الشارع المغاربي – محمد بوعود : استغرب كثير من المتابعين من الجملة التي وردت في كلمة رئيس الحكومة الأسبوع الفارط والتي قال فيها أن ما أنجزته حكومته خلال سنتين في مكافحة الفساد لم تنجزه كل حكومات تونس منذ أكثر من ستين سنة. قبل كل شيء هل يجوز الحديث عن وجود فساد في عهد الزعيم بورقيبة؟ باستثناء حالة أو حالتين معروفتين من الجميع وقريبة من دوائر بورقيبة العائلية لم تكن الدولة التونسية لتُعرف من بين الأنظمة الفاسدة، بل بالعكس كانت شهادات المؤسسات العالمية المعنية بمتابعة درجة الشفافية لدول العالم تأتي مشيدة بنظافة النظام التونسي، وحتى التونسيين كانوا في تلك الحقبة حاملين جملة من السلوكيات تأبى الفساد ومشتقاته.
يذكر أن المظاهرات الشعبية المناصرة لبورقيبة في خصامه التاريخي مع الزعيم جمال عبد الناصر كانت تغني بنظافة تونس مقارنة بالبقشيش المصري… فالحديث عن عجز الحكومات البورقيبية المتتالية في محاربة الفساد كما استبطنه خطاب يوسف الشاهد لا يخلو من سذاجة وهو أقرب إلى الجهل والاستخفاف بالتاريخ من شيء آخر.
أما الحقبة النوفمبرية فإن دخلت تونس منذ بدايتها في اكتشاف الفساد والتطبيع مع آفاته رويدا رويدا فلا يجوز القول بأنه عمّ واستشرى كما هو الشأن اليوم. صحيح أن بن علي أثّث آليات حوكمته على الممارسة المتعمدة للفساد الاّ أنها كانت ممارسة عمودية على عكس ما نعيشه اليوم من أفقية هذه الممارسة وتمرد الفاسدين عن المساءلة والمحاسبة والعقاب… وحتى إذا سلّمنا جدلا بعجز الحقبة النوفمبرية على مكافحة الفساد يكون كلام يوسف الشاهد عبثيا بامتياز لحشره النظام البورقيبي في ذات العجز.
لهذه الأسباب أثارت كلمة رئيس الحكومة استغراب الجميع، ومردّ الاستغراب والتعجّب، بل وحتى الدهشة، أن لا شيء يشير إلى أن الحكومة الحالية، وخلال السنتين الراهنتين، تقاوم الفساد، أو حتى تحاول مقاومته والحدّ منه، اللهم في الخطاب الإعلامي، الذي يبدو أنه استساغ كلمة مكافحة الفساد، ووجد أنها تؤثّر في الرأي العام وتثير الإعجاب، فأصبح يزجّها في كل مداخلة وفي داخل كل خطاب، بل وحوّلها إلى شعار ترفعه الحكومة على أساس أنه هدف سامي تعمل على تحقيقه.
يذكر التونسيون عرضا، ومن وقت بعيد مضى، أن رئيس الحكومة يوسف الشاهد بدأ ذات يوم في مكافحة الفساد، بل فيهم من يفاخر الى اليوم بأن رئيس الحكومة وضع شفيق جراية في السجن، وألقى القبض على مهربين من بنقردان والجم وجمال والقصرين، وأنه حلّ وزارة الطاقة بأكملها من اجل وضعية استغلال غير قانوني لبئر نفط في بحر المنستير، والقى بكاتب الدولة للمناجم في السجن من أجل شبهة ارتشاء.
لكن تلك الاحداث تحوّلت وكأنها ذكريات من ماض بعيد، فمن وقتها توقّف مجهود مكافحة الفساد، وكأن الفساد قد قُضي عليه بمجرد وضع هؤلاء في السجون، وهم الذين أطلق سراحهم تباعا ولم يبق منهم في السجن الا رجل الاعمال المثير للجدل جراية، والذي لم تتجرأ الدولة وتوجّه له حتى تهمة الفساد، بل تحتفظ به في قضايا تتعلق بالتخابر مع جيش أجنبي أو خيانة وغير ذلك من التهم التي لا علاقة لها بالفساد.
الارقام التي قع تداولها أحيانا من بعض الخبراء والمختصين والهيئات المختصة في مكافحة هذه الافة، تبدو رهيبة، بل انها أحيانا تقارب الخيال. القاضي أحمد صواب، سبق وأن أورد رقما يقارب الخمسين ألف مليار قال أنها ضاعت على الدولة التونسية ما بين تهرّب جبائي وتصاريح جبائية مغشوشة وغيرها من مظاهر الفساد الذي يحرم الدولة من مبالغ بهذا الحجم، تبدو احيانا غير مقبولة ولا يمكن حتى تخيّلها.
ولم تتقدم تونس في التصنيف العالمي حول مؤشّر الفساد لسنة 2018 الا بدرجة واحدة، حيث احتلت المرتبة 73 من جملة 180 دولة يشملها التصنيف، واحتفظت بالمرتبة السابعة على المستوى العربي، وهو ما يؤكّد أن حديث الحكومة عن مكافحة الفساد، اما أنه مجرد كلام لا يقع تطبيقه أو أنه خطاب للاستهلاك الاعلامي فقط.
الاستاذ شوقي الطبيب، رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد سبق وأن عبّر في كل المناسبات تقريبا عن تخوفه من البطء في التعاطي القضائي مع ملفات الفساد، وقال أن هيئته قد احالت الى القضاء مئات الملفات لكن لم يقع البتّ فيها الى اليوم.
ويرى مراقبون أن السلطات في تونس تكاد تقتسم الفساد بالتساوي، فكل سلطة لها مجموعة من الفاسدين المتنفّذين الذين تحميهم، والذين لا يمكن أن يطالهم العقاب الرادع لأنهم ببساطة محسوبين على هذه السلطة أو تلك.
فخلال السنتين اللتين قال الشاهد أن تونس كافحت فيهما الفساد كما لم تكافحه من قبل، بدأ يتكرّس شيئا فشيئا مبدأ “الفساد القطاعي” الذي استحكم خاصة لدى السلطات الأربعة، التي فيها مراكز قوى يمكن أن نطلق على البعض منها حتى تسمية “الراعي الرسمي” للفساد.
السلطة الأصلية، مجلس نواب الشعب، لا يمرّ عليه اسبوع دون أن يعيش على وقع اتهامات بالفساد، لنواب فيه، وتخرج منها أحاديث عن ملفات ضخمة، وعن تدخّلات ووساطات ومحسوبية وحتى رشوة، وقضاء مصالح بمقابل وغير ذلك من التّهم التي يتداولها النواب عن بعضهم بعضا، او التي يجري تداولها خارج المجلس.
آخر الأخبار الواردة من قصر باردو تقول أن تتبعات عدلية مفتوحة ضدّ أكثر من 30 نائبا وأن أسماء أغلبهم وردت في قضايا منشورة أمام القطب القضائي المالي. مجلس النواب استطاع أن يحصّن الفاسدين فيه من خلال جملة وردت في نظامه الداخلي، وتحديدا في الفصل المتعلّق برفع الحصانة، حيث أضاف عباقرة القانون هذه الكلمات “ولا يمكن رفع الحصانة عن النائب الا متى تمسّك بها كتابيا”، وهذا هو الفخّ الذي نصبه المشرّعون، حيث أن الجهات المعنية ومتى مرّ أمامها اسم أحد النواب في قضيّة معيّنة، تراسل مباشرة مكتب مجلس النواب طالبة رفع الحصانة عنه من أجل المثول أمامها، فيرد المجلس بسؤال: وهل تمسّك النائب بحصانته كتابيا وأرسل لكم رسالة مكتوبة مفادها أنه لن يحضر؟ وهنا يسقط في يد الجهات المختصة التي تتصل بالنائب فيرفض الحضور ويرفض أيضا التمسّك كتابيا بعدم الحضور، فيضيع حق المشتكي وترقد القضية في رفوف المحاكم أو في القطب القضائي، رغم الحديث عن أن نوابا عديدين يتوجّهون الى القضاء اذا طُلب منهم ذلك، لكن دون رفع الحصانة، اي انهم يحضرون فقط للتعرّف على القضية وعلى من رفعها وأورد اسمائهم فيها. السلطة الثانية، الحكومة، والتي ترفع شعار مكافحة الفساد وتعتبره من أولوياتها، تتعرَّض بدورها الى انتقادات لاذعة في هذا المجال، بل ان كثيرين لا يعتبرون الحكومة صادقة في هذا المنحى، خاصة من نواب المعارضة، كالسيدة سامية عبّو، التي قالت أنها تمتلك ملفات موثّقة عن فساد كبير ينخر قصر القصبة، وتحدّثت بالخصوص عن أحد ضباط الديوانة الذي تعلّقت به قضايا بمئات المليارات ولازال مستشارا لدى رئيس الحكومة، بل تقول أنه عيّنه في لجنة مكافحة الفساد، وان كانت الحكومة لم تردّ على ذلك، واكتفت بردّ من ادارة الديوانة، نفت فيه ذلك جملة وتفصيلا.
ولا يقتصر النقد على النواب او على سامية عبو فقط، بل ان جمعيات كثيرة تتهم الحكومة بالتستر على الفساد، مثل جمعية أنا يقظ التي رفعت شكاية ضد رئيس الحكومة تتهمه فيها بالتدخل لدى الاتحاد الاوروبي للافراج عن اموال مشبوهة تعود الى رجل الاعمال القريب من القصبة، مروان المبروك. في الوقت نفسه تتحدث مصادر اعلامية عديدة عن فساد حتى لدى المقرّبين جدا من رئيس الحكومة، وتذكر بالخصوص الوزير السابق والصديق الشخصي للشاهد، مهدي بن غربية، وتذكر أيضا رياض الموخّر الكاتب العام للحكومة، لكن لا أحد منهم مثل أمام القضاء الى حدّ الان، أو فنّد علنا ما يُقال. السلطة الثالثة، رئاسة الجمهورية، تتعرّض بدورها لانتقادات عديدة في مجال الفساد، حيث قال الناشط السياسي الاستاذ لزهر العكرمي في عديد المناسبات، وفي حوارات تلفزية مباشرة، ان عائلة الرئيس، وخصوصا ابنه وزوجة ابنه لهم نشاطات مالية مشبوهة. وهو ما تطرّق اليه ايضا الاستاذ عبد الستار المسعودي، القريب جدا من القصر، والذي يُعتبر مع العكرمي من أصدقاء رئيس الجمهورية، وبالتالي فحديثهم لا يمكن ان يكون من فراغ، وان كانت جمعيات الشفافية والمجتمع المدني لا تركّز كثيرا على الاسماء العائلية، بل فقط على تدخّلات من الرئاسة، وخاصة فيما مسألة العفو الخاص الذي أصدره رئيس الجمهورية على الناشط السابق برهان بسيس، والذي رأت فيه هذه الجمعيات أن الرئيس قد خرق أحكام القضاء، لان المسألة تتعلّق بشبهة فساد في شركة صوتيتال، وان لم تعترض على حقّ الرئيس دستوريا في استعمال العفو.
السلطة الرابعة، القضاء، لا يخلو بدوره من اتهامات بالفساد، بل ان كثيرين يعتبرون أنه قطاع مورّط في الفساد، وان بدرجات، وأن كثيرا من القضايا كان يمكن حسمها، لكن أصحابها من ذوي النفوذ المالي والسياسي، فتتعطّل في أدراج المحاكم، بل كثيرا ما يجدون لها ثغرات من اجل أن لا يُطبّق القانون على هؤلاء. وان كان الجميع يحاول ان يتجنّب عادة ذكر أسماء قضاة، أو كيل اتهامات إلى الجهاز ككل، الا ان الجميع ايضا لا ينكر، بمن فيهم القضاة أنفسهم، ان هناك اخلالات كبرى تعيق النزاهة والشفافية والالتزام الصارم بخدمة العدالة، في هذا القطاع، الذي يبدو انه تورّط كما سائر القطاعات، ودخل دوامة الفساد التي ليس من السهل الخروج منها.
وبذلك يمكن الاستنتاج بأن الفساد قد عمّ كل القطاعات والسلطات أيضا، وهو ما يعني انه أصبح أخطبوطا قادرا على توفير “دولة” بكاملها لحماية مصالحه، والسهر على مزيد نموّه وتغلغله في كل المفاصل.
صدر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الأخير.