الشارع المغاربي-صالح مصباح:في حوار تلفزي، قال سياسي جزائري:” الجزائر تعتبر تونس أختا صغرى وولاية من ولايات الجزائر”. وزاد في الإكرام فقال:” هي ولاية مهمة جدا”. وزاد في المَنّ فقال:” الجزائر قدمت لها مساعدات(…) وتساعدها اليوم بالغاز”. وزاد في التعريف فقال:” تونس مهما كانت”.
ولا جدال في أن مرجع القائل هو تونس اليوم على أيام الرئيس”السعيد” المبنية، خُواء وتسوّلا، على أيام السطوة الإخوانية المباشرة. بيد أن الكلمات المفتاحية في القول تتضمّن إسقاط هذا الحاضر المُحدّد على ماض مُحدّد. ففي عهد “دايات” البلدين، كانت يَدُ دايات الجزائر هي اليد “الكبرى” ويَدُ دايات تونس هي “الصغرى”. كان كلا البلدين إيالة أو “جزءا” تابعا للأمبراطورية العثمانية.
وإنّ ذاك الإسقاط لهذا الحاضر التونسي الكئيب على ذلك الماضي الحزين يُماهي دستورَ رئيسنا. فمِن ذلك الماضي الذي تخيّره مرجعا “أخاذا مجيدا”، استلهم في دستوره “زمامَ” الأمور استلهاما مستصفى. فقد ضَنّ فيه على تونس بِكَينُونَةٍ لها قائمةٍ بذاتها، فأقرّها “جُزءا” من “كلّيات”ثلاثٍ ” تُثبتها”اللغةُ الزائفة وتنفيها الحقيقةُ الراسخة.
لقد “استصغر”صاحبُ القول بلادَنا واستكبر بلادَه. ولعل مرجعه المباشر في ذلك هو تفاصيل آخر زيارة أداها إلى بلاده رئيسُنا. لكن رئيسنا إنما “يستصغر”بلادنا استصغارا مُشتقّا من عقيدته الراسخة. فهي عنده “جزء”مِن “المغرب العربي” و”جزء” من “الأمة العربية” و”جزء” من “الأمة الإسلامية”. فكأنها ليست “أمة” قائمة بذاتها وإنما هي “فرع” مُقتَطَع مِن”كياناتٍ أصولٍ” فأضحت “جزءا” شريدا باحثا عن”أصوله” التي لا وجود له من دونها. لا بل كأنها لم تكن يوما واضحة المعالم والحدود ولم تكن حدودُها أرسخَ في التاريخ مِن حدود كل دول العالم وأدوَمها.
إن الثالوث الذي جعلنا “جزءا” منه رئيسُنا، وبصيغة ما صاحبُ القول، هو “هلاميات”. ومَن يعلم أنها وجود واضح المعالم والحدود والروابط فليسعفنا بالإثبات. وإن الجامع الضمني بين ثالوث هذه “الوحدات الهلامية” الواقرة في عقيدة رئيسنا هو مفهوم ” الخلافة”. إذ إليها، عثمانيةً وعربيةً وإسلاميةَ، خضع “المغربُ العربي الكبير”، ونشأت تحت رايتها السوداء اسبابُ ما سُمي”أمة إسلامية” وما صار يُسمّي “أمة عربية” اختلقَتها، طموحا طوباويا، عقيدةُ سياسية دارسة. على ذلك يتّسق، منطقًا لا حقيةً، “استصغارُ” تونس واعتبارُها “جزءا” أو “إيالة” أو “ولاية”.
إن قول السياسي الجزائري في بلادنا لا يُقبل ابدا، بصرف النظر عما استبطن أو نوى، وإن لاءم ذهنيا رأيَ رئيسنا فينا. وما بين شعبَي تونس والجزائر قلّما يُشبهُ ما بين غيرهما من الشعوب المتجاورة. ذلك أن الشعوب المتجاورة غالبا ما لا يحكم علاقاتِها الثنائيةَ الاعتدالُ ودوامُ الحال. إذ غالبا ما تتردّد تلك العلاقات، انفعالا غالبا، بين تمام التآخي والتكامل وتمام التصادم والتّجافي. ومن التّجافي تَستَملِحُ الشعوبُ المتجاورةُ تبادلَ التّنابزِ والنّكتِ الساخرة.
لكن الذي بين شعبَي تونس والجزائر تاريخ من التآخي لم تَشُبهُ شائبة. وأقرب حِلَق التاريخ إلينا، فضلا عن الحاضر، عهدُ مقاومة المستعمر الذي امتزجت فيه دماءُ الشعبين، ووجدت المقاومة الجزائرية في تونس المستقلة الملاذَ والأزرَ ودَفعَ الثمن .
لقد أساء صاحب القول التعبير في حق تونس والتقدير. فإذا كانت تونس”صغرى”، قياسا بالجزائر، بمعيارَي المساحة والسكان، فمتى كان المعياران معيارَي أهمية وريادة وسيادة ومنزلة في العالم؟ فمساحة سنغفورة أقل من 728 كلم مربع. وسكانها دون الستة ملايين. وهي قوة تكنولوجية وتجارية وصاحبة الميناء الأول عالميا من حيث النشاط، يَلِيه ميناء شنغاي في الصين التي مساحتها تفوق التسعة ملايين ونصف المليون كلم مربع، وعدد سكانها يقارب المليار ونصف المليار، ويلي هذا وذاك ميناء هونغ كونغ التي مساحتها 1114 كلم مربع وسكانها سبعة ملايين ونصف المليون.
وإذا قصد صاحب القول بصفة “الصغرى” معيار الزمن فقد أخطأ التقدير. فعُمُر الدولة التونسية يحتسب بآلاف السنين. والدولة التونسية، وإن أوهنها اليوم حكامُها، هي مسار في التاريخ متصل قرونا . وإذ اعتبر صاحبُ القول تونس “ولايةً جزائرية”، فقد أساء استقراءَ الحاضر واستنطاقَ التاريخ. فحاضر تونس هو حاضر دولة ذات سيادة و”أمة” نسج “وحدتها القومية” الزعيمُ الخالد بورقيبة نسجا متينا وإن انهالت عليه اليوم نصالُ تفتيت العُرى، وأحقادُ مَن تتالى عبثا مساخرُ تأسيسهم الناقضة لما سبق من الأسس.
وماضي تونس ينقض ما يراه اليوم صاحب القول. فعهد الدايات الذي ربما استبطنه وعيُه أو “لاوَعيُهُ” إنما كان حلقةً معزولةً، وكان مركزُ نفوذها “البابَ العاليَ”عاصمةً، وليس عنابة أو قسنطينة. لكنّ امبراطورية قرطاج امتدّت منا، عاصمةً، إلى جنوب إسبانيا مرورا بالجزائر والمغرب. وفي عهد الأغالبة كان شرق الجزائر تابعا لدولتهم التي عاصمتها القيروان. وفي عهد الفاطميين كان شرق الجزائر تابعا لدولتهم التي عاصمتها المهدية. فأيّ البلدين يَحقّ له، عند اقتضاء المماحكة، ان “يعتبر” الآخر “ولاية” من ولاياته !؟.
إننا لا نرتضي أن نزرع بذور التّجافي بين بلدين تجمع بين شعبيهما مودةُ يراها الآخرون مبعثَ إعجاب إلى حدّ الإذهال. وليس هذا اختلاقا بل شهادات سمعناها من أجانب وأظهرتها مواقف وأحداث. وبقدر ما نُحبّ أن نرى البلدين متعاونين متكاملين، لا نرتضي اقوالا أو مواقف لا تعتبر بلادنا أمةً تونسية وشعبا سيد نفسه ودولةً حُرّة ذات سيادة. ولئن ألحق بنا اليوم حكامُنا بعضَ الهوان في الإثنتي عشرة سنة هذه، فذاك شأننا الداخلي. ونحن التونسيين قادرون عاجلا أو آجلا على أن نُصوّب قَدَرَنا.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 19 جويلية 2022