذهبية‭ ‬الأخرى،‭ ‬وهذا‭ ‬قول‭ ‬باطل‭ ‬لا‭ ‬أساس‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬الصحة‭ ‬ولم‭ ‬يصدّقه‭ ‬التاريخ،‭ ‬لكون‭ ‬السنّة‭ ‬المالكية‭ ‬هي‭ ‬مجرّد‭ ‬قراءة‭ ‬وتأويل‭ ‬وإفراز‭ ‬لحركة‭ ‬التاريخ‭ ‬ولأطر‭ ‬اجتماعية‭ ‬وسياسية،‭ ‬تأثّر‭ ‬علماؤها‭ ‬بالواقع‭ ‬وأوّلوا‭ ‬واستندوا‭ ‬إلى‭ ‬مدوّنة‭ ‬حديث‭ ‬رُويت‭ ‬ودوّنت‭ ‬وجمعت‭ ‬حسب‭ ‬شروطهم‭ ‬وفقه‭ ‬مذهبهم،‭ ‬ولم‭ ‬تقم‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬الدلائل‭ ‬اليقينية‭ ‬على‭ ‬صحة‭ ‬نسبتها‭ ‬إلى‭ ‬نبيّ‭ ‬الإسلام‭ ‬عليها‭ ‬أفضل‭ ‬الصلة‭ ‬والسلام‭… ‬فوقع‭ ‬ما‭ ‬وقع‭ ‬من‭ ‬الأخطاء‭ ‬والتجاوزات‭ ‬وقصر‭ ‬مجال‭ ‬الفهم‭ ‬ومحدودية‭ ‬أفق‭ ‬النظر،‭ ‬فالمالكية‭ ‬كغيرها‭ ‬من‭ ‬المذاهب‭ ‬الفقهية‭ ‬تمثيل‭ ‬فكري‭ ‬وموقف‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬معيّن‭ ‬تحكّمت‭ ‬فيه‭ ‬أطر‭ ‬ذاتيّة‭ ‬اجتماعية‭ ‬وسياسية‭ ‬معينة‭….‬،‭ ‬ولا‭ ‬يمثّل‭ ‬حتما‭ ‬جوهر‭ ‬الدّين‭ ‬ولا‭ ‬يعكس‭ ‬حقيقة‭ ‬الإسلام‭ ‬كلّه،‭ ‬الدّين‭ ‬الذي‭ ‬نزل‭ ‬دون‭ ‬مذاهب،‭  ‬وطلب‭ ‬منّا‭ ‬الله‭ ‬عزّ‭ ‬وجلّ‭ ‬أن‭ ‬ندين‭ ‬به‭ ‬دون‭ ‬تحيّز‭ ‬إلى‭ ‬أيّ‭ ‬مذهب‭ ‬أو‭ ‬نحلة‭…‬

*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 3 اكتوبر 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING